فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن هذا الإسلام سياج الحياة للعرب الذين حملوه للناس، وبلسانهم نزل كتابه- وهم إذا أخلصوا له- صاروا العالم الأول! وأمسوا قادة الأرض. فهذا الكتاب صحح ما عرا الديانات الأولى من أخطاء، ورسم للناس كافة المنهاج الذي يكسبون به الحياتين، فليس في رسالة موسى وعيسى وغيرهما أن لله شركاء وشفعاء. {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}؟ وإطفاء لفتنة الغنى والملك والجبروت، ساق الله هنا قصة فرعون مع موسى. إن فرعون لم يكن عمدة لبلدة كالطائف، بل كان ملكا لمصر مهد الحضارات ومجرى النيل العظيم، وقد جاء موسى يطلب منه أن يؤمن بالله ويكف مظالمه عن المستضعفين.
ولكن الرجل المغرور أبى {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}؟ وكذب فرعون موسى وطارده وقومه حتى بلغوا البحر الأحمر. وعبر بنو إسرائيل البحر يقودهم موسى، وأراد فرعون اللحاق بهم فغرق ومن معه جميعا ولما أحس فرعون الغرق: {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}.
عن ابن عباس، لما أغرق الله فرعون ونطق بكلمة التوحيد جعل جبريل يأخذ من طين البحر المستقر في قعره ويدسه في فمه، ثم لفظت الأمواج جثة الملك السابق، ورأى الناس على شاطى البحر رفاتا مكسوا بالوحل وفما مليئا بالطين! أين أساور الذهب في معصميه؟ اختفت مع الألوهية المزورة. وهكذا يختفى المبطلون من مغانى الحياة الدنيا لتستقبلهم عرصات الحساب في الدار الآخرة! إن حقائق الرجولة شىء والأساور والقلادات شىء آخر! أذكر أنى رأيت رجلا عملاقا يرتدى الزى الفرنجى، وسلسلة من الذهب تلتف حول عنقه الغليظ. فاستغربت لأن عهدى بالذهب أنه حلية النساء. سألت رجلا يعرف هذا العملاق، ما خلقه؟ فقال قليل الوفاء كثير الملق! قلت: هذا هو الظن به، وتذكرت قول الشاعر:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ** جسم البغال وأحلام العصافير

وطوت السورة قصة موسى وفرعون لتذكر بعدها شيئا من سيرة عيسى بن مريم الذي زعم البعض أنه إله. فقد شغب بعض هواة الجدل، وأثاروا لغطا حول مصيره عندما قال تعالى للمشركين: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}. وبديهة اللغة والعقل أن الآية في الأصنام المعبودة، فجبريل الذي عبد إلها ثالثا باسم الروح القدس، وعيسى الذي عبد إلها ثانيا باسم الإله الابن لا صلة لهما بالآية، وكلمة (ما) في {إنكم وما تعبدون} لغير العقلاء. ولذلك قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}.
وعيسى بلا ريب من سادات أهل الجنة، ويظهر أن فتنة مولده من غير أب رشحت لاعتباره ابنا لله!! وأشاعت ذلك في أقطار كثيرة، فشاء الله أن يعيده إلى الأرض مرة أخرى ليكذب بنفسه أنه إله ويؤكد أنه عبد مرسل. وهذا معنى الآية {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم}. وقد تواترت السنن على نزول عيسى وانضمامه إلى العالم الإسلامى مؤكدا رسالة التوحيد.. إن الناس قسمان: عارف بالله معرفة صحيحة، أو مفتر عليه، والفصل بينهما ليس هنا. ولذلك جاء على لسان عيسى {إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}. وعند قيام الساعة يقال للمؤمنين {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}. أما غيرهم فلهم مصير أسود {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون}.
لقد كانوا في الدنيا يكيدون للحق ويمكرون بأهله فماذا جنوا؟ {أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون}. وذلك كقوله: {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}. إن جماهير كثيرة توارثت الضلال وأصرت عليه، وعلى الدعاة أن يثابروا في إرشادهم دون يأس أو ملل، ولذلك ختمت السورة بهاتين الآيتين {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.تفسير الآيات (1- 8):

قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعلي من شاء وإن طال سفوله (الرحمن) الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده (الرحيم) الذي يقبل بمن شاء إلى ما يقربه لديه زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى (حم) حكمة محمد التي أوحاها الله إليه.
ولما قدم آخر تلك أنه جعل ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم نورًا يهدي به من يشاء، وكان قد تقرر في السورة الماضية ما له من الجلالة بأناه تنزيله، وختم بأنه لا أمر يخرج عنه سبحانه إشارة إلى أنه يردهم عن غيبهم وكانوا يمكرون أن يرجعوا، فاقتضى الحال غاية التأكيد، وكان إقسام الله تعالى بالأشياء إعلامًا بجلالة ما فيها من الحكم وتنبيهًا على النظر فيما أودعها من الأسرار التي أهلها للإقسام بها، افتتح هذه بتعظيم هذا الوحي بالإقسام به حثًا على تدبر ما فيه من الوجوه التي أوجبت أن يكون قسما ًثم تعظيم أثره.
فقال: {والكتاب} أي وإعجاز هذا الجامع لكل خير وغير ذلك من أنواع عظمته {المبين} أي البين في نفسه، المبين لجميع ما فيه من العظمة والشرائع والسنن، واللطائف والمعارف والمنن، بيانًا عظيمًا شافيًا.
ولما كانوا ينكرون أن يرجعوا به عما هم فيه، وأن يكون من عند الله، أكد ما يكذبهم من قوله فيما مضى آخر الشورى أنه نور وهدىً وروح معبرًا بالجعل لذلك دون الإنزال لأنه قد دل عليه جميع السور الماضية تارة بلفظه وأخرى بلفظ الوحي، فقال مقسمًا بالكتاب على عظمة الكتاب، قال السمين: ومن البلاغة عندهم كون القسم والمقسم عليه من واد واحد، وهذا إن أريد بالكتاب القرآن فإن أريد به أعم منه كان بعض القسم به، وصرف القول إلى مظهر العظمة تشريفًا للكتاب: {إنا جعلناه} أي صيرناه ووضعناه وسميناه مطابقة لحاله بالتعبير عن معانيه بما لنا من العظمة {قرآنا} أي مع كونه مجموع الحروف والمعاني جامعًا، ومع كونه جامعًا فارقًا بين الملتبسات {عربيًا} أي جاريًا على قوانين لسانهم في الحقائق والمجازات والمجاز فيه أغلب لأنه أبلغ ولا سيما الكنايات والتمثيلات، وصرف القول عن تخصيص نبيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب إلى خطابهم تشريفًا له صلى الله عليه وسلم ولهم فيما يريده بهم وتنبيهًا على سفول أمرهم في وقت نزولها فقال: {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا أيها العرب على رجاء عند من يصح منه رجاء من أن تعقلوا أنه من عندنا لم تبغوا له أحدًا علينا وتفهموا معانيه وجميع ما في طاقة البشر مما يراد به من حكمه وأحكامه، وبديع وصفه ومعجز وصفه ونظامه، فترجعوا عن كل ما أنتم فيه من المغالبة، ولابد أن يقع هذا الفعل، فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه، ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق، وسيبلغ هذا الجامع أقصاكم كما عرض على أدناكم وكل منكم يعلم أنه عاجز عن مباراة آية منه في حسن معناها، وجزالة ألفاظها وجلالة سبكها، ونظم كل كلمة منها بالمحل الذي لا يمكن زحزحتها عنه بتقديم ولا تأخير، ولا أن يبدل شيء منها بما يؤدي معناه أو يقوم مقامه، كما أن ذلك في غاية الظهور في موازنة {في القصاص حياة} [البقرة: 179] مع (القتل أنفى للقتل) وذلك بعض آية فكيف بآية فما فوقها فتخضع له جبابرة ألبابكم وتسجد له جباه عقولكم، وتذل لعزته شوامخ أفكاركم، فتبادرون إلى تقبله وتسارعون إلى حفظه وتحمله علمًا منكم بأنه فخر لكم لا يقاربه فخر، وعز لا يدانيه عز، ثم يتأمل الإنسان منكم من خالفه فيه من بعيد أو قريب ولد أو والد إلى أن تدين له الخلائق، وتتصاغر لعظمته الجبال الشواهق، والآية ناظرة إلى آية فصلت: {ولو جعلناه قرآنا أعجميًا لقالوا} الآية [فصلت: 44].
ولما كانوا ينكرون تعظيمه عنادًا وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات، قال مؤكدًا لذلك وتنبيهًا على أنه أهل لأن يقسم به، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبه، بل ولا يدانيه بوجه: {وإنه} أي القرآن، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتمامًا بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده {في أم الكتاب} أي كائنًا في أصل كل كتاب سماوي، وهو اللوح المحفوظ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال مرتبًا للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده {لدينا} على ما هو عليه هناك {لعليّ}.
ولما كان العلي قد يتفق علوه ولا تصحبه في علوه حكمة، فلا يثبت له علوه، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه، قال: {حكيم} أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخًا لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه، ولا يبارى في حكيم معناه، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء، إلا بتفهيم العلي الكبير، الذي هو على كل شيء قدير.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [الشورى: 14] ووصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتبري من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال: {ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} الآية [الشورى: 15] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيًا} [الشورى: 7] وقوله: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا}- إلى آخر السورة، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به، أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} ولما قدم في الشورى قوله: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا} فأعلم أن ذلك إنما يكون بقدرته وإرادته، والجاري على هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلًا ظل وجهه مسودًا وهو كظيم} فكمل الواقع هنا بما تعلق به، وكذلك قوله تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} وقوله في الزخرف {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة} إلى آخره- انتهى.
ولما أفهم تكرير هذا التأكيد أنهم يطعنون في علاه، ويقدحون في بديع حلاه، فعل من يكرهه ويأباه، إرادة للإقامة على ما لا يحبه الله ولا يرضاه، قال منكرًا عليهم: {أفنضرب} أي نهملكم فنضرب أن ننحي ونسير مجاوزين {عنكم} خاصة من بين بني إبراهيم عليه الصلاة والسلام {الذكر} أي الوعظ المستلزم للشرف {صفحًا} أي بحيث يكون حالنا معكم حال المعرض المجانب بصفحة عنقه، فلا نرسل إليكم رسولًا، ولا ننزل معه كتابًا فهو مفعول له أي نضرب لأجل إعراضنا عنكم، أو يكون ظرفًا بمعنى جانبًا أي نضربه عنكم جانبًا، قال الجامع بين العباب والمحكم: أضربت عن الشيء: كففت وأعرضت، وضرب عنه الذكر وأضرب عنه: صرفه، وقال الإمام عبد الحق في الواعي: والأصل في ضرب عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابته فأراد أن يصرفه عن جهته ضربه بعصاه ليعدله عن جهته إلى الجهة التي يريدها، فوضع الضرب في موضع الصرف والعدل، قال الهروي: قال الأزهري: يقال: ضربت عنه وأضربت بمعنىّ واحد، ونقل النواوي عنه أنه قال: إن المجرد قليل، فالحاصل أن الضرب إيقاع شيء على آخر بقوة، فمجرده متعد إلى واحد، فإن عدي إلى آخر بـ: (عن) ضمن معنى الصرف، وإذا زيدت همزة النقل فقيل: أضربت عنه، أفادت الهمزة قصر الفعل، وأفهمت إزالة الضرب، فمعنى الآية: أفنضرب صارفين عنكم الذكر صفحًا، أي معرضين إعراضًا شديدًا حتى كأنا ضربنا الذكر لينصرف عنكم معرضًا كإعراض من ولى إلى صفحة عنقه، ثم علل إرادتهم هذا الإعراض بما يقتضي الإقبال بعذاب أو متاب فقال: {أنْ} أي أنفعل ذلك لأن {كنتم قومًا مسرفين} أي لأجل أن كان الإسراف جبلة لكم وخلقًا راسخًا، وكنتم قادرين على القيام به في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقدح فيما يأتي به والاستهزاء بأمره بترككم خشية من شدتكم أو رجاء من غير تذكير لتوبتكم وقد جعل حينئذ المقتضى مانعًا، فإن المسرف أجدر بالتذكير وأحوج إلى الوعظ، هذا إن كان مقربًا، وأما البعيد فإنه لا يلتفت إليه من أول الأمر، بل لو أراد القرب طرد، وعلى قراءة نافع وحمزة والكسائي بكسر (إن) على كونها شرطية يكون الكلام مسبوقًا على غاية ما يكون من الإنصاف، فيكون المعنى: أنترككم مهملين فننحي عنكم الذكر والحال أنكم قوم يمكن أن تكونوا متصفين بالإسراف، يعني أن المسرف أهل لأن يوعظ ويكلم بما يرده عن الإسراف، وأنتم وإن ادعيتم أنكم مصلحون لا تقدرون أن تدفعوا عنكم إمكان الإسراف فكيف يدفع عنكم إنزال الذكر الواعظ وأنتم بحيث يمكن أن تكونوا مسرفين فتحتاجوا إليه- هذا ما لا يفعله حكيم في عباده، بل هو سبحانه للطفه وزيادة بره لا يترك دعاء عباده إلى رحمته وإن كانوا مسرفين قد أمعنوا في الشراد، والجحد والعناد، فيدعوهم بأبلغ الحجة، وهو هذا القرآن الذي هو أشرف الكتاب على لسان هذا النبي الذي هو أعظم الرسل ليهتدي من قدرت هدايته وتقوم الحجة على غيره.
ولما كان المعنى أن لا نترككم هملًا، كان كأنه قيل: هيهات منكم فلنرفعنكم كما رفعنا بني إسحاق من إسرائيل وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فلقد أرسلنا إليكم مع أنكم أعلى الناس رسولًا هو أشرفكم نسبًا وأزكاكم نفسًا وأعلاكم همة وأرجحكم عقلًا وأوفاكم أمانة وأكرمكم خلقًا وأوجهكم عشيرة، فعطف قوله تأنيسًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسية وتعزية وتسلية: {وكم أرسلنا} أي على ما لنا من القدرة على ذلك والعظمة الباهرة المقتضية لذلك.
ولما كان الإرسال يقع على أنحاء من الأشكال، ميزه بأن قال: {من نبي في الأولين} ثم حكى حالهم الماضية إشارة إلى استمرار حال الخلق على هذا فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يأتيهم} وأغرق في النفس بقوله: {من نبي} أي في أمة بعد أمة بعد أمة وزمان بعد زمان {إلا كانوا} أي خلقًا وطبعًا وجبلة {به يستهزءون} كما استهزأ قومك، وتقديم الظرف للإشارة إلى أن استهزاءهم به لشدة مبالغتهم فيه كأنه مقصور عليه.
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال: {فأهلكنا} وكان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر الضمير بيانًا لما كان في الأولين من الضخامة صارفًا أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالًا على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغًا في وعيدهم فقال: {أشد منهم} أي من قريش الذي يستهزئون بك {بطشًا} من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى.