فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الخامسة من أحكام العُلْو والسُّفل.
إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتلّ السفل أو يريد صاحبه هَدْمَه؛ فذكر سُحْنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل.
ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل.
قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل.
قال: ولو انهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل؛ فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بِعْ ممن يبني.
وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله؛ لأن عليه إمّا أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو علو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط.
وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل.
وحديث النعمان بن بشير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجوْا جميعًا» أصلٌ في هذا الباب.
وهو حجة لمالك وأشهب.
وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضرّ به، وأنه إن أحدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر؛ لقوله عليه السلام: «فإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجوْا جميعًا» ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له في السنة.
وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد مضى في (الأنفال).
وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها، وقد مضى في (آل عمران) فتأمل كُلًا في موضعه تجده مبيَّنًا، والحمد لله.
قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} أي ولجعلنا لبيوتهم.
وقيل: {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن}.
{أَبْوَابًا} أي من فضة.
{وَسُرُرًا} كذلك؛ وهو جمع السرير.
وقيل: جمع الأسِرَّة، والأسِرّة جمع السرير؛ فيكون جمع الجمع.
{عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} الاتكاء والتَّوَكُّؤ: التحامل على الشيء؛ ومنه: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18].
ورجل تُكَأَة؛ مثال هُمَزَة؛ كثير الاتكاء.
والتُّكَأة أيضًا: ما يُتَّكأ عليه.
واتكأ على الشيء فهو متَّكِئ؛ والموضع متَّكأ.
وطعنه حتى أتكأه (على أَفْعَلَه) أي ألقاه على هيئة المُتَّكِئ.
وتوكأت على العصا.
وأصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فُعل باتزن واتعد.
{وَزُخْرُفًا} الزخرف هنا الذهب؛ عن ابن عباس وغيره.
نظيره: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] وقد تقدّم.
وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث.
وقال الحسن: النقوش؛ وأصله الزينة.
يقال: زخرفت الدار؛ أي زينتها.
وتزخرف فلان؛ أي تزين.
وانتصب {زُخْرُفًا} على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفًا.
وقيل: بنزع الخافض؛ والمعنى فجعلنا لهم سُقُفًا وأبوابًا وسررًا من فضة ومن ذهب؛ فلما حذف (من) قال: {وزخرفًا} فنصب.
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر {وإنّ كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} بالتشديد.
الباقون بالتخفيف؛ وقد ذكر هذا.
وروي عن أبي رجاء كسر اللام من {لَمَّا}؛ فـ: (ما) عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف؛ والتقدير: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، وحذفُ الضمير هاهنا كحذفه في قراءة من قرأ {مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] و{تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154].
أبو الفتح: ينبغي أن يكون (كل) على هذه القراءة منصوبة؛ لأنّ (إن) مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين (إن) النافية التي بمعنى ما؛ نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة.
{والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} يريد الجنة لمن اتقى وخاف.
وقال كعب: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يَحْزَن عبدي المؤمن لكلّلت رأس عبدي الكافر بالإكليل، ولا يتصدّع ولا ينبِض منه عرق بوجع.
وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب.
وأنشدوا:
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن ** إذًا لم يكن فيها معاش لظالم

لقد جاع فيها الأنبياء كرامةً ** وقد شَبِعت فيها بطون البهائم

وقال آخر:
تمتّع من الأيام إن كنت حازما ** فإنك فيها بين ناهٍ وآمِر

إذا أبقت الدنيا على المرء دينَه ** فما فاته منها فليس بضائر

فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ** ولا وزن رَقّ من جناح لطائر

فلم يرض بالدنيا ثوابًا لمحسن ** ولا رضي الدنيا عقابًا لكافر

قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقرأ ابن عباس وعكرمة {ومن يَعْشَ} بفتح الشين، ومعناه يعمى؛ يقال منه عَشِيَ يَعْشَى عَشًا إذا عَمِيَ.
ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر؛ ومنه قول الأعشى:
رأتْ رجلًا غائب الوافِدَيْـ ** ـنِ مختلفَ الخلق أعْشَى ضريرا

وقوله:
أأن رأت رجلًا أعشى أضَرَّ به ** رَيْبُ المنونِ ودَهْرٌ مُفْنِدٌ خَبِلُ

الباقون بالضم؛ من عشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى.
وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف؛ وأنشد:
متى تأتِه تَعْشُو إلى ضَوْء ناره ** تَجِد خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقدِ

وقال آخر:
لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره ** إذا الريح هبّت والمكان جديب

الجوهرِيّ: والعَشَا (مقصور) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار.
والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان.
وأعشاه الله فعشِي (بالكسر) يَعْشى عَشًى، وهما يَعْشَيان، ولم يقولوا يَعْشوان؛ لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تُركت في التثنية على حالها.
وتعاشى إذا أَرى من نفسه أنه أعشى.
والنسبة إلى أَعْشَى أعْشَوِيّ.
وإلى العَشِيّة عَشَوِيّ.
والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تَخْبِط بيديها كلّ شيء.
وركب فلان العشواء إذا خَبَط أمره على غير بصيرة.
وفلان خابطٌ خبطَ عشواء.
وهذه الآية تتصل بقوله أول السورة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا} [الزخرف: 5] أي نواصل لكم الذكر؛ فمن يَعْشُ عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نسبب له شيطانًا جزاء له على كفره {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قيل في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية؛ وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل في الآخرة إذا قام من قبره؛ قاله سعيد الجُرَيْرِي.
وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يُشْفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار.
وأن المؤمن يُشْفع بملَكَ حتى يقضي الله بين خلقه؛ ذكره المهدويّ.
وقال القشيري: والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة.
وقال أبو الهيثم والأزهري: عَشَوْت إلى كذا أي قصدته.
وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين (إلى) و(عن)؛ مثل: مِلْتُ إليه ومِلْتُ عنه.
وكذا قال قتادة: يَعْشُ، يُعْرِض؛ وهو قول الفراء.
النحاس: وهو غير معروف في اللغة.
وقال القُرَظي: يولّي ظهره؛ والمعنى واحد.
وقال أبو عبيدة والأخفش: تُظْلِم عينُه.
وأنكر العُتْبيّ عشوت بمعنى أعرضت؛ قال: وإنما الصواب تعاشيت.
والقول قول أبي الهيثم والأزهري.
وكذلك قال جميع أهل المعرفة.
وقرأ السلمِيّ وابن أبي إسحاق ويعقوب وعِصْمة عن عاصم وعن الأعمش {يقيّض} (بالياء) لذكر {الرَّحْمَن} أوّلًا؛ أي يقيّض له الرحمن شيطانًا.
الباقون بالنون.
وعن ابن عباس {يُقَيَّضْ لَهُ شَيْطَانٌ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي ملازم ومصاحب.
قيل: {فَهُوَ} كناية عن الشيطان؛ على ما تقدّم.
وقيل: عن الإعراض عن القرآن؛ أي هو قرين للشيطان.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل} أي وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى؛ وذكر بلفظ الجمع لأن (من) في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} في معنى الجمع.
{وَيَحْسَبُونَ} أي ويحسب الكفار {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم.
{حتى إِذَا جَاءَنَا} على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص؛ يعني الكافر يوم القيامة.
الباقون {جاءانا} على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جُعلا في سلسلة واحدة؛ فيقول الكافر: {يا ليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] ونحوه قول مقاتل.
وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الإفراد فالمعنى لهما جميعًا؛ لأنه قد عرف ذلك بما بعده؛ كما قال:
وعَيْن لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ** شُقَّت مآقيهما من أخَرْ

قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بُعْدَ مشْرِق أطول يوم في السنة إلى مَشْرِق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال: {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}.
وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغَلَّب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعُمَران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر.
وقال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع

وأنشد أبو عبيدة لجرِير:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ** والعُمَران أبو بكر ولا عمر

وأنشد سيبويه:
قَدْنِيَ من نَصْر الْخُبَيْبَيْن قدِى

يريد عبد الله ومصعبًا ابني الزبير، وإنما أبو خبيب عبد الله.
{فَبِئْسَ القرين} أي فبئس الصاحب أنت؛ لأنه يورده إلى النار.
قال أبو سعيد الخدرِيّ: إذا بُعث الكافِر زوّج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.
قوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} (إذ) بدل من اليوم؛ أي يقول الله للكافر: لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام؛ وهو قول الكافر: {يا ليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي لا تنفع الندامة اليوم.
{إِنَّكُمْ} بالكسر {فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه.
الباقون بالفتح.
وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه.
أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسّي كما يتأسّى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسّي يستروِحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة؛ فيسكن ذلك من حزنه؛ كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزّي النفس عنه بالتأسّي

فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسّي شيئًا لشغلهم بالعذاب.
وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم؛ لأن قُرَناءكم وأنتم في العذابِ مشترِكون كما اشتركتم في الكفر. اهـ.

.قال الألوسي: