فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا وجه الاستدلال.
والسخريّ بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين.
وقرأ ابن محيص في الشاذّ بكسر السين: اسم للشيء المسخر، أي المجبور على عملٍ بدون اختياره، واسمٌ لمن يُسْخَر به، أي يستهزأ به كما في (مفردات) الراغب و(الأساس) و(القاموس).
وقد فُسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي.
وقال ابن عطية: هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخُّلَ لمعنى الهُزء في هذه الآية.
ولم يَقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل.
واقتصر الطبري على معنى التسخير.
فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية.
وإيثار لفظ {سخريًا} في الآية دون غيره لتحمُّله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضًا في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضًا، وعليه فسّر الزمخشري وابن عطية وقاله السُّدي وقتادة والضحاك وابن زيد، فلام {ليتخذ} لام التعليل تعليلًا لفعل {قسمنا}، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسبابَ معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله: {بعضهم بعضًا} عامًا في كل بعض من النّاس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمِل لغيره وهو مستعمَل لغيرٍ آخر.
ويجوز أن تكون اسمًا من السُّخرية وهي الاستهزاء.
وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل {فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحَزَنًا} [القصص: 8] وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى: {فاتّخذتموهم سُخْريًّا} في سورة قد أفلح المؤمنون (110).
وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى: {فاتّخذتموهم سخريًّا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون} [المؤمنون: 110] وقوله: {أتَّخَذْناهم سُخريًا أم زاغت عنهم الأبصار} [ص: 63].
ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارُهم أن يكون اتخاذُ بعضهم لبعض مَسخرة علةً لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات، ولكنَّ تأويل اللّفظ واسع في نظائره وأشباهه.
وتأويل معنى اللام ظاهر.
وجملة {ورحمة ربك خير مما يجمعون} تذييل للرد عليهم، وفي هذا التذييل ردّ ثانٍ عليهم بأن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله فهي خير مما يجمعون من المال الذي جعلوه سبب التفضيل حين قالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فإن المال شيء جَمَعه صاحبه لنفسه فلا يكون مثل اصطفاء الله العبد ليرسله إلى النّاس.
ورحمة الله: هي اصطفاؤه عبدَه للرسالة عنه إلى الناس، وهي التي في قوله: {أهم يقسمون رحمة ربك}، والمعنى: إذا كانوا غير قاسمين أقل أحوالهم فكيف يقسمون ما هو خير من أهم أمورهم. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}.
لم يكفهم أن جعلوا لله ولدًا، وجعلوه إناثًا، وجعلوهم من الملائكة، وهذا من جهلهم بالله وصفاته، واستخفافهم بالملائكة، حيث نسبوا إليهم الأنوثة.
وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، والابنان، ونافع: عند الرحمن، ظرفًا، وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة لقوله: {إن الذين عند ربك} وقرأ عبد الله، وابن عباس، وابن جبير، وعلقمة، وباقي السبعة: عباد الرحمن، جمع عبد لقوله: {بل عباد مكرمون} وقرأ الأعمش: عباد الرحمن، جمعًا.
وبالنصب، حكاها ابن خالويه، قال: وهي في مصحف ابن مسعود كذلك، والنصب على إضمار فعل، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وأنشأوا عباد الرحمن إناثًا.
وقرأ أبيّ عبد الرحمن: مفردًا، ومعناه الجمع، لأنه اسم جنس.
وقرأ الجمهور: وأشهدوا، بهمزة الاستفهام داخلة على شهدوا، ماضيًا مبنيًا للفاعل، أي أحضروا خلقهم، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدي.
وقيل: سألهم الرسول عليه السلام: «ما يدريكم أنهم إناث»؟ فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون} عنها، أي في الآخرة.
وقرأ نافع: بهمزة داخلة على أشهدوا، رباعيًا مبنيًا للمفعول بلا مد بين الهمزتين.
والمسبى عنه: بمدة بينهما؛ وعليّ بن أبي طالب، وابن عباس، ومجاهد، وفي رواية أبي عمرو، ونافع: بتسهيل الثانية بلا مد؛ وجماعة: كذلك بمد بينهما.
وعن عليّ والمفضل، عن عاصم: تحقيقهما بلا مد؛ والزهري وناس: أشهدوا بغير استفهام، مبنيًا للمفعول رباعيًا، فقيل: المعنى على الاستفهام، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها.
وقيل: الجملة صفة للإناث، أي إناثًا مشهدًا منهم خلقهم، وهم لم يدعوا أنهم شهدوا خلقهم، لكن لما ادّعوا لجراءتهم أنهم إناث، صاروا كأنهم ادعوا ذلك وإشهادهم خلقهم.
وقرأ الجمهور: إناثًا، وزيد بن عليّ: أنثًا، جمع جمع الجمع.
قيل: ومعنى وجعلوا: سموا، وقالوا: والأحسن أن يكون المعنى: وصيروا اعتقادهم الملائكة إناثًا، وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم، والمعنى: إظهار فساد عقولهم، وأن دعاويهم مجردة من الحجة، وهذا نظير الآية الطاعنة على أهل التنجيم والطبائع: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم} وقرأ الجمهور: ستكتب، بالتاء من فوق مبنيًا للمفعول.
شهادتهم: بالرفع مفردًا؛ والزبيري كذلك، إلا أنه بالياء؛ والحسن كذلك، إلا أنه بالتاء، وجمع شهادتهم؛ وابن عباس، وزيد بن عليّ، وأبو جفعر، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والجحدري، والأعرج: بالنون مبنيًا للفاعل، شهادتهم على الإفراد.
وقرأ فرقة: سيكتب بالياء مبنيًا للفاعل، أي الله؛ شهادتهم: بفتح التاء.
والمعنى: أنه ستكتب شهادتهم على الملائكة بأنوثتهم.
ويسألون: وهذا وعيد.
{وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم}: الضمير للملائكة.
قال قتادة ومقاتل: في آخرين.
وقال مجاهد: الأوثان علقوا انتفاء العبادة على المشيئة، لكن العبادة وجدت لما انتفت المشيئة، فالمعنى: أنه شاء العبادة، ووقع ما شاء، وقد جعلوا إمهال الله لهم وإحسانه إليهم، وهم يعبدون غيره، دليلًا على أنه يرضى ذلك دينًا.
وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في أواخر الأنعام، وفي الكلام حذف، أي فنحن لا نؤاخذ بذلك، إذ هو وفق مشيئة الله، ولهذا قال: {ما لهم بذلك من علم}، أي بما ترتب على عبادتهم من العقاب، {إن هم إلا يخرصون}: أي يكذبون.
وقيل: الإشارة بذلك إلى ادعائهم أن الملائكة إناث.
وقال الزمخشري: هما كفرتان مضمومتان إلى الكفرات الثلاث، وهم: عبادتهم الملائكة من دون الله، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئه، كما يقول إخوانهم المجبرة. انتهى.
جعل أهل السنة أخوات للكفرة عباد الملائكة، ثم أورد سؤالًا وجوابًا جاريًا على ما اختاره من مذهب الاعتزال، يوقف على ذلك في كتابه، ولما نفى عنهم، علم ترك عقابهم على عبادة غير الله، أي ليس يدل على ذلك عقل.
نفى أيضًا أن يدل على ذلك سمع، فقال: {أم آتيناهم كتابًا} من قبل نزول القرآن، أو من قبل إنذار الرسل، يدل على تجويز عبادتهم غير الله، وأنه لا يترتب على ذلك.
ثم أخبر تعالى أنهم في ذلك مقلدون لآبائهم، ولا دليل لهم من عقل ولا نقل.
ومعنى: {على أمّة}: أي طريقة ودين وعادة، فقد سلكنا مسلكهم، ونحن مهتدون في اتباع آثارهم؛ ومنه قول قيس بن الحطيم:
كنا على أمّة آبائنا ** ويقتدى بالأول الآخر

وقرأ الجمهور: أمّة، بضم الهمزة.
وقال مجاهد، وقطرب: على ملة.
وقال الجوهري: والأمّة: الطريقة، والذي يقال: فلان لا أمّة له: أي لا دين ولا نحلة.
قال الشاعر:
وهل يستوي ذو أمّة وكفور

وتقدّم الكلام في أمّة في قوله: {وادّكر بعد أمّة} وقرأ عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، والجحدري: بكسر الهمزة، وهي الطريقة الحسنة لغة في الأمّة بالضم، قاله الجوهري.
وقرأ ابن عباس: أمّة، بفتح الهمزة، أي على قصد وحال، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول.
وحكى مقاتل: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وأبي سفيان، وأبي جهل، وعتبة، وشيبة بن أبي ربيعة من قريش، أي كما قال من قبلهم أيضًا، يسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
والمترف: المنعم، أبطرتهم النعمة، فآثروا الشهوات، وكرهوا مشاق التكاليف.
وقرأ الجمهور: قل على الأمر؛ وابن عامر وحفص: قال على الخبر.
وقرأ الجمهور: جئتكم، بتاء المتكلم؛ وأبي جعفر، وشيبة، وابن مقسم، والزعفراني، وأبو شيخ الهنائي، وخالد: جئناكم، بنون المتكلمين.
والظاهر أن الضمير في قال، أو في قل، للرسول، أي: قل يا محمد لقومك: أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم؟ وهذا تجهيل لهم، حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل.
{قالوا إنا بما أرسلتم}، أنت والرسل قبلك.
غلب الخطاب على الغيبة.
{فانتقمنا منهم} بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
{فانظر كيف كان عاقبة} من كذبك.
وقال ابن عطية في قال: ضمير يعود على النذير، وباقي الآية يدل على أن قل في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير.
ولو: في هذا الموضع، كأنها شرطية بمعنى: إن، كان معنى الآية: أو إن جئتكم بأبين وأوضح مما كان عليه آباؤكم، يصحبكم لجاجكم وتقليدكم، فأجاب الكفار حينئذ من الأمم المكذبة بأنبيائها، كما كذبت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعين ما قاله، بل الظاهر هو ما قدمناه.
{وإذ قال ابراهيم لقومه}: وذكر العرب بحال جدّهم الأعلى، ونهيه عن عبادة غير الله، وإفراده بالتوحيد والعبادة هزؤًا لهم، ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم، إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقلد أباه في عبادة الأصنام، فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين، وترجعوا إلى النظر واتباع الحق.
وقرأ الجمهور: براء، مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما، يقال: نحن البراء منك، وهي لغة العالية.
وقرأ الزعفراني والقورصي، عن أبي جعفر وابن المناذري، عن نافع: بضم الباء؛ والأعمش: برىء، وهي لغة نجد وشيخيه، ويجمع ويؤنث، وهذا نحو: طويل وطوال، وكريم وكرام.
وقرأ الأعمش: إني، بنون مشددة دون نون الوقاية؛ والجمهور: إنني، بنونين، الأولى مشددة.
والظاهر أن قوله: {إلا الذي فطرني} استثناء منقطع، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم.
وقيل: كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة، فيكون استثناء متصلًا.
وعلى الوجهين، فالذي في موضع نصب، وإذا كان استثناء متصلًا، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم.
وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجرورًا بدلًا من المجرور بمن، كأنه قال: إنني براء مما تعبدون، إلا من الذي.
وأن تكون إلا صفة بمعنى: غير، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} انتهى.
ووجه البدل لا يجوز، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام.
ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له؟ وإنني بريء، جملة موجبة، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا.
وعن الزمخشري: كون بريء، فيه معنى الانتفاء، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا.
وأما تقديره ما نكرة موصوفة، فلم يبقها موصولة، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة.
وهذه المسألة فيها خلاف.
من النحويين من قال: توصف بها النكرة والمعرفة، فعلى هذا تبقى ما موصولة، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة، وجعله فطرني في صلة الذي.
تنبيه:
على أنه لا يعبد ولا يستحق العبادة إلا الخالق للعباد.
{فإنه سيهدين}: أي يديم هدايتي، وفي مكان آخر: {الذين خلقني فهو يهدين} فهو هاديه في المستقبل.
والحال والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم، وقيل على الله.
والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها، وهي قوله: {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني}.
وقال قتادة ومجاهد والسدي: لا إله إلا الله، وإن لم يجر لها ذكر، لأن اللفظ يتضمنها.
وقال ابن زيد: كلمة الإسلام لقوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت} {هو سماكم المسلمين} وقرأ حميد بن قيس: كلمة، بكسر الكاف وسكون اللام.
وقرىء: في عقبه، بسكون القاف، أي في ذريته.
وقرىء: في عاقبه، أي من عقبه، أي خلقه.
فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده.
لعلهم: أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم.
وقرأ الجمهور: بل متعت، بتاء المتكلم، والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه السلام من العرب.