فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتنكير {بنات} لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس.
وأما تعريف {البنين} باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله: {الحمدُ لله} في سورة الفاتحة (2).
والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافَس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله: {يهب لمن يشاء إناثًا ويَهَب لمن يشاء الذّكور} في سورة الشورى (49).
وتقديم {البنات} في الذكر على {البنين} لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله: {أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتخذ من الملائكة إِناثًا} في سورة الإسراءِ (40).
ولِمَا في التقديم من الردّ على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيُّرِهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى.
والإصفاء: إعطاء الصفوة، وهي الخيار من شيء.
وجملة {وإذا بُشِّر أحدهم} يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير النصب في {وأصفاكم ربّكم بالبنين}، ومقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب في قوله: {أحدهم} فعدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة على طريق الالتفات ليكونوا محكيًا حالهم إلى غيرهم تعجيبًا من فساد مقالتهم وتشنيعًا بها إذ نسبوا لله بنات دون الذّكور وهو نقص، وكانوا ممن يكره البنات ويَحقِرهُنَّ فنسبَتها إلى الله مفض إلى الاستخفاف بجانب الإلهية.
والمعنى: أأتّخذ مما يخلق بنات الله وأصفاكم بالبنين في حال أنكم إذا بُشّر أحدكم بما ضربه للرحمان مثلًا ظَلَّ وجهه مسودًّا.
ويجوز أن تكون اعتراضًا بين جملة {أم اتخذ مما يَخْلُق بناتٍ} وجملة {أوَ مَنْ ينشأ في الحِلية} [الزخرف: 18].
واستعمال البشارة هنا تهكّم بهم كقوله: {فبشرهم بعذاببٍ أليمٍ} [الإنشقاق: 2] لأن البشارة إعلام بحصول أمر مسرّ.
و(ما) في قوله: {بما ضرب للرحمان مثلًا} موصولة، أي بُشر بالجنس الذي ضربه، أي جعله مثَلًا وشبهًا لله في الإلهية، وإذ جعلوا جنس الأنثى جزْءًا لله، أي منفصلًا منه فالمبشَّر به جنس الأنثى، والجنس لا يتعين.
فلا حاجة إلى تقدير بشر بمِثل ما ضربه للرحمان مثلًا.
والمَثَل: الشبيه.
والضرْب: الجعل والصنع، ومنه ضَرْب الدينار، وقولهم: ضَرْبةُ لَازِببٍ، فَمَا صْدَقُ {بما ضرب للرحمان مثلًا} هو الإناث.
ومعنى {ظَلّ} هنا: صار، فإن الأفعال الناقصة الخمسة المفتتح بها باب الأفعال الناقصة، تستعمل بمعنى صار.
واسوِداد الوجه من شدة الغضب والغيظ إذ يصعد الدم إلى الوجه فتصير حمرته إلى سواد، والمعنى: تغيَّظ.
والكظيم: الممسك، أي عن الكلام كربًا وحزنًا.
{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)}.
عطف إنكارٍ على إنكار، والواو عاطفة الجملة على الجملة وهي مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن للاستفهام الصدْر وأصل الترتيب: وَأَمَنْ ينشأ.
وجملة الاستفهام معطوفة على الإنكار المقدّر بعدَ {أم} في قوله: {أم اتخذ ممّا يخلق بناتٍ} [الزخرف: 16]، ولذلك يكون {من ينشؤا في الحلية} في محل نصب بفعل محذوف دلّ عليه فعل {اتخذ} في قوله: {أم اتخذ مما يخلق بنات} [الزخرف: 16].
والتقدير: أأتّخذ مَن ينشأ في الحلية الخ.
ولك أن تجعل {من ينشؤا في الحلية} بدلًا من قوله: {بنات} بدلًا مطابقًا وأبرز العامل في البدل لتأكيد معنى الإنكار لا سيما وهو قد حذف من المبدل منه.
وإذ كان الإنكار إنما يتسلط على حكم الخبر كان موجب الإنكار الثاني مغايرًا لموجب الإنكار الأول وإن كان الموصوف بما لوصفين اللذيْن تعلق بهما الإنكار موصوفًا واحدًا وهو الأنثى.
ونَشْءُ الشيء في حالةٍ أن يكون ابتداءُ وجوده مقارنًا لتلك الحالة فتكون للشيء بمنزلة الظرف.
ولذلك اجتلب حرف {في} الدّالة على الظرفية وإنما هي مستعارة لِمعنى المصاحبة والملابسة فمعنى {من ينشؤا في الحلية} مَن تُجعل له الحلية من أول أوقات كونه ولا تفارقُه، فإن البنت تُتَّخَذُ لها الحلية من أول عمرها وتستصحب في سائر أطوارها، وحسبك أنها شُقّت طرفا أذنيها لتجعل لها فيهما الأقرأط بخلاف الصبي فلا يُحلّى بمثل ذلك وما يستدام له.
والنَّشْءُ في الحلية كناية عن الضعف عن مزاولة الصعاب بحسب الملازمة العُرفية فيه.
والمعنى: أن لا فائدة في اتخاذ الله بنات لا غناء لهن فلا يحصل له باتخاذها زيادة عِزّة، بناء على متعارفهم، فهذا احتجاج إقناعي خطابي.
و{الخصام} ظاهره: المجادلة والمنازعة بالكلام والمحاجّة، فيكون المعنى: أن المرأة لا تبلغ المقدرة على إبانة حجتها.
وعن قتادة: ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتْها على نفسها، وعنه: {من ينشأ في الحلية} هنّ الجواري يسفِّههن بذلك، وعلى هذا التفسير درج جميع المفسرين.
والمعنى عليه: أنّهن غير قوادر على الانتصار بالقول فبلأولى لا يقدرْنَ على ما هو أشد من ذلك في الحرب، أي فلا جدوى لاتّخاذهن أولادًا.
ويجوز عندي: أن يحمل الخصامُ على التقاتل والدّفاع باليد فإن الخصم يطلق على المُحارب، قال تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} [الحج: 19] فُسِّر بأنهم نفر من المسلمين مع نفر من المشركين تقاتلوا يوم بدر.
فمعنى {غير مبين} غيرُ محقق النصر.
قال بعض العرب وقد بُشر بولادة بنت: (والله ما هي بِنِعْمَ الولدُ بزُّها بكاء ونصرها سرقة).
والمقصود من هذا فضح معتقدهم الباطل وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا لكانوا حين جعلوا لله بنوة أن لا يجعلوا له بنوة الإناث وهم يُعدّون الإناث مكروهات مستضعفات.
وتذكير ضمير {وهو في الخصام} مراعاة للفظ {مَن} الموصولة.
و{الحلية}: اسم لما يُتحلّى به، أي يُتزين به، قال تعالى: {وتستخرجون منه حلية تلبسونها} [النحل: 14].
وقرأ الجمهور {يَنشأ} بفتح الياء وسكون النون.
وقرأه حفص وحمزة والكسائي {يُنَشَّأُ} بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ومعناه: يعوده على النشأة في الحلية ويربّى. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
هذه السورة مكية، وقال مقاتل: إلا قوله: {وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} وقال ابن عطية: بإجماع أهل العلم.
{إنا جعلناه}، أي صيرناه، أو سميناه؛ وهو جواب القسم، وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد، ونظيره قول أبي تمام:
وثناياك أنها أغريض

وقيل: والكتاب أريد به الكتب المنزلة، والضمير في جعلناه يعود على القرآن، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه.
وقال الزمخشري: جعلناه، بمعنى صيرناه، معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، كقوله: {وجعل الظلمات والنور} {وقرآنا عربيًا}: حال.
ولعل: مستعارة لمعنى الإرداة، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، أي خلقناه عربيًا غير عجمي.
أراد أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا: {لولا فصلت آياته} انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقًا.
{أم الكتاب}: اللوح المحفوظ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، وهذا فيه تشريف للقرآن، وترفيع بكونه.
لديه عليًا: على جميع الكتب، وعاليًا عن وجوه الفساد.
حكيمًا: أي حاكمًا على سائر الكتب، أو محكمًا بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني.
قال قتادة وعكرمة والسدي: اللوح المحفوظ: القرآن فيه بأجمعه منسوخ، ومنه كان جبريل ينزل.
وقيل: أم الكتاب: الآيات المحكمات، لقوله: {هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} ومعناه: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم.
وقرأ الجمهور: في أم، بضم الهمزة، والإخوان بكسرها، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق، ولم يعزها للإخوان عقلة منه.
يقال: ضرب عن كذا، وأضرب عنه، إذا أعرض عنه.
والذكر، قال الضحاك وأبو صالح: القرآن، أي افترائي عنكم القرآن.
وقولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، إذا أدارها ونحاها، وقال الشاعر:
اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

وقيل: الذكر: الدعاء إلى الله والتخويف من عقابه.
قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكارًا؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآنا عربيًا لتعقلوه وتعملوا بموجبه. انتهى.
وتقدم الكلام معه في تقديره فعلًا بين الهمزة والفاء في نحو: {أفلم يسيروا} {أفلا تعقلون} وبينها وبين الواو في نحو: {أولم يسيروا} كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين: أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام، ولا خلاف بين الهمزة والحرف، وقد رددنا عليه قوله: وقال ابن عباس ومجاهد: المعنى: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوًا عنكم وعفوًا عن إجرامكم؟ أن كنتم أو من أجل أن كنتم قومًا مسرفين؟ أي هذا لا يصلح.
ونحا قتادة إلى أن المعنى صفحًا، أي معفوا عنه، أي نتركه.
ثم لا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره، ولا تنبهون عليه.
وهذا المعنى نظير قول الشاعر:
ثم الصبا صفحًا بساكن ذي الفضا ** وبصدع قلبي أن يهب هبوبها

وقول كثير:
صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلة ** فمن مل منها ذلك الوصل ملت

وقال ابن عباس: المعنى: أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به؟ وقال الكلبي: أن نترككم هملًا بلا أمر ولا نهي؟ وقال مجاهد أيضًا: أن لا نعاقبكم بالتكذيب؟ وقيل: أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذبيهم؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبغي، والسميط بن عمير، وشميل بن عذرة: بضم الصاد، والجمهور: بفتحها، وهما لغتان، كالسد والسد.
وانتصاب صفحًا على أنه مصدر من معنى أفنضرب، لأن معناه: أفنصفح؟ أو مصدر في موضع الحال، أي صافحين، قالهما الحوفي، وتبعه أبو البقاء.
وقال الزمخشري: وصفحًا على وجهين: إما مصدر من صفح عنه، إذا أعرض منتصبًا على أنه مفعول له على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضًا عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نظر إليه بصفح وجهه.
وصفح وجهه على معنى: أفننحيه عنكم جانبًا؟ فينصب على الظرف، كما تقول: ضعه جانبًا، وامش جانبًا.
وتعضده قراءة من قرأ {صفحًا} بالضم.
وفي هذه القراءة وجه آخر، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أي صافحين معرضين.
وقال ابن عطية: {صفحًا}، انتصابه كانتصاب صنع الله. انتهى.
يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، فيكون العامل فيه محذوفًا، ولا يظهر هذا الذي قاله، فليس انتصابه انتصاب صنع الله.
وقرأ نافع والإخوان: بكسر الهمزة، وإسرافهم كان متحققًا.
فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق، أو على المتحقق الذي أنبهم زمانه؟ قال الزمخشري: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه، استجهالًا له.
وقرأ الجمهور: أن بفتح الهمزة، أي من أجل أن كنتم.
قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودع

وقرأ زيد بن علي: إذ كنتم، بذال مكان النون، لما ذكر خطابًا لقريش، {أفنضرب عنك الذكر}؟ وكان هذا الإنكار دليلًا على تكذيبهم للرسول، وإنكارًا لما جاء به.
آنسه تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة من استهزائهم بالرسل، وأنه تعالى أهلك من كان أشد بطشًا من قريش، أي أكثر عدَدًا وعُددًا وجلدًا.
{ومضى مثل الأولين}: أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة.
قال معناه قتادة: وهي العقوبة التي سارت سير المثل، وقيل: مثل الأولين في الكفر والتكذيب، وقريش سلكت مسلكها، وكان مقبلًا عليهم بالخطاب في قوله: {أفنضرب عنكم}؟ فأعرض عنهم إلى إخبار الغائب في قوله: {فأهلكنا أشد منهم بطشًا}.
{ولئن سألتهم}: احتجاج على قريش بما يوجب التناقض، وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله، ثم هم يتخذون أصنامًا آلهة من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم.
قال ابن عطية: ومقتضى الجواب أن يقولوا خلقهن الله، فلما ذكر تعالى المعنى، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم، ليكون ذلك توطئة لما عدد من أوصافه الذي ابتدأ الإخبار بها، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش. انتهى.
وقال الزمخشري: لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه، وليسندنه إليه. انتهى.
والظاهر أن: {خلقهن العزيز العليم} نفس المحكى من كلامهم، ولا يدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله، أن لا يقولوا في سؤال آخر: {خلقهن العزيز العليم}.