فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى الآية: التوبيخ وإظهار فساد عقولهم، وادعائهم وأنها مجردة من الحجة، وهذا نظير الآية الرادة على المنجمين وأهل البضائع، وهي قوله تعالى: {ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} [الكهف: 51] الآية.
وقرأ جمهور الناس: {ستُكتب شهادتُهم} برفع الشهادة وبناء الفعل للمفعول. وقرأ الأعرج وابن عباس وأبو جعفر وأبو حيوة. {سنكتب} بنون الجمع {شهادتَهم} بالنصب وقرأت فرقة: {سيكتب} بالياء على معنى: سيكتب الله {شهادتَهم} بالنصب. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {ستُكتب شهاداتُهم} على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات.
وفي قوله تعالى: {ويسألون} وعيد مفصح. و: {أشهدوا} في هذه الآية معناه: أحضروا وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى.
{وَقالوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}.
ذكر الله تعالى احتجاج الكفار لمذهبهم ليبين فساد منزعهم، وذلك أنهم جعلوا إمهال الله لهم وإنعامه عليهم وهم يعبدون الأصنام، دليلًا على أنه يرضى عبادة الأصنام دينًا، وأن ذلك كالأمر به، فنفى الله عن الكفرة أن يكون لهم علم بهذا وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك، وإنما هم يظنون و{يخرصون} ويخمنون، وهذا هو الخرص والتخرص.
وقرأ جمهور الناس: {على أُمة} بضم الهمزة، وهي بمعنى الملة والديانة، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد. وقرأ مجاهد والعبدري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: {على إمة} بكسر الهمزة وهي بمعنى النعمة، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ** بإمته يعطي القطوط ويافق

ومنه قول عدي بن زيد: الخفيف:
ثم بعد الفلاح والملك والإمّـ ** ـة وارتهم هناك القبور

فالآية على هذا استمرار في احتجاجهم، لأنهم يقولون: وجدنا آباءنا في نعمة من الله وهم يعبدون الأصنام، فذلك دليل رضاه عنهم، وكذلك اهتدينا نحن بذلك {على آثارهم}. وذكر الطبري عن قوم: أن الأمة الطريقة، مصدر من قولك: أممت كذا أمة ثم ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الإسوة فيمن مضى من النذر والرسل، وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة.
وقرأ جمهور القراء: {قل أولو} والمعنى: فقلنا للنذير قل. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: {قال أو لو}، ففي {قال} ضمير بعود على النذير. وباقي الآية يدل على أن: {قل} في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد عليه السلام، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير.
وقوله تعالى: {أو لو} هي ألف الاستفهام دخلت على واو عطف جملة كلام على جملة متقدمة، و{لو} في هذا الموضع كأنها شرطية بمعنى أن، كأن معنى الآية: وإن جئتكم بأبين وأوضح مما كان آباؤكم عليه فيصح لجاجكم وتقليدكم، فأجاب الكفار حينئذ لرسلهم: {إنا بما أرسلتم به كافرون}.
وفي قوله تعالى: {فانتقمنا منهم} الآية وعيد لقريش وضرب مثل بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة بأنبيائها كما كذبت هي بمحمد عليه السلام.
وقرأ جمهور الناس: {أو لو جئتكم} وقرأ أبو جعفر وأبو شيخ وخالد: {أو لو جئناكم}. وقرأ الأعمش: {أولو أتيتم}. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}.
متصلٌ بقوله تعالى: {ولئِن سألتَهُم}. إلخ أيْ وقد جعلُوا له سبحانه بألسنتِهم واعتقادِهم بعد ذكلَ الاعترافِ من عبادِه ولدًا وإنَّما عبَّر عنهُ بالجُزءِ لمزيدِ استحالتهِ في حقِّ الواحدِ الحقِّ من جميعِ الجهاتِ. وقُرِىءَ {جُزُؤا} بضمَّتينِ.
{إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ظاهرُ الكُفرانِ مبالغٌ فيهِ ولذلكَ يقولونَ ما يقولونَ، سبحانَ الله عمَّا يصفونَ.
{أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} أَمْ منقطعةٌ وما فيها من مَعْنى بَلْ للانتقال من بيانِ بطلانِ جَعْلِهم لهُ تعالى ولدًا على الإطلاقِ إلى بيانِ بُطلانِ جعلِهم ذلكَ الولدَ من أخسَّ صنفيهِ. والهمزةُ للانكارِ والتوبيخِ والتعجيبِ من شأنِهم.
وقوله تعالى: {وأصفاكم بالبنين} إما عطفٌ على اتخذَ داخلٌ في حُكْمِ الإنكارِ والتعجيبِ أو حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قَدْ أو بدونِه على الخلافِ المشهورِ. والالتفاتُ إلى خطابِهم لتأكيدِ الإلزامِ وتشديدِ التوبيخِ أي بلْ أتخذَ من خلقِه أخسَّ الصنفينِ واختارَ لكم أفضلَهُما: على مَعْنى هَبُوا أنكم اجترأتُم على إضافةِ اتخاذِ جنسِ الولدِ إليه سبحانه مع ظهورِ استحالتِه وامتناعِه أما كانَ لكم شيءٌ من العقلِ ونُبذٌ من الحياءِ حتى اجترأتُم على التفوهِ بالعظيمةِ الخارقةِ للعقول من ادعاءِ أنَّه تعالى آثركُم على نفسِه بخيرِ الصنفينِ وأعلاهُما وتركَ له شرَّهُما وأدناهُما. وتنكيرُ بناتِ وتعريفُ البنينَ لتربيةِ ما اعتُبرَ فيهما من الحقارةِ والفخامةِ.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلًا} الخ استئنافٌ مقررٌ لما قبلَهُ، وقيلَ حالٌ على مَعنْى أنَّهم نسبُوا إليه ما ذُكِرَ ومن حالِهم أنَّ أحدَهُم إذَا بُشِّرَ بهِ اغتمَّ. والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ ذكرِ قبائِحهم أنْ يُعرضَ عنهم وتُحكَى لغيرِهم تعجيبًا منها أيْ إذَا أخبرَ أحدُهم بولادةِ ما جعلَه مثلًا له سبحانه إذِ الولدُ لابد أنْ يجانسَ الوالدَ ويماثلَهُ {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي صارَ أسودَ في الغايةِ من سوءِ ما بُشِّرَ به {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوءٌ من الكربِ والكآبةِ. والجملةُ حالٌ وقُرِىءَ مُسودُّ ومُسوادٌّ، على أنَّ في ظَلَّ ضميرُ المبشِّرِ، ووجهُهُ مسودٌّ جملةٌ وقعتْ خبرًا لهُ.
{أَوْ مِن يُنَشَّأُ في الحلية} تكريرٌ للإنكارِ، وتثنية للتوبيخِ. ومَنْ منصوبةٌ بمضمرِ معطوفٍ على جعلُوا أي أو جعلُوا مَنْ شأنُهُ أنْ يُربَّى في الزينةِ وهُو عاجزٌ عنْ أنْ يتولَّى أمره بنفسهِ، فالهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، وقد جُوِّزَ انتصابُها بمضمرٍ معطوفٍ على اتخذَ فالهمزةُ حينئذٍ لإنكارِ الوقوعِ واستبعادِه، وإقحامُها بين المعطوفينِ لتذكيرِ ما في أمِ المنقطعةِ من الإنكارِ وتأكيدهِ. والعطفُ للتغايرِ العُنوانِي أيْ أوَ اتخذَ من هذهِ الصفةِ الذميمةِ صفتَهُ {وَهُوَ} مع ما ذُكِرَ من القصورِ {فِى الخصام} أي الجدالِ الذي لا يكادُ يخلُو عنه الإنسانُ في العادةِ {غَيْرُ مُبِينٍ} غيرُ قادرٍ على تقريرِ دعواهُ وإقامةِ حُجَّتِه لنقصانِ عقلِه وضعفِ رأيه. وإضافةُ غيرُ لا تمنعُ عملَ ما بعدَهُ في الجارِّ المتقدمِ لأنَّه بمعْنى النَّفي. وقُرِىءَ ينُشأُ، ويُنَاشَأُ من الأفعال والمفاعلةِ والكلُّ بمَعْنى واحدٍ، ونظيرُه غَلاهُ وأغلاهُ وغالاهُ.
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}.
بيانٌ لتضمن كفرِهم المذكورِ لكفرٍ آخرَ، وتقريعٌ لهم بذلكَ وهو جعلُهم أكملَ العبادِ وأكرمَهم على الله عزَّ وجلَّ أنقصَهُم رأيًا وأخسَّهُم صِنفًا. وقُرِىءَ عبيدُ الرحمنِ، وقُرِىءَ عبد الرحمن على تمثيل زلفاهم، وقرىء أُنُثًا وهُو جمعُ الجمعِ.
{أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أي أحضرُوا خلقَ الله تعالى إيَّاهم فشاهدُوهم إناثًا حتى يحكموا بأنوثتِهم، فإنَّ ذلكَ مما يُعلم بالمشاهدةِ، وهو تجهيلٌ لهُم وتهكُّمٌ بهم. وقُرِىءَ أَأَشهِدُوا بهمزتينِ مفتوحةٍ ومضمومةٍ وآأُشهدوا بألفٍ بنيهُما.
{سَتُكْتَبُ شهادتهم} هذه في ديوانِ أعمالِم {وَيُسْئَلُونَ} عنها يومٍ القيامةِ. وقُرِىءَ سيكتُبُ وسنكتبُ بالياءِ والنونِ. وقُريَء شهاداتُهم. وهيَ قولهم إنَّ لله جزءًا وإن له بناتٍ وأنها الملائكةُ. وقُرِىءَ يُساءلونَ من المساءلةِ للمبالغةِ.
{وَقالواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} بيانٌ لفنَ آخرَ من كُفرِهم، أيْ لو شاءَ عدمَ عبادتِنا للملائكةِ مشيئَةَ ارتضاءٍ ما عبدناهُم أرادُوا بذلكَ بيانَ أنَّ ما فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَهُ تعالى وأنَّهم إنَّما يفعلُونه بمشيئتهِ تعالى إياه منهُم مع اعترافِهم بقبحهِ حتى ينتهضَ ذمُّهم به دليلًا للمعتزلةِ، ومَبْنى كلامِهم الباطلِ على مقدمتينِ: إحداهُما أنَّ عبادتَهُم لهم بمشيئتهِ تعالى، والثانيةُ أنَّ ذلكَ مستلزمٌ لكونِها مرضيةً عندَهُ تعالى ولقد أخطأُوا في الثانيةِ حيث جهلُوا أن المشيئةَ عبارةٌ عن ترجيحِ بعضِ الممكناتِ على بعضٍ كائنًا ما كانَ من غيرِ اعتبارِ الرَّضا أوالسَّخطِ في شيءٍ من الطرفينِ ولذلكَ جُهِّلُوا بقوله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ} أي بما أرادُوا بقولهم ذلكَ من كونِ ما فعلُوه بمشيئةِ الارتضاءِ لا بمطلقِ المشيئةِ فإنَّ ذلكَ محققٌ ينطقُ بهِ ما لا يُحصَى عن الآياتِ الكريمةِ {مِنْ عِلْمٍ} يستندُ إلى سندٍ مَا {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}.
يتمحَّلُونَ تمحُّلًا باطلًا وقد جُوِّزَ أنْ يشارَ بذلكَ إلى أصلِ الدعوى كأنَّه لما أظهرَ وجوه فسادِها وحكى شُبهَهم المزيفةَ نَفَى أن يكونَ لهم بها علمٌ مِن طريقِ العقلِ ثم أضربَ عنه إلى إبطالِ أن يكونَ لهم سندٌ من جهةِ النقلِ فقيلَ:
{أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ} من قبلِ القرآن أو من قبلِ ادعائِهم ينطقُ بصحةِ ما يدَّعُونَهُ {فَهُم بِهِ} بذلكَ الكتابِ {مُسْتَمْسِكُونَ} وعليهِ معوّلونَ {بَلْ قالواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ} أي لم يأتُوا بحجةٍ عقيلةٍ أو نقليةٍ بل اعترفُوا بأن لا سندَ لهم سوى تقليدِ آبائِهم الجهلةِ مثلِهمْ والأمةُ الدينُ والطريقةُ التي تُؤم أي تُقصدُ كالرُّحلةِ لما يُرحلُ إليهِ. وقُرِىءَ إِمةٍ بالكسرِ، وهي الحالةُ التي يكونُ عليها الآمُّ أي القاصدُ.
وقوله تعالى: {على آثارِهم مهتدونَ} خبرُ إنَّ والظرفُ صلةٌ لمهتدونَ.
{وكذلك} أي والأمرُ كما ذُكِرَ منْ عجزِهم عن الحجةِ وتشبّثهم بذيلِ التقليدِ.
وقوله تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّقْتَدُونَ} استئنافٌ مبينٌ لذلكَ دالٌّ على أنَّ التقليدَ دالٌّ على أنَّ التقليدَ فيما بينُهم ضلالٌ قديمٌ ليسَ لأسلافِهم أيضًا سندٌ غيرُه، وتخصيصُ المُترفينَ بتلكَ المقالةِ للإيذانِ بأن التنعمَ وحبّ البطالةِ هو الذي صَرَفهُم عن النظرِ إلى التقليدِ {قال} حكايةٌ لما جَرى بين المنذرينَ وبينَ أُممهم عندَ تعللهم بتقليدِ آبائِهم، أي قال كلُّ نذيرٍ منِ أولئكَ المنذرينَ لأممِهم {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} أي أتقتدونَ بآبائِكم ولو جئتُكم {بأهدى} بدينٍ أَهدْى {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ} من الضلالةِ التي ليستْ من الهدايةِ في شيءٍ وإنما عبر عنها بذلكَ مجاراةً معهم على مسلكِ الإنصافِ وقُرِىءَ على أنَّه حكايةُ أمرٍ ماضٍ أُوحيَ حينئذٍ إلى كلِّ نذيرٍ لا على أنَّه خطابٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وكما قيل، لقوله تعالى: {قالواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} فإنَّه حكايةٌ عن الأممِ قطعًا أيْ قالتْ كلُّ أمةٍ لنذيرِها إنَّا بَما أرسلتَ بهِ إلخ وقد أجملَ عندَ الحكايةِ للإنجازِ كما مرَّ في قوله تعالى: {وَمَعِينٍ يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} وجعلُه حكايةً عن قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحملِ صيغةِ الجمعِ على تغليبِه على سائرِ المنذرينَ عليهم السَّلامُ، وتوجيُه كفرِهم إلى مَا أرسلَ به الكُلُّ من التوحيدِ لإجماعِهم عليهِ كما في نظائرِ قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} تمحُّلٌ بعيدٌ يردُّه بالكلِّيةِ قوله تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ} أي بالاستئصالِ {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من الأممِ المذكورينَ فلا تكترثْ بتكذيبِ قومِكَ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {حم والكتاب المبين}.
الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدّمناه في {يس والقرءان الحكيم} [يس: 1، 2]، فإن جعلت {حم} قسمًا كانت الواو عاطفة، وإن لم تجعل قسمًا، فالواو للقسم، وجواب القسم {إِنَّا جعلناه}، وقال ابن الأنباري: من جعل جواب، والكتاب: {حم} كما تقول: نزل والله، وجب والله وقف على {الكتاب المبين}، ومعنى {جعلناه}، أي: سميناه، ووصفناه، ولذلك تعدّى إلى مفعولين.
وقال السدّي: المعنى: أنزلناه {قُرْءانًا}.
وقال مجاهد: قلناه.
وقال سفيان الثوري: بيناه {عَرَبِيًّا}، وكذا قال الزجاج، أي: أنزل بلسان العرب، لأن كلّ نبي أنزل كتابه بلسان قومه.
وقال مقاتل: لأن لسان أهل الجنة عربيّ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيًا لكي تفهموه، وتتعقلوا معانيه، وتحيطوا بما فيه.
قال ابن زيد: لعلكم تتفكرون.
{وَإِنَّهُ في أُمّ الكتاب} أي: وإن القرآن في اللوح المحفوظ {لَدَيْنَا} أي: عندنا {لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف، ولا تناقض، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها.
قال الزجاج: {أمّ الكتاب}: أصل الكتاب، وأصل كلّ شيء: أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ في لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] وقال ابن جريج: المراد بقوله: {وَأَنَّهُ} أعمال الخلق من إيمان، وكفر، وطاعة، ومعصية.
قال قتادة: أخبر عن منزلته، وشرفه، وفضله، أي: إن كذبتم به يا أهل مكة، فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل.
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا} يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه: إذا تركته، وأمسكت عنه، كذا قال الفراء، والزجاج، وغيرهما، وانتصاب {صفحًا} على المصدرية، وقيل: على الحال، على معنى: أفنضرب عنكم الذكر صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك، وعنقك، والمراد بالذكر هنا: القرآن، والاستفهام للإنكار، والتوبيخ.
قال الكسائي: المعنى: أفنضرب عنكم الذكر طيًا فلا توعظون، ولا تؤمرون.
وقال مجاهد، وأبو صالح، والسدّي: أفنضرب عنكم العذاب، ولا نعاقبكم على إسرافكم، وكفركم.
وقال قتادة: المعنى: أفنهلككم، ولا نأمركم، ولا ننهاكم؟ وروي عنه: أنه قال: المعنى: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به؟ وقيل: الذكر: التذكير، كأنه قال: أنترك تذكيركم {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ}، قرأ نافع، وحمزة، والكسائي: {إن كنتم} بكسر (إن) على أنها الشرطية، والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقرأ الباقون بفتحها على التعليل، أي: لأن كنتم قومًا منهمكين في الإسراف مصرّين عليه، واختار أبو عبيد قراءة الفتح.
ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ في الأولين} كم هي الخبرية التي معناها: التكثير، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة {وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} كاستهزاء قومك بك {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} أي: أهلكنا قومًا أشدّ قوّة من هؤلاء القوم، وانتصاب {بطشًا} على التمييز أو الحال، أي: باطشين {ومضى مَثَلُ الأولين} أي: سلف في القرآن ذكرهم غير مرة.
وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل: صفتهم، والمثل: الوصف والخبر.
وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأوّلين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} أي: لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية؟ أقرّوا بأن الله خالقهنّ ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشدّ لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكًا له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ من المخلوقات وهي: الأصنام فجعلوها شركاء لله.