فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قيل: الرحمة النبوّة، وقيل الجنة.
وقيل: تمام الفرائض خير من كثرة النوافل.
وقيل: ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ قال إبراهيم}.
أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام {لأبِيهِ} آزر {وَقَوْمِهِ} المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والجسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا آباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد ويعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضًا.
وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث.
وقرأ الزعفراني. والقورصي عن أبي جعفر. وابن المنذري. عن نافع {بَرَاء} بضم الباء وهو اسم مفرد كطول وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش {بري} وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد.
وقرأ الأعمش أيضًا {الله إِنّى} بنون مشددة دون نون الوقاية.
{إِلاَّ الذي فَطَرَنِى} استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلًا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور، بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأن معنى {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضًا كأبي وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى، وأجاز أيضًا أن تكون {إِلا} صفة بمعنى غير على أن {مَا} في ما {تبعدون} نكرة موصوفة والتقدير إنني براءة من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني نظير قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك، والمسألة خلافية، فمن النحويين من قال إن إلا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقًا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة، وفي جعل الصلة {فَطَرَنِى} تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء (78) {يهدين} بدونها والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار، وقيل: المراد {سَيَهْدِينِ} إلى وراء ما هداني إليه أولًا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة.
{وَجَعَلَهَا} الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه السلام أو لله عز وجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله كما روى عن قتادة ومجاهد والسدي ويشعر بها قوله: {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] الخ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضًا كلمة لغة {كَلِمَةً باقية في عَقِبِهِ} في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل.
وقرأ حميد بن قيس {كَلِمَةَ} بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها، وقرىء {فِى عَقِبِهِ} بسكون القاف تخفيفًا و{فِى} أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فهيم، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء} أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَءابَاءهُمْ} بالمد في العمر والنعمة {حتى جَاءهُمُ الحق} دعوة التوحيد أو القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سببًا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى قوله سبحانه: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 1- 4]، و{بَلْ مَتَّعْتُ} إضراب عن قوله جل شأنه {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلمن يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي يمعت وشروع في المقصود ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني {لَعَلَّهُمْ} وفي (الحواشي الشهابية) أنه إضراب عن قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا} [الزخرف: 28] الخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعمًا أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولًا وقرأ قتادة والأعمش {بَلْ مَتَّعْتُ} بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضًا كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه: {وَجَعَلَهَا} الخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطبًا لنفسه.
أنت الداعي لاساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك، وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه، وقال (صاحب اللوامح): هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته عز وجل، وقال في (البحر): الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى قل يا رب متعت، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور، وقرأ الأعمش {مَتَّعْنَا} بنون العظمة.
{وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق} لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد {قالواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون} زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستحقاق به فسموا القرآن سحرًا وكفروا به واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَقالواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين} أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية، وقرىء {رَجُلٌ} بسكون الجيم {عظِيمٌ} بالجاه والمال قال ابن عباس: الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل، وقال قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول: لو كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقًا لنزل على أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولًا أن يكون النبي بشرًا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليمًا بل إنكارًا كأنه قيل: هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقًا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية.
وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ} إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من فات الربوبية {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} أسباب معيشتهم.
وقرأ عبد الله. وابن عباس. والأعمش. وسفيان {معايشهم} على الجمع {يُؤْمِنُونَ وَقال إِنَّمَا اتخذتم} قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علمًا منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزق وسائر مبادي المعاش {درجات} متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} ليستعمل بعضهم بعضًا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف، وقال الراغب: السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان، وقال السمين: إنه غير مناسب للمقام.
وقرأ عمرو بن ميمون. وابن محيصن: وابن أبي ليلى. وأبو رجاء. والوليد بن مسلم {سِخْرِيًّا} بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضًا، وفي قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} الخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل على الله عز وجل والانقطاع إليه جل جلاله:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم ** تلقه حقًا وبالحق نزل

{إِنَّ رَبَّكَ} أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، وقيل: الهداية والايمان، وقال قتادة والسدي: الجنة {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنىء الفاني. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها، من دون الله أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح تعالى في هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه كقوله تعالى: {قال أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 75- 78] الآية. وكقوله تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قال هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قال ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 78- 79].
وزاد جل وعلا في سورة الممتحنة براءته أيضًا من العابدين وعداوته لهم وبغضه لهم في الله، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ذكر نحوه في قوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين} [الشعراء: 78] وقوله تعالى: {وَقال إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وقوله تعالى: {فَلَمَّآ أَفَلَ قال لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} [الأنعام: 77].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} أي خلقني. يدل على أنه لا يستحق العبادة، إلا الخالق وحده جل وعلا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] الآية، وقوله تعالى: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} [الرعد: 16] وقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] الآية، وقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] وقوله تعالى: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 2- 3] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}.
الضمير المنصوب في جعلها على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله، المذكورة في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26- 27] لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات.
وهذا المعنى جاء موضحًا في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26].
ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله.
وهذا المعنى جاء موضحًا في قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27].
وضمير الفاعل المستتر في قوله: {وَجَعَلَهَا} [الزخرف: 28].
قال بعضهم: هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق.
وقال بعضهم: هو راجع إلى الله تعالى.
فعلى القول الأول فالمعنى صيَّر إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه أي ولده وولد ولده.
وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم لأنه تسبب لذلك بأمرين:
أحدهما: وصيته لأولاده بذلك وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه، فيوصي به السلف منهم الخلف، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين إِذْ قال لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} [البقرة: 130- 132] الآية.