فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}.
هم الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ الله؛ فجعلوا البناتِ لله جزءًا على التخصيص من جملة مخلوقاته.. تَعَسًَا لهم في قولهم ذلك وخِزْيًا!! فردَّ عليهم ذلك قائلًا:
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}.
قال لهم على جهة التوبيخ، وعابهم بما قالوا؛ إذ- على حدِّ قولهم- كيف يُؤْثِرُهم بالبنين ويجعل لنفسه البنات؟ ففي قولهم ضلالٌ؛ إذا حكموا للقديم بالوَلَد. وفيه جهلٌ؛ إذا حكموا له بالبنات ولهم بالبنين- وهم يستنكفون من البنات.. ثم.. أي عيب في البنات؟ ثم.. كيف يحكمون بأن الملائكة إناثٌ- وهم لم يشاهدوا خِلْقَتَهم؟
كلُّ ذلك كان منهم خطأ محظورًا.
{وَقالوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}.
إنما قالوا ذلك استهزاءً واستبعادًا لا إيمانًا وإخلاصًا فقال تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} ولو عَلِمُوا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولًا.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}.
أي ليس كذلك، حتى أخبر أنهم ركنوا إلى تقليد لا يُفْضي إلى العلم، فقال: {بَلْ قالواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهتَدُونَ}.
فنحن نقتدي بهم، ثم قال: {وَكّذَلِك مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قال مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَاءَنَا عَلَى أُمُّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}.
سلكوا طريقَ هؤلاء في التقليد لأسلافهم، والاستنامةِ إلا ما اعتادوه من السِّيرة والعادة.
{قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)}.
فلم ينجعْ فيهم قوله، ولم ينفعهم وَعْظُه، وأَصرُّوا عَلَى تكذيبِهم، فانتقمَ الحقُّ- سبحانه- منهم كما فعل بالذين من قبلهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَقالوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}.
كلامهم هذا حق لأن كفرهم بمشيئة الله الكونية وقد صرح الله بأنهم كاذبون حيث قال: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}.
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {وَقال الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} الآية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الأمة:
الأُمَّة لغة: الرّجُل الجامع للخير، والإِمام، وجماعةٌ أَرسل إِليهم رَسُول، والجيل من كل حىّ، والجنس، ومَن هو على الحقّ، ومُخالف لسائر الأَديان، والحِين، والقامة، والأُمُّ، والوجه والنشاط، والطَّاعة، والعالِم، ومن الوجه: مُعظمُه، ومن الرجل قومه.
وأُمَّه الله تعالى: خَلْقه.
وقد ورد في نصّ القرآن على عشرة أَوجه.
الأَوّل: بمعنى الصَّف المصفوف {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أَى صفوف.
الثانى: بمعنى السّنين الخالية: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أَى بعد سنين.
الثالث: بمعنى الرّجل الجامع للخير: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}.
الرابع: بمعنى الدّين، والمِلَّة: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}.
الخامس: بمعنى الأمَم السّالفة، والقرون الماضية: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ}.
السّادس: بمعنى القوم بلا عدد {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}.
السابع: بمعنى القوم المعدود: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، {وَإِذَا قالتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} أَى أَربعين رجلًا.
الثامن: بمعنى الزَّمان الطَّويل: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}.
التاسع: بمعنى الكُفَّار خاصّة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ}.
العاشر: بمعنى أَهل الإِسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى صِنفًا واحدًا، وعلى طريقة واحدة في الضَّلال والكفر، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى في الإِيمان، {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أَى جماعة يتَخَيَّرُون العلم، والعمل الصَّالح، أَى يكونون أُسْوة لغيرهم. اهـ.

.تفسير الآيات (26- 32):

قوله تعالى: {وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قالوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقالوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر لهم الأدلة وحذرهم بالأخذ وتحرر أنهم مع التقليد لا ينفكون عنه، ذكرهم بأعظهم آبائهم ومحط فخرهم وأحقهم بالاتباع للفوز بأتباع الأب في ترك التقليد أو في تقليده إن كان لابد لهم من التقليد لكونه أعظم الآباء ولكونه مع الدليل، فقال عاطفًا على ما تقديره للإرشارة إلى تأمله وإمعان النظر فيه: اذكر لهم ذلك: {وإذ} أي واذكر لهم حين {قال} أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم {إبراهيم لأبيه} من غير أن يقلده كما أنتم قلدتم آبائكم، ولما كانت مخالفة الواحد للجمع شديدة، ذكر لهم حاله فيها بيانًا لأنهم أحق منهم بالانفكاك عن التقليد {وقومه} الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض كما قلت: إنا لكم سواء ولما كانوا لا يتخيلون أصلًا أن أحدًا يكون مخالفًا لهم، أكد بالحرف وإظهار نون الوقاية فقال: {إنني} وزاد بالنعت بالمصدر الذي يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره لكونه مصدرًا وإن وقع موقع الصفة باللفظ الدال على أنه مجسد من البراءة جعله على صورة المزيد لزيادة التأكيد فقال: {براء} ومن ضمه جعله وصفًا محضًا مثل طوال في طويل {مما تعبدون} في الحال والاستقبال مهما كان غير من اشتبه، فإنهم كانوا مشركين فلا بد من الاستثناء ومن كونه متصلًا، قال الإمام أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتاب بيان نظم القرآن ما حاصله: سر قول السلف أن الكلمة هنا أي الآية في قوله كلمة باقية {لا إله إلا الله} أن النفي والتبرئة واحد فإنني براء بمنزلة لا، وقوله: {مما تعبدون} بمنزلة إله إذا كل معبود يسمى إلهًا فآل ذلك إلى: لا إله {إلا الذي فطرني} قال: فقد ضممت بهذا التأويل إلى فهمك الأول الذي استفدته من الخبر فهم المعرفة الحقيقية الذي أفاد له طباعك بالعبرة، ونبه بالوصف بالفطر على دليل اعتقاده أي الذي شق العدم فأخرجني منه ثم شق هذه المشاعر والمدرك، ومن كان بهذه القدرة الباهرة كان منفردًا بالعظمة.
ولما كان الله سبحانه- وله المنّ- قد أنعم بعد الإيجاد بما أشار إليه من العقل والحواس المهيئ، للهداية من غير طلب، فكان جديرًا بأن يمنح قاصده بأعظم هداية قال مسببًا عن قطعه العلائق من سواه، مؤكدًا لأجل من ينكر وصوله إلى حد عمي عنه أسلافه {فإنه سيهدين} أي هداية هي الهداية إلى ما لاح لي من الحقائق من كل ما يصلحني لتوجهي إليه وتوكلي عليه، لا مرية عندي في هذا الاعتقاد، وقد أفاد بهذه المقترنة بالسين هدايته في الاستقبال بعد أن أفاد بقوله المحكي في الشعراء {فهو يهدين} الهداية في الحال وكأنه خص هذا بالسين لأجل ما عقبها به من عقبه، فجعل هدايتهم هدايته {وجعلها} أي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة التي هي التوحيد بدليله {كلمة باقية في عقبه} أي ذريته دعا وهو مجاب الدعوة في قوله: {وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام} وفي قوله: {ومن ذريتي ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}: {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة واعوجاج حال من يرجى رجوعه، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به (إذ) أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليدًا لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر فتضمن لمتبعها حتمًا تمام النصر، وفي سوقه المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين: صنفًا يرجع وآخر لا يرجع.
ولما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم: يا رب! بل رجعوا، أجيب بقوله: {بل} أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغًا عظيمًا، واستمروا في ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني {متعت} بإفراده ضميرهم سبحانه لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهرًا ولا باطنًا سواه وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} [القلم: 45] {هؤلاء} أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين {وآباءهم} فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل {حتى جاءهم الحق} بهذا الدين المتين {ورسول مبين} أي أمره ظاهر في نفسه، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره في نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه، و{متعت} بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب لأنه يدعو انتهازًا للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول: يا رب! قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره.
ولما كان التقدير: فلم يردهم التمتيع بإدرار النعم عليهم وإسراعنا بها إليهم مع وضوح الأمر لهم، بل كان الإنعام عليهم سببًا لبطرهم، وكان البطر سببًا لتماديهم على الاستعانة بنعمتنا على عصيان أمرنا وهم يدعون أنهم أتبع الناس للحق وأكفهم عن الباطل، عطف عليه قوله؛ {ولما جاءهم الحق} أي الكامل في حقيته بمطابقة الواقع إياه من غير إلباس ولا اشتباه، الظاهر في كماله لكل من له أدنى لب بما عليه القرآن من الإعجاز في نظمه، وما عليه ما يدعو إليه من الحكمة من جميع حكمه، والتصادق مع ما يعلمونه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدلوه ومن أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام من التوحيد، زادوا على تلك الغفلة التي أدى إليها البطر بالنعمة ما هو شر من ذلك وهو التكذيب بأن {قالوا} مكابرة وعنادًا وحسنًا وبغيًا من غير وقفة ولا تأمل: {هذا} مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع، فلا شيء أثبت منه وهو القرآن وغيره مما أتى به من دلائل العرفان {سحر} أي خيال لا حقيقة له، ولما كان الحال مقتضيًا من غير شك ولا وقفة لمعرفتهم لما جاء به وإذعانهم له قالوا مؤكدين لمدافعه ما ثبت في النفوس من ذلك: {وإنا به كافرون} أي عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع.
ولما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملًا بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر زيادة وإمعانًا فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال: {وقالوا} لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة، وكذا من بعده من أولاده فلم يتهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي لا يسأل عما يفعل، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم: {لولا} أي هل لا ولولا.
ولما كان إنزال القرآن نجومًا على حسب التدريج، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا: {نزل} أي من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم {هذا القرآن} أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير، ففيه إشارة إلى التحقير {على رجل من القريتين} أي مكة والطائف، ولم يقل: إحدى- اغتناء عنها بوحدة رجل {عظيم} أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن شأن الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية، ويعلمون أن للملك المرسل له صلى الله عليه وسلم الغني المطلق لكنهم جهلوا- مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه- أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل، فقد جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطًا للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار.
ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك، قال منكرًا عليهم موبخًا لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردودًا إليهم ولا موقوفًا عليهم بل هو إلى الله وحده {والله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] {أهم} أي أهؤلاء الجهلة العجزة {يقسمون} أي على التجدد والاستمرار: ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا له وإظهارًا لعلي قدره: {رحمت ربك} أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسبًا وأفضلهم حسبًا وأعظمهم عقلًا وأصفاهم لبًا وأرحمهم قلبًا ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك.
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جوابًا لمن كأنه قال: فمن القاسم؟ دالًا على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم، لافتًا القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد: {نحن قسمنا} أي بما من العظمة {بينهم} أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم {معيشتهم} التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة {في الحياة الدنيا} التي هي أدنى الأشياء عندنا، وإشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئًا من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود، وبها سعادة الدارين: {ورفعنا} بما لنا من نفوذ الأمر {بعضهم} وإن كان ضعيف البدن قليل العقل {فوق بعض} وإن كان قويًا عزيز العقل {درجات} في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود، فإنه لابد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع، والمعارف والبضائع، ويكون كل ميسر لما خلق له، وجانحًا إلى ما هي له لتعاطيه، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره وترتقي فوق منزلته.