فصل: تفسير الآيات (33- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لما قال: {في عقبه}، قال تعالى: لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم في كفرهم، فليسوا ممن تعقب كلمة التوحيد فيهم.
وقرأ قتادة والأعمش: بل متعت، بتاء الخطاب، ورواها يعقوب عن نافع.
قال صاحب اللوامح: وهي من مناجاة إبراهيم عليه السلام ربه تعالى.
والظاهر أنه من مناجاة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: قال يا رب بل متعت.
وقرأ الأعمش: متعنا، بنون العظمة، وهي تعضد قراءة الجمهور.
{حتى جاءهم الحق}، وهو القرآن؛ {ورسول مبين}، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فما وجه من قرأ: {بل متعت}، بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله: {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}، فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد.
وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببًا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادًا، فمثاله: أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.
فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع، ثم أردفه قوله: {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر}، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع: ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته.
فقال عز وعلا: بل اشتغلوا عن التوحيد {حتى جاءهم الحق ورسول مبين}، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: {ولما جاءهم الحق}، جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلى الله عليه وسلم من أهل زمانه بقولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم.
انتهى، وهو حسن لكن فيه إسهاب.
والضمير في: وقالوا، لقريش، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولًا، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم.
فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع، ناقضوا فيما يخص محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم كان محمدًا، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال.
وقرىء: على رجل، بسكون الجيم.
من القريتين: أي من إحدى القريتين.
وقيل: من رجل القريتين، وهما مكة والطائف.
قال ابن عباس: والذي من مكة: الوليد بن المغيرة المخزومي، ومن الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة، وكنانة بن عبد ياليل.
وقال قتادة: الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي.
قال قتادة: بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش، وكان يقول: لو كان ما يقول محمد حقًا لنزل عليّ أو على ابن مسعود، يعني عروة بن مسعود، وكان يكنى أبا مسعود.
{أهم يقسمون رحمة ربك}؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم، كأنه قيل: على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها.
ثم في إضافته في قوله: {رحمة ربك}، تشريف له صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك.
ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى.
وإذا كان هو الذي تولى ذلك، وفاوت بينهم، وذلك في الأمر الفاني، فكيف لا يتولى الأمر الخطير، وهو إرسال من يشاء، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم.
وقرأ الجمهور: معيشتهم، على الإفراد؛ وعبد الله، والأعمش، وابن عباس، وسفيان: معائشهم، على الجمع.
والجمهور: سخريًا، بضم السين؛ وعمرو بن ميمون، وابن محيصن؛ وابن أبي ليلى، وأبو رجاء، والوليد بن مسلم، وابن عامر: بكسرها، وهو من التسخير، بمعنى: الاستعباد والاستخدام، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم.
ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه، ما أطاق ذلك وضاع وهلك.
ويبعد أن يكون سخريًا هنا من الهزء، وقد قال بعضهم: أي يهزأ الغني بالفقير.
وفي قوله: {نحن قسمنا}، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا، وهون على التوكل على الله.
وقال مقاتل: فاضلنا بينهم، فمن رئيس ومرءوس.
وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، غني اللسان، وهو مبسوط له؛ وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان، وهو مقتر عليه.
وقال الشافعي، رحمه الله:
ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس الفقير وطيب عيش الأحمق

ورحمة ربك: قيل النبوة، وقيل: الهداية والإيمان.
وقال قتادة والسدي: الجنة خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها. اهـ.

.تفسير الآيات (33- 39):

قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء، وكان التقدير: فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأرذال ابتلاء للعباد ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم، وعطف: عليه قوله مذكرًا بلطفه بالمؤمنين وبره لهم برفعه ما يقتضي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة: {ولولا أن يكون الناس} أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم {أمة واحدة} أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله {لجعلنا} أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضنا لها {لمن يكفر} وقوله: {بالرحمن} أي العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين.
ولما كان تزيين الظرف دائمًا بحسب زينة المظروف، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل، فقال مبدلًا من {لمن} بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع: {لبيوتهم} أي التي ينزلونها {سقفًا} أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعًا {من فضة} كأنه خصها لإفادتها النور {ومعارج} أي من فضة، وهي المصاعد من الدرج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج {عليها يظهرون} أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي {ولبيوتهم أبوابًا} أي من فضة أيضًا.
ولما كان إفراد السرير يوهم أنه واحد يدار به على الكل، جمع ليفهم أن لكل واحد ما يخصه من الأسرة بخلاف السقف فإنه لا يهوم ذلك فلعله قرئ بإفراده وجمعه، فقال: {وسررًا} بالجمع خاصة، ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله: {عليها يتكئون} ودل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله: {وزخرفًا} أي ذهبًا وزينة عامة كاملة.
ولما كان لفظ الزخرف دالًا على كون ذلك أمرًا ظاهريًا متلاشيًا عند التحقيق، دل عليه بقوله مؤكدًا لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك، وما كان مقررًا عندهم من أن السعيد في الأول سعيد في الآخرة على تقدير كونها: {وإن} أي وما {كل ذلك} أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعدًا مما يرضينا، ولأن صاحبه لا يزال فقيرًا وإن استوسقت له الدنيا ملكًا وملكًا، لأنه لابد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبونًا {لما} أي إلا- هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد: وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة، وما مؤكدة والخبر هو {متاع الحياة الدنيا} أي التي اسمها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة، وهو منقطع بالموت، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب {والآخرة} التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي.
ولما كانت الإضافة إلى الجليل دالة على جلالة المضاف إليه فقال: {عند ربك} وأشار بالوصف بالرب إلى أن الجلالة بالحسن والراحة، وبالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم في أعلى الغايات {للمتقين} أي الذين هم دائمًا واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم، وهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الأخرى» ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة من الجبابرة من زخرفة الأبنية وتركيب السقوف وغيرها من مساوئ الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة بالكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، وفي زمن الدجال من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنهم لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك.
ولما كان التقدير: ولكنا لم نجعل ذلك علمًا منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة لأن من وسع عليه في دنياه اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين، فساقه ذلك إلى كل سوء، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده بملك فهو له معين، عطف عليه قوله معبرًا عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصورًا لمن ينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيرًا عن ذلك {من يعش} أي يفعل فعل المعاشي، وهو من شاء بصره بالليل والنهار أو عمي على قراءة شاذة وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزًا {عن ذكر الرحمن} الذي عمت رحمته، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك، وهو شيء يسير جدًا، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظرًا ضعيفًا كنظر من عشي بصره {نقيض} أي نقرر ونسلط ونقدر عقابًا {له} على إعراضه عن ذكر الله {شيطانًا} أي شخصًا ناريًا بعيدًا من الرحمة يكون غالبًا محيطًا به مضيقًا عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل {فهو له قرين} مشدود به كما يشد الأسير، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعاميًا عن ذكر الله، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير، فذكر الله حصن حصين من الشيطان، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث، قال في القاموس: العشى مقصور: سوء البصر بالليل والنهار أو العمى، عشى كرضى ودعا، والعشوة بالضم والكسر: ركوب الأمر على غير بيان، قال ابن جرير: وأصل العشو النظر بغير ثبت لعلة في العين، وقال الرازي في اللوامع: وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء.
ولما كانت {من} عامة، وكان القرين للجنس، وأفرده لأنه نص على كل فرد، فكان التقدير: فإنهم ليحملونهم على أنواع الدنايا ويفتحون لهم أبواب الرذائل والبلايا، ويحسنون لهم ارتكاب القبائح والرزايا، عطف عليه قوله مؤكدًا لما في أنفس الأغلب- كما أشار إليه آخر الآية- أن الموسع عليه هو المهتدي، جامعًا دلالة على كثرة الضال: {وإنهم} أي القرناء {ليصدونهم} أي العاشين {عن السبيل} أي الطريق الذي من حاد عنه هلك، لأنه لا طريق في الحقيقة سواه.
ولما كانت الحيدة عن السبيل إلى غير سبيل، بل إلى معاطب لا يهتدي فيها دليل، عجبًا، أتبعه عجبًا آخر فقال: {ويحسبون} أي العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ: {أنهم مهتدون} أي عريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
ولما كان من ضل عن الطريق، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب ضم إلى العجبين الماضيين عجبًا ثالثًا بيانًا له على ما تقديره: ونملي لهذا العاشي استدراجًا له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته {حتى} وحقق الخبر بقوله: {إذا} ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد، فكان التعبير به أهول، وكان السياق دالًا على من الضمير له قال: {جاءنا} أي العاشي، ومن قرأ بالتثنية أراد العاشي والقرين {قال} أي العاشي تندمًا وتحسرًا لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل: {يا ليت بيني وبينك} أيها القرين {بعد المشرقين} أي ما بين المشرق والمغرب على التغليب- قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر؛ ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعًا له أنواع المذام: {فبئس القرين} أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض وأحسست في هذا الوقت بذلك الذي كنت تؤذيني به أنه أذى بالغ، فكنت كالذي يحك جسمه لما به من قروح متأكلة حتى يخرج منه الدم فهو في أوله يجد له لذة بما هو مؤلم له في نفسه غاية الإيلام.
ولما كان الإيلام قد يؤذي الجسد، وكان التقدير حتمًا بما هدى إليه السياق فيقال لهم: فلن ينفعكم ذلك اليوم يوم جئتمونا إذ تمنيتهم هذا التمني حين عاينتم تلك الأهوال اشتراككم اليوم في يوم الدنيا في الظلم وتمالؤكم عليه ومنافرة بعضكم لبعض، عطف عليه قوله: {ولن ينفعكم اليوم} أي في الدنيا شيئًا من نفع أصلًا {إذ} حين {ظلمتم} حال كونكم مشتركين في الظلم متعاونين عليه متناصرين فيه، وكل واحد منكم يقول لصاحبه سرورًا به وتقربًا إليه وتوددًا: يا ليت أنا لا نفترق أبدًا فنعم القرين أنت، فيقال لهم توبيخًا: {أنكم في العذاب} أي العظيم، وقدمه اهتمامًا بالزجر به والتخويف منه {مشتركون} أي اشتراككم فيه دائمًا ظلمكم أنفسكم ظلمًا باطنًا بأمور أخفاها الطبع على القلوب وهو موجب للارتباك في أشراك المعاصي الموصلة إلى العذاب الظاهر يوم التمني ويوم القيامة عذابًا ظاهرًا محسوسًا، وذلك كمن يجرح جراحة بالغة وهو مغمي عليه فهو معذب بها قطعًا، ولكنه لا يحس إلا إذا أفاق فهو كما تقول لأناس يريدون أن يتمالئوا على قتل نفس محرمة: لن ينفعكم اليوم إذ تتعاونون على قتله اشتراككم غدًا في الهلاك بالسجن الضيق والضرب المتلف وضرب الأعناق، مرادك بذلك زجرهم عن ظلمهم بتذكيرهم بأنهم يصلون إلى هذا الحال ويزول ما هم فيه من المناصرة فلا ينفعهم شيء منها- والله الموفق، فالآية من الاحتباك، وبه زال عنها ما كان من إعراب المعربين لها موجبًا للارتباك (فيا ليت)- إلى آخره، دال على تقدير ضده ثانيًا {ولن ينفعكم}- إلى آخره، دال على تقدير مثله أولًا. اهـ.