فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت نسبة الولد إليه سبحانه مما لا يبنغي أن يخطر بالبال على حال من الأحوال.
وكانت نسبته على سبيل الحقيقة أبعد منها على طريق المثال بأن يقال: الملائكة عنده في العزة بمنزلة البنات عند الأب، قال مرشدًا إلى أن ما قالوه لو كان على قصد التمثيل في غاية القباحة فضلًا عن أن يكون على التحقيق، عائدًا إلى الإعراض المؤذن بالمقت والإبعاد: {وإذا} أي جعلوا ذلك والحال أنه إذا {بشر} من أي مبشر كان {أحدهم} أطلق عليه ذلك تنبيهًا على أنه مما يسر كالذكر سواء في أن كلًا منهما ولد وتارة يسر وتارة يضر وهو نعمة من الخالق لأنه خير من العقم {بما ضرب} وعدل عن الوصف بالربوبية لأنه قد يدعى المشاركة في مطلق التربية إلى الوصف الدال على عموم الرحمة، فتأمله بمجرده كاف في الزجر عن سوء قولهم فقال: {للرحمن} أي الذي لا نعمة على شيء من الخلق إلا وهي منه {مثلًا} أي جعل له شبهًا وهو الأنثى، وعبر به دونه أن يقول: بما جعل، موضع {بما ضرب} تعليمًا للأدب في حقه سبحانه في هذه السورة التي مقصودها العلم الموجب للأدب وزيادة في تقبيح كفرهم لا سيما إن أرادوا الحقيقة بالإشارة إلى أن الولد لا يكون إلا مثل الوالد، لا يتصور أصلًا أن يكون خارجًا عن شبهه في خاص أوصافه.
ولما كان تغير الوجه لا سيما بالسواد لا يدرك حق الإدراك إلا بالنهار، عبر بما هو حقيقة في الدوام نهارًا وإن كان المراد هنا مطلق الدوام: {ظل} أي دام {وجه مسودًا} أي شديد السواد لما يجد من الكراهة الموصلة إلى الحنق بهذه البشارة التي أبانت التجربة عن أنها قد تكون سارة {وهو كظيم} أي حابس نفسه على ما ملئ من الكرب فكيف يأنف عاقل من شيء ويرضاه لعبده فضلًا عن مكافيه فضلًا عن سيده- هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلًا عن أن يتفوه به.
ولما كان الملك لا يأخذ في جنده إلا من يصلح للجندية بالمجالدة والمجادلة أو بإحداهما، نبه على إنكار آخر بأن الإناث لا يصلحن لشيء من هذين الوصفين، فقال معبدًا لإنكار الثالث تنبيهًا على أنه بالغ جدًا في إثارة الغضب: {أو من} أي اتخذ من لا يرضونه لأنفسهم.
لنفسه مع أنفتهم منه واتخذ من {ينشؤا} أي على ما جرت به عوائدكم على قراءة الجماعة، ومن تنشؤونه وتحلونه بجهدكم على قراءة ضم الباء وتشديد الشين {في الحلية} أي في الزينة فيكون كلا على أبيه لا يصلح لحرب ولا معالجة طعن ولا ضرب {وهو} أي والحال أنه، وقدم لإفادة الاهتمام قوله: {في الخصام} إذا احتيج إليه {غير مبين} أي لا يحصل منه إبانة مطلقة كاملة لما يريده لنقصان العقل وضعف الرأي بتدافع الحظوظ والشهوات وتمكن السعة، فلا دفاع عنده بيد ولا لسان. اهـ.

.قال الفخر:

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)}.
اعلم أنه تعالى لما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] بين أنهم مع إقرارهم بذلك، جعلوا له من عباده جزءًا والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {جُزْء} بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان، وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة.
المسألة الثانية:
في المراد من قوله: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} قولان: الأول: وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولدًا، وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه، قال عليه السلام: «فاطمة بضعة مني» ولأن المعقول من الوالد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك الأصل، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه، فقوله: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا} معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به، والمعنى أنهم أثبتوا له جزءًا، وذلك الجزء هو عبد من عباده.
واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءًا، أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض عباده وذلك هو الولد، فكذا قوله: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} معناه وأثبتوا له جزءًا، وذلك الجزء هو عبد من عباده، والحاصل أنهم أثبتوا لله ولدًا، وذكروا في تقرير هذا القول وجوهًا أُخر، فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب، واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله:
إن أجزأت حرة يومًا فلا عجب ** قد تجزىء الحرة المذكاة أحيانًا

وقوله:
زوجتها من بنات الأوس مجزئة ** للعوسج اللدن في أبياتها غزل

وزعم الزجاج والأزهري وصاحب (الكشاف): أن هذه اللغة فاسدة، وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني: في تفسير الآية أن المراد من قوله: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} إثبات الشركاء لله، وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله، وبعضها لغير الله، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم، بل جعلوا له منهم بعضًا وجزءًا منهم، قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول، أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله، وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله، كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين.
ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين}.
واعلم أنه تعالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه، وذلك لأنه تعالى بيّن أن إثبات الولد لله محال، وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتًا أيضًا محال، أما بيان أن إثبات الولد لله محال، فلأن الولد لابد وأن يكون جزءًا من الوالد، وما كان له جزء كان مركبًا، وكل مركب ممكن، وأيضًا ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، وما كان كذلك فهو عبد محدث، فلا يكون إلهًا قديمًا أزليًا.
وأما المقام الثاني: وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتًا، وذلك لأن الابن أفضل من البنت، فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده، لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله، وذلك مدفوع في بديهة العقل، يقال أصفيت فلانًا بكذا، أي آثرته به إيثارًا حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك، وهو كقوله: {أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين} [الإسراء: 40] ثم بيّن نقصان البنات من وجوه الأول: قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى! وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ** يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا ** ليس لنا من أمرنا ماشينا

