فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} ذكر الكناية لأنه ردّه إلى ما في قوله: {ما تَرْكَبُونَ}؛ قاله أبو عبيد.
وقال الفرّاء: أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند؛ فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس.
الثانية قال سعيد بن جبير: الأنعام هنا الإبل والبقر.
وقال أبو معاذ: الإبل وحدها؛ وهو الصحيح لقوله عليه السلام: «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لَمْ أخلق لهذا إنما خلقت للحرث فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» وما هما في القوم.
وقد مضى هذا في أوّل سورة (النحل) مستوفى والحمد لله.
الثالثة قوله تعالى: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا، ولأن الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكَرهما جميعًا في أوّل الآية وعطف آخرها على أحدهما.
ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها؛ لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهرًا؛ لأنه انكشف للظاهرين وظهر للمبصرين.
الرابعة قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي ركبتم عليه وذِكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر.
{وَتَقولواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} أي ذلّل لنا هذا المركب.
وفي قراءة عليّ بن أبي طالب {سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذَا}.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين؛ في قول ابن عباس والكلبي.
وقال الأخفش وأبو عبيدة: {مُقْرِنِينَ} ضابطين.
وقيل: مماثلين في الأيد والقوّة؛ من قولهم: هو قِرن فلان إذا كان مثله في القوّة.
ويقال: فلان مُقْرِن لفلان أي ضابط له.
وأقرنت كذا أي أطقته.
وأقرن له أي أطاقه وقوِي عليه؛ كأنه صار له قِرْنًا.
قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين.
وأنشد قُطْرُب قول عمرو بن مَعْدِيَكرِب:
لقد علم القبائل ما عُقيلٌ ** لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر:
ركبتم صَعْبَتي أشَرًا وَحَيْفًا ** ولستم للصّعاب بمقرنينا

والمُقْرِن أيضًا: الذي غلبته ضَيعته؛ يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقِي إبله ولا ذائد له يذودها.
قال ابن السِّكّيت: وفي أصله قولان: أحدهما أنه مأخوذ من الأقران؛ يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق.
وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته؛ كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشدّه.
والثاني أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير؛ يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه.
الخامسة علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن؛ وهي قوله تعالى: {وَقال اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] فكم من راكب دابة عثرت به أو شَمَسَت أو تَقَحّمت أو طاح من ظهرها فهلك.
وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرِقوا.
فلما كان الركوب مباشرةَ أمرٍ محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألاّ ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه.
ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدًا للقاء الله بإصلاحه من نفسه.
والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه.
حكى سليمان بن يسار أن قومًا كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي التي لا تتحرّك هزالًا، (الرازم من الإبل: الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال. أو قد رَزَمت الناقة تَرْزُم وترزِم رزومًا ورزامًا: قامت من الإعياء والهزال فلم تتحرك؛ فهي رازم. قاله الجوهري في الصحاح).
فقال: أمّا أنا فإني لهذه لمقرِن، قال: فقمصت به فدقت عنقه.
وروي أن أعرابيًا ركب قعودًا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود حتى صرعته فاندقّت عنقه.
ذكر الأوّل الماوردي والثاني ابن العربي.
قال: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان؛ فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر، وكآبة المنقلَب، والجَوْر بعد الكَوْر، وسوء المنظر في الأهل والمال؛ يعني بـ: (الجور بعد الكور) تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه.
وقال عمرو بن دِينار: ركبت مع أبي جعفر إلى أرضٍ له نحو حائط يقال لها مدركة، فركب على جمل صَعْب فقلت له: أبا جعفر! أما تخاف أن يصرعك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله» وقال عليّ بن ربيعة: شهدت عليّ بن أبي طالب ركب دابة يومًا فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ثم قال: الحمد لله والله أكبر ثلاثًا اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ ثم ضحك فقلت له: ما أضحكك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال كما قلت؛ ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «العبد أو قال عجبًا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره» خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبد الله محمد بن خُوَيْزِمَنْدَاد في أحكامه.
وذكر الثعلبيّ نحوه مختصرًا عن عليّ رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «باسم الله فإذا استوى قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والأنعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين» وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من ركب ولم يقل {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قال له الشيطان تَغَنَّه؛ فإن لم يحسن قال له تمنّه؛ ذكره النحاس.
ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالَوْا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق؛ فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يستقون حتى تُمَلّ طِلاهم وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره.
الزَّمخشِريّ: ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يَصْحُ إلا بعدما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به؛ فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر الله به في هذه الآيةا؟. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}.
عطف على الخطاب السابق والآيتان أعني قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا} [الزخرف: 6، 7] اعتراض لإفادة التقرير والتسلية كما سمعت، والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليسندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه، وهذا حسن وله نظير عرفًا وهو أن واحدًا لو أخبرك أن الشيخ قال كذا وعنى بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت: إن فلانًا أخبرني أن شمس الأئمة قال: كذا مع أن فلانًا لم يجر على لسانه إلا الشيخ ولكنك تذكر ألقابه وأوصافه فكذا ههنا الكفار يقولون: خلقهن الله لا ينكرون ثم أن الله عز وجل ذكر صفاته أي أن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السموات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت، وقال ابن المنير: إن {العزيز العليم} من كلام المسؤولين وما بعد من كلامه سبحانه.
وفي (الكشف) لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمته وإن لم يكن قد تفوهوا به، وهذا كما يقول مخاطبك: أكرمني زيد فتقول: الذي أكرمك وحياك أو لجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامك بكلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله، والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذٍ يقع الالتفات في {فَأَنشَرْنَا} [الزخرف: 11] بعد موقعه، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} إلى قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّن نبات شتى} [طه: 53] وفي إعادة الفعل في الجواب اعتناءً بشأنه ومطابقته للسؤال من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال: لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال: العزيز العليم خلقهن.
{الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} مكانًا ممهدًا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم، وعن عاصم أنه قرأ {مهادا} بدون ألف {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} طرقًا تسكلونها في أسفاركم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بسلوكنها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي.
{والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ} أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عز وجل، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالاودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقًا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلًا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف.
وفي (البحر) بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل، والأول أولى {فَأَنشَرْنَا بِهِ} أي أحيينا بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتًا} خالية عن النماء والنبات بالكلية.
وقرأ أبو جعفر وعيسى {مَيْتًا} بالتشديد، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان، قال الجلبي: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير {مَيْتًا} إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية.
والالتفات في {أنشرنا} إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره {قال كذلك} أي مثل ذلك الإنشار الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي إنشارًا كذلك {تُخْرَجُونَ} أي تبعثون من قبوركم أحياء، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه.
وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان {تُخْرَجُونَ} مبنيًا للفاعل.
{والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى وقيل: كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزه عن المقابل هو الله عز وجل، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر.
ولعل من قال: كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جل شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلًا ولا خارجًا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} أي ما تركبونه، فما موصولة والعائد محذوف، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ في الفلك} [العنكبوت: 65] بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في {مَا} وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك.
{لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} حيث عبر عن القرأر على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير لـ: {ما تركبون} [الزخرف: 12] وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام {لِتَسْتَوُواْ} لام كي، وقال الحوفي: من أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا، وقال ابن عطية: هي لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب، وقد اختلف في أمره فقيل: إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو {فَبِذَلِكَ فلتفرحوا} [يونس: 58] أو شعر نحو قوله:
لتقم أنت يابن خير قريش

وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: «لتأخذوا مصافكم» يحتمل أنه من المروى بالمعنى، وقال الزجاج: إنها لغة جيدة، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين.
{ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرًا باللسان مع شعور من القلب، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وءن كان ذلك التقرير سديدًا أيضًا، ومنه يظهر إيثاره علي ثم تحمدوا إذا استويتم، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى.
ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه: {وَتَقولواْ سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقادًا لنا متعجبين من ذلك، وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب، والكلام وإن كان إخبارًا على ما سمعت أولًا يشعر بالطلب. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلًا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أو بذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في أخير أمة أخرجت للناس ثم تقول: {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} إلى {مُقْرِنِينَ} وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام.