فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41].
ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا ** لا تظهرن لنا ما كان مدفونا

وقول طرفة بن العبد:
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه ** إذ ذل مولى المرء فهو ذليل

والحاصل أن من قال هذا وقف، أو صدقة على قومي، أو موالي أنه إن كان هناك عرف خاص، وجب اتباعه في ذلك، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصًا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدًا دقيقًا.
وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله.
والعلم عند الله تعالى.
{وَقالوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}.
وقالوا: أي قال كفار مكة، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين، أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه، كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف. هو عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمرو بن عمير. وقيل هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولًا أن يبعث الله رسولًا من البشر كما أوضحناه مرارًا.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولًا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين:
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال، والجاه في الدنيا، موجبًا لاستحقاق النبوة. وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليس أهلًا لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 5- 6] الآية، وقوله في آخر القصص {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [القصص: 86] الآية، وقوله في آخر الأنبياء {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقد قدمنا الآيات الدالة، على إطلاق الرحمة: والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} [الكهف: 65] الآية.
وقدمنا معاني إطلاق الرحمة، في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [32] يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم، في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنيًا، وهذا فقيرًا، وهذا رفيعًا، وهذا وضيعًا، وهذا خادمًا، وهذا مخدومًا، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم، حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها.
بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيّا} التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير.
ومعنى تسخير بعضهم لبعض، خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض، لأن نظام العالم في الدنيا، يتوقف قيامه على ذلك فمن حكمته جل وعلا، أن يجعل هذا فقيرًا مع كونه قويًا قادرًا على العمل، ويجعل هذا ضعيفًا لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة، لكل منهما وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أنقص شرفًا، وقدرًا من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في (ص) في قوله تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} [ص: 8] الآية.
فقول كفار مكة {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] معناه إنكارهم، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله، وجاهه وشرفه فيهم.
وقد قال قوم صالح، مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى منهم {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25].
فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة.
كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قال الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قولهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] وقال تعالى: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قالواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124] وقوله تعالى في المدثر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قال مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن.
وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم، وتسفيه عقولهم، في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]. فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام.
لأنه تعالى لما قال: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قالواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124] أتبع ذلك بقوله، ردًا عليهم، وإنكارًا لمقالتهم {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
ثم أوعدهم على ذلك بقوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124].
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71].
وقوله تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] وقوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] وقوله تعالى: {ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] وقوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] الآية.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك بقوله هنا {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. يعني أن النبوة، والاهتداء يهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى، في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وقوله تعالى في آل عمران {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157].
مسألة:
دلت هذه الآيات الكريمة، المذكورة هنا، كقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] الآية.
وقوله: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} [النحل: 71] الآية ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ سنة، من سنن الله السماوية الكونية، القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض، البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس، في معايشهم أمر باطل. لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم، بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها، كيف شاءوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد. وغيرهم من عامة الشعب. محرومون من كل خير. مظلومون في كل شيء. حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة، كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
وقوله: {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)}.
لما ذكَّرهم الله بالأمم الماضية وشبه حالهم بحالهم ساق لهم أمثالًا في ذلك من مواقف الرسل مع أممهم منها قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه.
وابتدأ بذكر إبراهيم وقومه إبطالًا لقول المشركين: {إنا وجدْنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]، بأن أوْلى آبائهم بأن يقتدوا به هو أبوهم الذي يفتخرون بنسبته إبراهيم.
وجملة {وإذ قال إبراهيم} عطف على عموم الكلام السابق من قوله: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ} [الزخرف: 23] إلى قوله: {وإذ قال إبراهيم}، وهو عطف الغرض على الغرض.
و{إذْ} ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذْكُر إذ قال إبراهيم، ونظائر هذا كثيرة في القرآن كما تقدم في قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30).
والمعنى: واذكر زمان قول إبراهيم لأبيه وقومه قولا صريحًا في التبرّؤ من عبادة الأصنام.
وخُصَّ أبو إبراهيم بالذكر قبلَ ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم اهتمامًا بذكره لأن براءة إبراهيم مما يَعبُد أبُوه أدَلُّ على تجنب عبادة الأصنام بحيث لا يتسامح فيها ولو كان الذي يعبدها أقربَ النّاس إلى موحّد الله بالعبادة مثل الأببِ، ولتكون حكاية كلام إبراهيم قدوة لإبطال قول المشركين {وإنّا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22] قال تعالى: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله} [الممتحنة: 4] أي فما كان لكم أن تقتدوا بآبائكم المشركين وهلا اقتديتم بأفضل آبائكم وهو إبراهيم.
والبَرَاء بفتح الباء مصدر بوزن الفَعال مثل الظَّماء والسّماع يخبر به ويوصف به في لغة أهل العالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة مما وراء مكّة وأما أهل نجد فيقولون بَريء.
والاستثناء في قوله: {إلا الذي فطرني} استثناء من (ما تعبدون)، و(ما) موصولة أي من الذين تعبدونهم فإن قوم إبراهيم كانوا مشركين مثل مشركي العرب.
وقد بسطنا ذلك فيما تقدم عند قوله: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتّخذ أصنامًا آلهة} [الأنعام: 74].
وفرع على هذا قوله: {فإنه سيهدين} لأن قوله: {إنني براء مما تعبدون} يتضمن معنى: إنني اهتديت إلى بطلان عبادتكم الأصنام بهدي من الله.
وسين الاستقبال مؤذنة بأنه أخبرهم بأن هداية الله إياه قد تمكنت وتستمر في المستقبل، ويفهم أنها حاصلة الآن بفحوى الخطاب.
وتوكيد الخبر بـ (إنّ) منظور فيه إلى حال أبيه وقومه لأنهم ينكرون أنه الآن على هدى فهم ينكرون أنه سيكون على هدى في المستقبل.
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}.
عطف على {إذ قال إبراهيم} [الزخرف: 26] أي أعلن تلك المقالة في قومه معاصريه وجعلها كلمة باقية في عقبه ينقلونها إلى معاصريهم من الأمم.
إذ أوصى بها بنيه وأن يوصوا بَنِيهم بها، قال تعالى في سورة البقرة (131 132) {إذ قال لَه ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَنِيَّ إن الله اصطفى لكم الدّين فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون} فبتلك الوصية أبقى إبراهيم توحيد الله بالإلهية والعبادة في عقبه يبثونه في النّاس.
ولذلك قال يوسف لصاحبيه في السجن {يا صاحبيَ السجن آربْاب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39] وقال لهما {إنّي تركتُ ملة قوممٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعتُ ملة آبائِيَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} إلى قوله: {ولكن أكثر النّاس لا يعلمون} [يوسف: 37 40].
فضمير الرفع في {جعلها} عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله: {لعلهم يرجعون} ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير {جعلها}.
وحكى في (الكشاف) إنه قيل: الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام أبي بكر بن العربي.