فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفيه إشارة إلى أن من داوم عليه لم يقرنه الشيطان {وَإِنَّهُمْ} أي الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ} ليمنعون العاشين {عَنِ السبيل} عن سبيل الهدى {وَيَحْسَبُونَ} أي العاشون {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وإنما جمع ضمير {من} وضمير الشيطان لأن {من} مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه فجاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعًا {حتى إِذَا جَاءَنَا} على الواحد: عراقي غير أبي بكر أي العاشي {جاآنا} غيرهم أي العاشي وقرينه {قال} لشيطانه {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} يريد المشرق والمغرب فغلب كما قيل: العمران والقمران، والمراد بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق {فَبِئْسَ القرين} أنت.
{وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} إذ صح ظلمكم أي كفركم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين و(إذ) بدل من {اليوم} {أَنَّكُمْ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} {أَنَّكُمْ} في محل الرفع على الفاعلية أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا كقول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

ولا يبكون مثل أخي ولكن ** أعزي النفس عنه بالتأسي

أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه.
وقيل: الفاعل مضمر أي ولن ينفعكم هذا التمني أو الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه وهو الكفر، ويؤيده قراءة من قرأ {إِنَّكُمْ} بالكسر.
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} أي من فقد سمع القبول {أَوْ تَهْدِى العمى} أي من فقد البصر {وَمَن كَانَ في ضلال مُّبِينٍ} ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلال.
{فَإِمَّا} دخلت (ما) على (إن) توكيدًا للشرط، وكذا النون الثقيلة في {نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي نتوفينك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أشد الانتقام في الآخرة {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وعدناهم} قبل أن نتوفاك يعني يوم بدر {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} قادرون وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال بقوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} الآية.
ثم أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة بقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} الآيتين.
{فاستمسك} فتمسك {بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ} وهو القرآن واعمل به {إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي على الدين الذي لا عوج له {وَإِنَّهُ} وإن الذي أوحي إليك {لَذِكْرٌ لَّكَ} لشرف لك {وَلِقَوْمِكَ} ولأمتك {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له وعن شكركم هذه النعمة {وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء، وكفاه نظرًا وفحصًا نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها.
وقيل: إنه عليه السلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمهم، وقيل له: سلهم فلم يشكك ولم يسأل.
وقيل: معناه سل أمم من أرسل وهم أهل الكتابين أي التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال التقرير لعبدة الأوثان أنهم على الباطل.
و{سَلْ} بلا همزة: مكي وعلي {رُسُلُنَا} أبو عمرو.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإَِيْهِ فَقال إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين} ما أجابوه به عند قوله: {إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين} محذوف دل عليه قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بآياتنا} وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحرًا.
و(إذا) للمفاجأة وهو جواب {فلما} لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محل (إذا) كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.
{وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هي أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها في نقض العادة، وظاهر النظم يدل على أن اللاحقة أعظم من السابقة وليس كذلك بل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس.
يقال: هما أخوان كل واحد منهما أكرم من الآخر {وأخذناهم بالعذاب} وهو ما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} [الأعراف: 133] الآية.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الكفر إلى الإيمان {وَقالواْ ياأيه الساحر} كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لتعظيمهم علم السحر.
{وَقالواْ ياأيه الساحر} بضم الهاء بلا ألف: شامي.
ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة، أو بعهده عندك وهو النبوة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون به.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون العهد بالإيمان ولا يفون به {ونادى فِرْعَوْنُ} نادى بنفسه عظماء القبط أو أمر مناديًا فنادى كقولك (قطع الأمير اللص) إذا أمر بقطعه {فِى قَوْمِهِ} جعلهم محلًا لندائه وموقعًا له {قال ياقوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار} أي أنهار النيل ومعظمها أربعة {تَجْرِى مِن تَحْتِى} من تحت قصري.
وقيل: بين يدي في جناني.
والواو عاطفة للأنهار على {مُلْكُ مِصْرَ} و{تَجْرِى} نصب على الحال منها، أو الواو للحال واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة لاسم الإشارة، و{تَجْرِى} خبر للمبدأ، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان خادمه على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} قوتي وضعف موسى وغناي وفقره.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} (أم) منقطعة بمعنى (بل) والهمزة كأنه قال: أثبت عندكم وأستقر أني أنا خير وهذه حالي؟ {أمّن هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} الكلام لما كان به من الرتة {فَلَوْلآ} فهلا {أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسُوِرَةٌ} حفص ويعقوب وسهل جمع سوار، غيرهم {أساورة} جمع أسورة وأساوير جمع أسوار وهو السوار، حذف الياء من أساوير وعوض منها التاء {مِّن ذَهَبٍ} أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ} يمشون معه يقترن بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وأنصاره وأعوانه.
{فاستخف قَوْمَهُ} استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه.
وقيل: طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع {فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} خارجين عن دين الله {فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} (آسف) منقول من أسف أسفًا إذا اشتد غضبه ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن يعجل لهم عذابنا وانتقامنا وأن لا نحلم عنهم {فجعلناهم سَلَفًا} جمع سالف كخادم وخدم {سُلُفًا} حمزة وعلي، جمع سليف أي فريق قد سلف {وَمَثَلًا} وحديثا عجيب الشأن سائرًا مسير المثل يضرب بهم الأمثال ويقال مثلكم مثل قوم فرعون {لّلآخِرِينَ} لمن يجيء بعدهم، ومعناه فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلًا يحدثون به. اهـ.

.قال البيضاوي:

{حم} {والكتاب المبين} {إِنَّا جعلناه قُرْءانًا عَرَبِيًّا} أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنا عربيًا، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام:
وَثَنَايَاكَ أَنَّهَا إِغْرِيضُ

ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا معانيه.
{وَإِنَّهُ} عطف على أنا، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف.
{فِى أُمّ الكتاب} في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية، وقرئ {أم الكتاب} بالكسر.
{لَدَيْنَا} محفوظًا عندنا عن التغيير.
{لَّعَليٌّ} رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزًا من بينها.
{حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره. وهما خبران لأن {وَفِى أُمِّ الكتاب} متعلق بـ: {لَّعَليٌّ} واللام لا تمنعه، أو حال منه و{لَدَيْنَا} بدل منه أو حال من {أُمِّ الكتاب}.
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا} أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، قال طرفة:
اضْرِبْ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ** ضَرْبكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَسِ

والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب {عَنكُمُ الذكر}، و{صَفْحًا} مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك. وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفًا ويؤيده أنه قرئ {صَُفْحًا} بالضم، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه.
{أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} أي لأن كنتم، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإِعراض عنهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {إن} بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالًا لهم، وما قبلها دليل الجزاء.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ في الأولين} {وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِيٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه.
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبرًا عنهم.
{ومضى مَثَلُ الأولين} وسلف في القرآن قصتهم العجيبة، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالًا أقيم مقامه تقريرًا لإِلزام الحجة عليهم، فكأنهم قالوا {اللَّه} كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} فتستقرون فيها وقرئ غير الكوفيين {مهادًا} بالإلف.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} تسلكونها.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.
{والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ} بمقدار ينفع ولا يضر.
{فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} مال عنه الماء. وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان.
{كذلك} مثل ذلك الإِنشار.
{تُخْرَجُونَ} تنشرون من قبوركم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تخْرَجُونَ} بفتح التاء وضم الراء.
{والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أصناف المخلوقات.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال: ركبت الدابة وركبت في السفينة، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى.
{ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها.
{وَتَقولواْ سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف. وقرئ بالتشديد والمعنى واحد. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال» {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} إلى قوله: {وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي راجعون، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى.
{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} متصل بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولدًا فقالوا الملائكة بنات الله، ولعله سماه جزءًا كما سمي بعضًا لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، وقرأ أبو بكر {جزأ} بضمتين.
{إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه.
{أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين} معنى الهمزة في {أَمْ} للإِنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءًا حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلًا} بالجنس الذي جعله له مثلًا إذ الولد لابد وأن يماثل الوالد.
{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة.
{وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء قلبه من الكرب، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه، وتعريف البنين بما مر في الذكور، وقرئ {مسود} و{مسواد} على أن في {ظِلّ} ضمير المبشر و{وَجْهُهُ مُسْوَدّ} جملة وقعت خبرًا.
{أَوْ مِن يُنَشَّأُ في الحلية} أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات.
{وَهُوَ في الخصام} في المجادلة.
{غَيْرُ مُبِينٍ} مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حالة ولده و{فِى الخصام} متعلق بـ: {مُّبِينٌ}، وإضافة {غَيْرِ} إليه لا يمنعه لما عرفت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {يُنَشَّأُ} أي يربي. وقرئ {يُنَشَّأُ} و{يناشأ} بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى.
{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأيًا وأخسهم صنفًا. وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب {عند} على تمثيل زلفاهم. وقرئ {أنثًا} وهو جمع الجمع.
{أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثًا، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم به. وقرأ نافع {أَشْهَدُواْ} بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين، و{آأشهدوا} بمدة بينهما.