وإنما نأخذ ما أعطينا.
وقوله: {ظِلّ} أي صار، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة، قال صاحب (الكشاف): قرئ {مسود} {مسواد}، والتقدير وهو مسود، فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني: قوله: {أَو مَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ينشؤ} بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله، أي يربى، والباقون {ينشأ}، بضم الياء وسكون النون وفتح الشين، قال صاحب (الكشاف): وقرىء {يناشأ}، قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء، المغالاة بمعنى الإغلاء.
المسألة الثانية:
المراد من قوله: {أَو مَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} التنبيه على نقصانها، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر، وهو قوله: {وَهُوَ في الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها، ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه!.
المسألة الثالثة:
دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء، وأنه حرام للرجال، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام، لقوله عليه السلام: «ليس للمؤمن أن يذل نفسه» وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، قال الشافعي:
تدرعت يومًا للقنوع حصينة ** أصون بها عرضي وأجعلها ذخرا

ولم أحذر الدهر الخئون وإنما ** قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرأ

فأعددت للموت الإله وعفوه ** وأعددت للفقر التجلد والصبرا

اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}.
أي عِدْلًا؛ عن قتادة.
يعني ما عبد من دون الله عز وجل.
الزجاج والمبرد: الجزء هاهنا البنات؛ عجّب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكًا أو ولدًا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص.
قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات؛ يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات؛ قال الشاعر:
إن أجزأتْ حُرَّةٌ يومًا فلا عجبٌ ** قد تجزىء الحُرَّةُ المِذكار أحيانا

الزمخشري: ومن بِدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدَث متحوّل، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتًا، وبيتًا:
إن أجزأت حرة يومًا فلا عجب ** زُوِّجْتُهَا من بنات الأوسِ مُجزِئة

وإنما قوله: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} متصل بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به؛ وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءًا فوصفوه بصفات المخلوقين.
ومعنى {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءًا له وبعضا، كما يكون الولد بَضْعَة من والده وجزءًا له.
وقرىء {جزؤا} بضمتين.
{إِنَّ الإنسان} يعني الكافر.
{لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} قال الحسن: يعدّ المصائب وينسى النعم.
{مُبِينٌ} مظهر الكفر.
قوله تعالى: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} الميم صلة؛ تقديره اتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله؛ فلفظه لفظ الاستفهام ومعناه التوبيخ.
{وَأَصْفَاكُم بالبنين} أي اختصكم وأخلصكم بالبنين؛ يقال: أصفيته بكذا؛ أي آثرته به.
وأصفيته الودّ أخلصته له.
وصافيته وتصافينا تخالصنا.
عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدّس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدًا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس؟ وهذا كما قال تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21 22].
قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلًا} أي بأنه ولدت له بنت {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار وجهه {مُسْوَدًّا} قيل ببطلان مَثَله الذي ضربه.
وقيل: بما بُشِّر به من الأنثى؛ دليله في سورة النحل {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} [النحل: 85].
ومِن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت له أنثى اغتم واربد وجهه غيظًا وتأسفًا وهو مملوء من الكرب.
وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:
ما لأِبي حمزة لا يأتينا ** يَظَلّ في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا ** وإنما نأخذ ما أعطينا

وقرىء {مسودٌّ ومسوادٌّ}.
وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم {ظَلَّ} و{مُسْوَدًّا} خبر {ظَلَّ}.
ويجوز أن يكون في {ظَلَّ} ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و{وَجْهُهُ} بدل من الضمير.
و{مُسْوَدًّا} خبر {ظَلَّ}.
ويجوز أن يكون رفع {وَجْهُهُ} بالابتداء، ويرفع {مُسْوَدًّا} على أنه خبره، وفي {ظَلَّ} اسمها والجملة خبرها.
{وَهُوَ كَظِيمٌ} أي حزين؛ قاله قتادة.
وقيل مكروب؛ قاله عكرمة.
وقيل ساكت؛ قاله ابن أبي حاتم؛ وذلك لفساد مَثَله وبطلان حجته.
ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شِبهًا لِلّه؛ لأن الولد من جنس الوالد وشبهه.
ومن اسودّ وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجلّ منه؛ فكيف إلى الله عز وجل! وقد مضى في (النحل) في معنى هذه الآية ما فيه كفاية.
قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ} أي يُرَبَّى ويَشِبّ.
والنُّشوء: التربية؛ يقال: نشأت في بني فلان نَشْئًا ونشوءًا إذا شَبَبْتَ فيهم.
ونُشِّىء وأنشىء بمعنًى.
وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وَثّاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف {يُنَشَّأ} بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي يربى ويَكْبَر في الحِلْية.
واختاره أبو عبيد، لأن الإسناد فيها أعلى.
وقرأ الباقون {يَنْشأ} بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم؛ أي يرسخ ويثبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قاله الهروي.