فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضًا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان: لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفًا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جني: راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارًا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه إذ لا يجري عليه عز وجل زمان فكأن {إِذْ} مستقبل أو {اليوم} ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء: التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف لعلم به، وقال الحوفي: {إِذْ} متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلًا.
ومن الناس من استشكل الآية من حيث أن فيها إعمال {يَنفَعَكُمُ} الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن {اليوم} تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعريف الآن وان كان نوعًا منه.
وقيل: يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: {أَنَّكُمْ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وجوز أن يكون الفعل مسندًا إليه أي لن ينفكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ** وأذكره بكل مغيب شمس

ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** اعزى النفس عنه بالتأسي

فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] وقولكم: {فآتهم عذابًا ضعفًا من النار} [الأعراف: 38] لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع التعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابًا.
وقرأ ابن عامر {إِنَّكُمْ} بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولًا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظًا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلًا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافًا تعليليًا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ}.
{ولولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوعِ جوابها لأجل وقوع شرطها، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها.
لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين، بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرف: 32] وقوله: {ورحمة ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32]، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيرًا ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسبابًا نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثارًا مناسبة لها، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول.
وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية.
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]، فهذه الجملة عطف على جملة {ورحمت ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32].
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس، فيكون التعريف للاستغراق، أي جميع البشر.
والأمة: الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.
فالمعنى عليه: لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفارًا لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثرًا في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيئول المعنى إلى: لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقرأضِ الإيمان، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة، أي والله لا يحب انقرأض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله: {ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم} [هود: 118، 119] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم، أي أبقى بينهم بصيصًا من نور الهدى.
ويحتمل وهو الأولى عندي: أن يكون التعريف في {الناس} للعهد مرادًا به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى: {إن النّاس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء.
والمعنى: لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض، هذا لمالِه، وهذا لصناعته، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمان وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية.
وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزنًا فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال، فصار الكلام يقتضي مقدَّرًا محذوفًا تقديره لكن لا يكون النّاس سَواء في الغِنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه.
ويرجح هذا جعل متعلق فعل {يكفر} خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان {قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة.
ومعنى {لجعلنا لمن يكفر} لَقدَّرنا في نظام المجتمع البشري أسبابَ الثراء متصلةً بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سببًا ومجلبة للغنى، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفًا منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظًا منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها.
وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه.
واللام في قوله: {لبيوتهم} مثل اللام في قوله: {لمن يكفر بالرحمن}، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمان فيكون قوله: {لبيوتهم} بدلَ اشتمال ممّن يكفر بالرحمان.
وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو: مَن ذا أسعيد أم علي؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا: من ذا سعيد أم علي؟ وتقدم عند قوله تعالى: {ومن النخل مِن طَلْعِها قِنوانٌ دانيةٌ} في سورة الأنعام (99).
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمان في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قَرَن التحقيرِ، ثم يذكر ما يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب، وإذ قد كان الخبر كله مستغربًا كان حقيقًا بأن يُنْظَم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل.
وقرأ الجمهور {سُقُفًا} بضم السين وضم القاف جمع سَقف بفتح السين وسكون القاف وهو: البناء الممتد على جدران البيت المغطِّي فضاء البيت، وتقدم عند قوله تعالى: {فخرّ عليهم السقفُ من فوقهم} في سورة النحل (26) وهذا الجمع لا نظير له إلا رَهْن ورُهن ولا ثالث لهما.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {سَقْفًا} بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد.
والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله: {لبيوتهم} كأنه قيل: لكل بيت سقف.
والزخرف: الزينة قال تعالى: {زخرف القول غرورًا} في سورة الأنعام (112)، فيكون هنا عطفًا على {سقفًا} جمعًا لعديد المحاسن، ويُطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به، كقوله: {أو يكونَ لك بيتٌ من زخرفٍ} [الإسراء: 93]، فيكون {وزخرفًا} عطفًا على {سقفًا} بتأويل: لجعلنا لهم ذهبًا، أي لكانت سُقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذَهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلْوينها.
وابتدئ بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون، وأُخّر الذهب لأنه أندر في الحلي، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنوينًا ينقلب في الوقف ألفًا فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف.
ويجوز أن يكون لفظ {زخرفًا} مستعملًا في معنييه استعمال المشترك، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقُف والمعارج بالفضة.
و{معارج} اسمُ جمع مِعْراج، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي.
ومعنى {يظهرون}: يعلُون كما في قوله تعالى: {فما استطاعوا أن يَظْهروه} [الكهف: 97]، أي أن يتسوروه.
وسُرُر بضمتين: جمع سرير، وتقدم عند قوله تعالى: {على سُرُرٍ متقابلين} في سورة الصافات (44)، وفائدة وصفها بجملة {عليها يتكئون} الإشارة إلى أنهم يُعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب.
والمراد أن المعارج والأبواب والسُّرُر من فضة، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وُصف المعطوف عليه.
وذيّل بقوله: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} أي كل ما ذكر من السّقُف والمعارج والأبواب والسُرر من الفضة والذهب متاع الدنيا لا يعود على من أُعطِيه بالسعادة الأبدية وأما السعادة الأبدية فقد ادخرها الله للمتقين وليست كمثل البهارج والزينة الزائدة التي تصادف مختلِف النفوس وتكثر لأهل النفوس الضئيلة الخسيسة وهذا كقوله تعالى: {زُين للنّاس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوَّمة والأنعامِ والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المئاب} [آل عمران: 14].
وقرأ الجمهور {لما} بتخفيف الميم فتكون {إنْ} التي قبلها مخففة من (إنّ) المشددة للتوكيد وتكون اللام الداخلة على {لَمَا} اللامَ الفارقة بين (إنْ) النافية و(إنْ) المخففة و(ما) زائدة للتوكيد بين المضاف والمضاف إليه.
وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر {لَمَّا} بتشديد الميم فهي {لَمَّا} أخت (ألاَّ) المختصة بالوقوع في سياق النفي فتكون {إِنْ} نافية، والتقدير: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}.
ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفِه بأنه ذكر وبيان للنّاس، ووصف عناد المشركين في الصدّ عنه والإعراض، وأُعلموا بأن الله لا يتركُ تذكيرهم ومحاجّتهم لأنّ الله يدعو بالحق ويعد به.
وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم، وفي تنبيههم إلى دلائل حقّيّة ما يدعوهم إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، وفُضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالّون، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم، وتقضى ذلك بمزيد البيان، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقوله: {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر إلى قوله عظيم} [الزخرف: 30، 31]، وما ألحق به من التكملات، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سببًا لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد.
وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البيّن، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمى ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبْعًا على القلب وأكنَّة فيه وختمًا عليه ولا يضعُف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربّما أضاءت فصادفت قوةُ نور الحق حالةَ وهَن الشيطان فتتغلب القوة المَلكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله.
وقد أشار إلى ذلك قوله: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا إن كنتم قومًا مسرفين} [الزخرف: 5] كما تقدم هنالك، ولولا ذلك لَمَا ارعوى ضالّ عن ضلاله ولمَا نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.
فجملة {ومن يعش عن ذكر الرحمن} عطف على جملة {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحرٌ} [الزخرف: 30] الآية.
فجملة {ومن يعش عن ذكر الرحمن} تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم: {قلوبنا في أكِنَّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ} [فصلت: 5] بحال من يَعشو عن الشيء الظاهر للبصر.
و{يَعش}: مضارع عشا كغَزَا عَشْوًا بالواو، إذا نظر إلى الشيء نظرًا غير ثابت يُشبه نظر الأعشى، وأما العَشَا بفتح العين والشين فهو اسم ضُعف العين عن رؤية الأشياء، يقال: عَشِي بالياء مثل عرِج إذا كانت في بصره آفة العَشَا ومصدره عَشًى بفتح العين والقصر مثل العرج.
والفعل واوي عشا يعشو، ويقال عشِيَ يعشَى إذا صار العَشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيرًا على فَعِل بكسر العين مثل مرِض. وعشِي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.
فمعنى {ومن يعش} من ينظر نظرًا غير متمكن في القرآن، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل.
وعُدي {يعش} بـ {عن} المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمان وإلا فإن حقّ عشا أن يعدّى بـ (إلى) كما قال الحُطَيئَة: