فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن دريد:
وإنما المراد حديث بعده ** فكن حديثا حسنًا لمن وعا

وقال الآخر:
إنما الدنيا محاسنها ** طيب ما يبقى من الخبر

وذكر أن هلاون، ملك التتر، سأل أصحابه: من الملك؟ فقالوا: أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك.
فقال: لا الملك هذا، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات؟ يريد محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وسوف تسألون}، قال الحسن عن شكر هذه النعمة.
وقال مقاتل: المراد من كذب به يسأل سؤال توبيخ.
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}، قيل: هو على ظاهره، وأن جبريل عليه السلام قال له ليلة الإسراء، حين أم بالأنبياء: {وأسأل من أرسلنا}، فلم يسألهم، إذ كان أثبت يقينًا، ولم يكن في شك.
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن جبير، والزهري، وابن زيد، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل: هل سأل محمد عن ذلك؟ فقال: هو أعظم يقينًا وأوثق إيمانًا من أن يسأله ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وعطاء: أراد واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم، وليسوا مجتمعين في الدنيا.
قال الفراء: هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم، فكأنه سأل الرسل، والسؤال الواقع مجاز عن النظر، حيث لا يصلح لحقيقته، كثير منه مساءلة الشعراء الديار والأطلال، ومنه: سيد الأرض من شق نهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإنها إن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا.
فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم: هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات، فقيل له: اسأل أيها الناظر أتباع الرسل، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع، ولا يمكن أن يأتوا به.
وأبعد من ذهب إلى أن المعنى: واسألني، واسألنا عن من أرسلنا، وعلق واسأل، فارتفع من، وهو اسم استفهام على الابتداء، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض، كان سؤاله: من أرسلت يا رب قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى، فرد الخطاب إلى محمد في قوله: {من قبلك}. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمَ} أي واذكُرْ لهم وقتَ قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} المُكبِّينَ على التقليدِ كيفَ تبرأَ ممَّا هم فيهِ بقوله: {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسكَ بالبرهانِ ليسلكُوا مسلكَهُ في الاستدلالِ أو ليقلدوه إن لم يكُن لهم بدٌّ من التقليدِ فإنه أشرفُ آبائِهم وبَراءٌ مصدرٌ نُعتَ به مبالغةً ولذلكَ يستوِي فيه الواحدُ والمتعددُ والمذكرُ والمؤنثُ. وقرئ {بَرِيءٌ} و{بُرَاءٌ} بضمِّ الباءِ ككريمٍ وكرامٍ ومَا إمَّا مصدريةٌ أو موصولةٌ حذفَ عائدُها أيْ إننِي بريءٌ من عبادتِكم أو معبودِكم.
{إِلاَّ الذي فَطَرَنِى} استثناءٌ منقطعٌ أو متصلٌ على أنَّ مَا تعمُّ أولي العلم وغيرهم وأنَّهم كانُوا يعبدونَ الله والأصنامَ أو صفةٌ على أن مَا موصوفةٌ أي إنني براءٌ من آلهةٍ تعبدونَها غيرَ الذي فَطَرني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي سيثبتنِي على الهدايةِ أو سيهدينِ إلى ما وراءَ الذي هَدَاني إليهِ إلى الآنَ والأوجهُ أنَّ السينَ للتأكيدِ دونَ التسويفِ، وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على الاستمرارِ.
{وَجَعَلَهَا} أي جعلَ إبراهيمُ كلمةَ التوحيدِ التي ما تكلمَ به عبارةٌ عنْهَا {كَلِمَةً باقية في عَقِبِهِ} أي في ذريتِه حيثُ وصَّاهُم بها كما نطقَ به قوله تعالى: {ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} الآيةَ فلا يزالُ فيهم مَن يوحدُ الله تعالى ويدعُو إلى توحيدِه. وقرئ {كِلْمةً} و{في عقْبهِ} على التخفيفِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} علةٌ للجعلِ أي جعلَها باقةً في عقبهِ رجاءَ أنْ يرجعَ إليها من أشركَ منهم بدعاءِ الموحدِ {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء} إضرابٌ عن محذوفٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ: جعلَها كلمةً باقيةً في عقبهِ بأنْ وصَّى بها بنيهِ رجاءَ أنْ يرجعَ إليها مَنْ أشركَ منهم بدعاءِ الموحدِ فلم يحصلُ ما رجاهُ بل متعتُ منهم هؤلاءِ المعاصرينَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم من أهلِ مكةَ {وَءابَاءهُمْ} بالمدِّ في العمرِ والنعمةِ فاغترُّوا بالمهلةِ وانهمكُوا في الشهواتِ وشُغلوا بها عنْ كلمةِ التوحيدِ.
{حتى جَاءهُمُ} أي هؤلاءِ {الحق} أي القرآن {وَرَسُولٌ} أيُّ رسولٍ {مُّبِينٌ} ظاهرُ الرسالةِ واضحُها بالمعجزاتِ الباهرةِ، أو مبينٌ للتوحيدِ بالآياتِ البيناتِ والحججِ. وقرئ {متَّعنَا} و{متَّعتَ} بالخطابِ على إنَّه تعالى اعترضَ به على ذاتِه في قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية} الخ مبالغةً في تعييرِهم، فإنَّ التمتعَ بزيادةِ النعمِ يوجبُ عليهم أنْ يجعلُوه سببًا لزيادةِ الشكرِ والثباتِ على التوحيدِ والإيمانِ فجعلَه سببًا لزيادةِ الكُفرانِ أقصى مراتبِ الكفرِ والضلالِ.
{وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق} لينبههَمُ عمَّا هم فيهِ من الغفلةِ ويرشدَهُم إلى التوحيدِ ازدادُوا كفرًا وعَتَوا وضمُّوا إلى كفرِهم السابقِ معاندةَ الحقِّ والاستهانةَ بهِ حيثُ {قالواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون} فسمَّوا القرآن سِحْرًا، وكفُروا بهِ واستحقرُوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم.
{وَقالواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين} أي من إِحْدَى القريتينِ مكةَ والطائفِ على نهجِ قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} {عظِيمٌ} أي بالجاهِ والمالِ كالوليدِ بنِ المغيرةَ المخزوميِّ وعروةَ بنِ مسعودٍ الثقفيِّ وقيلَ: حبيبُ بنُ عُمرَ بنِ عميرٍ الثقفيَّ. وعن مجاهدٍ عتبةُ بنُ ربيعةَ وكنانةُ بنُ عبدِ ياليلَ ولم يتفوهُوا بهدهِ العظيمةِ حَسَدًا على نزولِه إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم دونَ مَنْ ذُكر من عظمائِهم مع اعترافِهم بقرآنيتِه بل استدلالًا على عدمِها بمَعْنى أنَّه لو كانَ قرآنا لنزلَ إلى أحدِ هؤلاءِ بناءً على ما زعمُوا من أنَّ الرسالةَ منصبٌ جليلٌ لا يليقُ بهِ إلا مَنْ له جلالةٌ من حيثُ المالُ والجاهُ ولم يدرُوا أنَّها رتبةٌ روحانيةٌ لا يترقَّى إليَها إلا هممُ الخواصِّ المختصينَ بالنفوسِ الزكيةِ المؤيدينَ بالقوةِ القدسية المتجلينَ بالفضائلِ الأنسيةِ، وأما المتزخرفونَ بالزخارفِ الدنيويةِ المتمتعونَ بالحظوظِ فهُم من استحقاقِ تلكَ الرتبةِ بألفِ منزلٍ.
وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} إنكارٌ فيهِ تجهيلٌ لهم وتعجيبٌ من تحكمِهم والمرادُ بالرحمةِ النبوةُ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} أي أسبابَ معيشتِهم {فِى الحياة الدنيا} قمسةً تقتضيَها مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ والمصالحِ ولم نفوضْ أمرَها إليهم علمًا منا بعجزِهم عن تدبيرِها بالكُلِّيةِ {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزقِ وسائرِ مبادِي المعاشِ {درجات} متفاوتة بحسبِ القُربِ والبُعدِ حسبَما تقتضيِه الحكمةُ فمنْ ضعيفٍ وقويَ وفقيرٍ وغنيَ وخادمٍ ومخدومٍ وحاكمٍ ومحكومٍ {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} ليُصرِّفَ بعضُهم بعضًا في مصالحِهم ويستخدمُوهم في مهمتِهم ويتسخرُوهم في أشغالِهم حتَّى يتعايشُوا ويترافدُوا ويصلُوا إلى مرافقِهم لا لكمالٍ في المُوسعِ ولا لنقصٍ في المُقترِ، ولو فوَّضنا ذلكَ إلى تدبيرِ خُويِّصةِ أمرِهم وما يُصلِحُهم من متاعِ الدُّنيا الدنيئةِ وهو طرفِ التّمام على هذه الحالةِ فما ظنُّهم بأنفسِهم في تدبيرِ أمرِ الدِّينِ وهو أبعدُ من مناطِ العَيُّوقِ ومنْ أينَ لهُم البحثُ عن أمرِ النبوةِ والتخيرُ لها مَنْ يصلُح لَها ويقومُ بأمرِها {وَرَحْمَتُ رَبّكَ} أي النبوةُ وما يتبعُها من سعادةِ الدارينِ {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطامِ الدُّنيا الدنيئةِ الفانيةِ.
وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة} استئنافٌ مبينٌ لحقارةِ متاعِ الدُّنيا ودناءةِ قدرهِ عندَ الله عزَّ وجلَّ، والمَعْنى أنَّ حقارةَ شأنِه بحيثُ لولا أنْ يرغبَ النَّاسُ لحبِّهم الدُّنيا في الكفرِ إذا رأَوا أهلَهُ في سَعةٍ وتنعمٍ فيجتمعُوا عليه لأعطيناهُ بحذافيرِه من هو شرُّ الخلائقِ وأدناهُم منزلةً وذلكَ قوله تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ} أي متخَذةً منها، ولبيوتِهم بدلُ اشتمالٍ منْ لِمَنْ. وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كَما أنَّ إِفرادَ المستكنِّ في يكفرُ باعتبارِ لفظِها. والسُّقُفُ جمعُ سَقْفٍ كرُهُنٍ جمعُ رَهْنٍ، وعن الفرَّاءِ أنَّه جمعُ سقيفةٍ كسفنٍ وسَفينةٍ. وقرئ {سُقْفًَا} بسكونِ القافِ تخفيفًا، و{سَقْفًَا} اكتفاءً بجمعِ البيوتِ، و{سَقَفًا} كأنَّه لغةٌ في سقفٍ وسقوفًا {وَمَعَارِجَ} أي جعلَنا لهم معارجَ من فضةٍ أي مصاعدَ جمعُ معَرْجٍ وقرئ {معاريَجِ} جمع معراجٍ {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي يعلُون السطوحَ والعلاليَ {وَلِبُيُوتِهِمْ} أي وجعلنَا لبيوتِهم {أبوابا وَسُرُرًا} من فضةٍ {عَلَيْهَا} أي على السررِ {يَتَّكِئُونَ} ولعل تكريرَ ذكرِ بيوتهم لزيادةِ التقريرِ.
{وَزُخْرُفًا} أي زينةً عطفٌ على سُقُفًا أو ذهبًا عطفٌ على محلَّ من فضةٍ.
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا} أيْ وما كُلُّ ما ذُكِرَ من البيوتِ الموصوفةِ بالصفاتِ المفصَّلةِ إلا شيءٌ يتمتعُ بهِ في الحياةِ الدُّنيا. وفي معناهُ ما قرئ: {ومَا كلُّ ذلكَ إلا متاعُ الحياةِ الدُّنيا} وقرئ بتخفيفِ مَا عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ، واللامُ هيَ الفارِقةُ. وقرئ بكسرِ اللامِ، على أنَّها لامُ العلةِ ومَا موصولةٌ قد حُذفَ عائدُها أي للذي هُو متاعُ الخ كما في قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} {والأخرة} بما فيَها من فنونِ النعم التي يقصُر عنها البيانُ.
{عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي عنِ الكفرِ والمعاصِي، وبهذا تبينَ أنَّ العظيمَ هو العظيمُ في الآخرةِ لا في الدُّنيا.
{وَمَن يَعْشُ} أيْ يتعامَ {عَن ذِكْرِ الرحمن} وهو القرآن. وإضافتُه إلى اسمِ الرَّحمنِ للإيذانِ بنزولِه رحمةً للعالمينَ. وقرئ {يعشَ} بالفتحِ، أي يعمَ يقال عَشَى يعْشَى إذا كانَ في بصرِه آفةٌ وعشَا يعشُو إذا تَعشَّى بلا آفةٍ كعَرَج وعَرُج. وقرئ {يعشُو} على أنَّ منْ موصولةٌ مضمنةٍ مَعْنى الشرطِ، والمَعْنى ومَنْ يُعرضْ عنه لفرطِ اشتغالِه بزهرةِ الحياة الدُّنيا وانهماكِه في حظوظِها الفانيةِ والشهواتِ.
{نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقُه ولا يزالُ يوسوسُه ويُغويهِ. وقرئ {يُقيضْ} بالياءِ، على إسناده إلى ضميرِ الرحمنِ، ومَنْ رفعَ {يعشُو} فحقُّه أنْ يرفعَ يقيضْ.
{وَإِنَّهُمْ} أي الشياطينَ الذين قُيضَ كلُّ واحدٍ منهم لكلِّ واحدٍ مِمَّن يعشُو {لَيَصُدُّونَهُمْ} أي قرناءَهُم فمدارُ جمعِ الضميرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كَما أنَّ مدارَ إفرادِ الضمائرِ السابقةِ اعتبارُ لفظِها.
{عَنِ السبيل} المستبينِ الذي يدعُو إليه القرآن {وَيَحْسَبُونَ} أي العاشُونَ {أَنَّهُمْ} أي الشياطينَ {مُّهْتَدُونَ} أي إلى السبيلِ المستقيمِ وإلا لما اتبعوهُم أو يحسبونَ أنَّ أنفسَهُم مهتدونَ لأنَّ اعتقادَ كونِ الشياطينِ مهتدينَ مستلزمٌ لاعتقادِ كونِهم كذلكَ لاتحادِ مسلكِهما. والجملةُ حالٌ من مفعولِ يصدونَ بتقديرِ المبتدأِ أو من فاعلِه أو منهُمَا لاشتمالِها على ضميريِهما أيْ وأنَّهم ليصدونُهم عن الطريقِ الحقِّ وهم يحسبونَ أنَّهم مهتدون إليهِ. وصيغةُ المضارعِ في الأفعال الأربعةِ للدلالةِ على الاستمرار التجدديِّ لقوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءنَا} فإنَّ حتَّى وإنْ كانتْ ابتدائيةً داخلةً على الجملةِ الشرطيةِ لكنَّها تقتضِي حتْمًَا أن تكونَ غايةً لأمرٍ ممتدَ كما مرَّ مِرارًا. وإفرادُ الضميرِ في جاءَ وما بعَدُه لما أنَّ المرادَ حكايةُ مقالة كلِّ واحدٍ واحدٍ من العاشقينَ لقرينه لتهويلِ الأمرِ وتفظيعِ الحالِ والمَعْنى يستمرُّ العاشقونَ على ما ذُكِرَ منْ مقارنةِ الشياطينِ والصدِّ والحُسبانِ الباطلِ حتَّى إذا جاءَنا كلُّ واحدٍ منهُم مع قرينهِ يومَ القيامةِ {قال} مُخاطبًا له {يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} في الدُّنيا {بُعْدَ المشرقين} أي بعدَ المشرقِ والمغربِ أي تباعُدَ كلَ منهما عن الآخرِ فغلَّبَ المشرقَ وثنَّى، وأُضيفَ البُعد إليهما {فَبِئْسَ القرين} أيْ أنتَ وقوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ} الخ حكايةٌ لما سيقال لهم حينئذٍ من جهةِ الله عزَّ وجلَّ توبيجًا وتقريعًا أي لنْ ينفعَكُم.
{اليوم} أي يومَ القيامةِ تمنّيكُم لمباعدتِهم.
{إِذ ظَّلَمْتُمْ} أي لأجلِ ظلمِكم أنفسَكم في الدُّنيا باتِّباعِكم إيَّاهُم في الكُفرِ والمَعَاصِي، وقيلَ: إذْ ظلمتُم بدلٌ منَ اليومَ أي إذْ تبينَ عندكُم وعندَ النَّاسِ جميعًا أَنكُم ظلمتُم أنفسَكُم في الدُّنيا وعليهِ قول منْ قال:
إذَا مَا انتسبنَا لم تلدنِي لئيمةٌ

أي تبينَ أنِّي لم تلدنِي لئيمةٌ بلْ كريمةٌ وقوله تعالى: {أَنَّكُمْ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} تعليلٌ لنفِي النفعِ أي لأنَّ حقكُم أنْ تشتركُوا أنتُم وقرناؤُكم في العذابِ كما كنتُم مشتركينَ في سببه في الدُّنيا، ويجوزُ أنْ يُسندَ الفعلُ إليهِ لكن لا بمعنى لنْ ينفعَكم اشتراكُكم في العذابِ كما ينفعُ الواقعين في شدائدِ الدُّنيا اشتراكُهم فيها لتعاونِهم في تحملِ أعبائِها وتقسّمِهم لعنائِها لأنَّ لكلَ منُهم ما لا تبلغُه طاقتُه كما قيلَ لأنَّ الانتفاعَ بذلكَ الوجهِ ليسَ مما يخطرُ ببالِهم حتى يردَّ عليهم بنفيهِ بل بمَعْنى لن يحصل لكم التشفِّي بكونِ قرنائِكم معذبينَ مثلَكم حيثُ كنتُم تدعونَ عليهم بقولكم:
{رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} وقولكم: {قال ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ} ونظائرِهما لتتشفَوا بذلكَ. كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبالغُ في المجاهدةِ في دعاءِ قومهِ وهُم لا يزيدونَ إلا غيًا وتعاميًا عمَّا يشاهدونَهُ من شواهدِ النبوةِ وتصامًَّا عما يسمعونَهُ من بيناتِ القرآن فنزلَ.
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى} وهو إنكارُ تعجيبٍ مِنْ أنْ يكونَ هُو الذي يقدرُ على هدايتِهم وهم قد تمرَّنُوا في الكفرِ واستعرقُوا في الضَّلالِ بحيثُ صارَ ما بهم من العَشَى عمىً مقرونًا بالصممِ.
{وَمَن كَانَ في ضلال مُّبِينٍ} عطفٌ على العُمي باعتبارِ تغايرِ الوصفينِ، ومدارُ الإنكارِ هو التمكنُ والاستقرار في الضلالِ المفرطِ بحيثُ لا ارعواءَ له منه لا توهُم القصورِ من قِبل الهادِي ففيهِ رمزٌ إلى أنَّه لا يقدرُ على ذلكَ إلا الله تعالى وحدَهُ بالقسرِ والإلجاءِ.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي فإنْ قبضناكَ قبلَ أنْ نُبصِّرك عذابَهم ونشفيَ بذلكَ صدركَ وصدورَ المؤمنينَ {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} لا محالةَ في الدُّنيا والآخرةِ. فَما مزيدةٌ للتأكيدِ بمنزلةِ لام القسمِ في أنَّها لا تفارقُ النونَ المؤكدةَ {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وعدناهم} أيْ أو أردنا أنْ نُريكَ العذابَ الذي وعدناهُم {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} بحيثُ لا مناصَ لهُم من تحتِ ملَكتِنا وقهرِنا، ولقد أراهُ عليه السلام ذلكَ يومَ بدرٍ {فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ} من الآياتِ والشرائعِ سواءٌ عجَّلنا لكَ الموعودَ أو أخرنَاهُ إلى يومِ الآخرةِ. وقرئ {أَوْحَى} علي البناءِ للفاعلِ، وهو الله عزَّ وجلَّ.
{إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} تعليلٌ للاستمساكِ أو للأمرِ بهِ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} لشرفٌ عظيمٌ {لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} يومَ القيامةِ عنْهُ وعنْ قيامِكم بحقوقِه.
{وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا} أي واسألْ أممَهم وعلماءَ دينِهم كقوله تعالى: {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} وفائدةُ هَذا المجازِ التنبيهُ على أنَّ المسؤولَ عنه عينُ ما نطقتْ به ألسنةُ الرسلِ لا ما يقوله أممُهم وعلماؤُهم من تلقاءِ أنفسِهم. قال الفَرَّاءُ: هُم إنما يخبرونَهُ عن كتبِ الرسلِ فإذا سألَهم فكأنَّه سأَل الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهةً يُعْبَدونَ} أي هلَ حكمنَا بعبادةِ الأوثانِ وهل جاءتْ في ملةٍ من مللِهم، والمرادُ به الاستشهادُ بإجماعِ الأنبياءِ على التوحيدِ، والتنبيهُ على أنَّه ليسَ بِبدْعٍ ابتدعَهُ حتى يكذّبَ ويُعادَى. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن}.
يقال: عشوت إلى النار: قصدتها، وعشوت عنها: أعرضت عنها، كما تقول: عدلت إلى فلان، وعدلت عنه، وملت إليه، وملت عنه، كذا قال الفراء، والزجاج، وأبو الهيثم، والأزهري.
فالمعنى: ومن يعرض عن ذكر الرحمن.
قال الزجاج: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن، وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينًا له، فلا يهتدى مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين.
وقال الخليل: العشو: النظر الضعيف، ومنه:
لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ** إذا الريح هبت والمكان جديب