فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فلولا} أي: فهلا {ألقي عليه} عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة {أساورة} وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال: سوار المرأة وإسوارها والأصل: أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة، وقيل: بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية {من ذهب} ليكون ذلك إمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات، إذ كان من عادتهم أنهم إذا جعلوا واحدًا منهم رئيسًا لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى عليه السلام مثل عادتهم {أو جاء معه} أي: صحبته عندما جاء إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم {الملائكة} أي: هذا النوع وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: {مقترنين} أي: يقارن بعضهم بعضًا بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارنًا لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولًا إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه فأهلكه الله تعالى بها، إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله تعالى أهلكه الله به واستصغر موسى عليه السلام وعابه بالفقر والعي فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئًا إلا غلبه، أفاده القشيري.
{فاستخف} أي: بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب {قومه} الذين لهم قوة عظيمة فحملهم بغروره على ما كانوا مهينين له من خفة الحلم {فأطاعوه} أي: بأن أقروا بملكه واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه السلام {أنهم كانوا} أي: بما في جبلاتهم من الشر {قومًا فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
{فلما آسفونا} أي: أغضبونا في الإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد فقال: قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: {فلما آسفونا} أي: أغضبونا {انتقمنا منهم} أي: أوقعنا بهم على وجه المكافأة بما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج {فأغرقناهم أجمعين} أي: إهلاك نفس واحدة لم يلفت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم.
تنبيه:
ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى: إرادة العذاب ومعنى الانتقام: إرادة العقاب بجرم سابق وقال بعض المفسرين: معنى آسفونا: احزنوا أولياءنا.
{فجعلناهم} أي: بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه {سلفًا} أي: متقدمًا لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة أو قدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} (القصص:) {ومثلًا} أي: حديثا عجيب الشأن سائرًا سير المثل {للآخرين} أي: الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالًا لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى: فتحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب: سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني: أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث: أنها جمع سلف كاسد وأسد، وأما الثانية: فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون جمعًا لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفًا أي: تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل: سلفوا سلفًا فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الزخرف:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [1- 3] أي معانيه ومواعظه.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} أي: رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها: {حَكِيمٌ} أي: ذو الحكمة الجامعة.
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} أي: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم. وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير، بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط. ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قاله القاشاني.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} أي: قوة: {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي: سلف في القرآن في غير موضع منه، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم؛ أي: فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقولنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: مهادًا تستقرون عليها: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي: طرقًا تتطرقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم: {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ} أي: بمقدار الحاجة إليه. فلم يجعله طوفانًا يهلك، ولا رذاذًا لا ينبت، بل غيثًا مغيثًا: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} أي: أحيينا به بلدة ميتًا من النبات، قد درست من الجدب، وعفت من القحط: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: من بعد فنائكم، ومصيركم بالأرض.
{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: خلق كل شيء فزوّجه، فجعل منه الذكر والأنثى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي: من السفن والبهائم ما تركبونه: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي: مطيقين: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي: لصائرون إليه، وراجعون بعد مماتنا.
تنبيه:
في (الإكليل): في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته، أو دابته.
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أي: جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبًا، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. قال القاشاني: أي: اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما. وقد جسموه وجزأوه بإثبات الولد له، الذي هو بعض من الوالد، مماثل له في النوع، لكونهم ظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال، ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات، فيدركون الحقائق المجردة، والذوات المقدسة، فضلًا عن ذات الله تعالى. فكل ما تصوروا وتخيلوا، كان شيئًا جسمانيًا. ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة، والبعث، والنشور، وكل ما يتعلق بالمعاد؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية، أمور المعاش. فلا مناسبة أصلًا بين ذواتهم وذوات الأنبياء، إلا في ظاهر البشرية. فلا حاجة إلى ما وراءها. انتهى: {إِنَّ الْإِنْسَاْن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} أي: لجحودٌ نعم ربه، التي أنعمها عليه، يبين كفرانه لمن تدبر حاله.
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} أي: بل اتخذ. والهمزة للإنكار تجهيلًا لهم، وتعجيبًا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءًا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين وهو الإناث دون الذكور. على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث، وأمقتهم لهن، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، كأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة، فرضًا وتمثيلًا، أما تستحيون من الشطط في القسمة، ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما، ترك له شرهما وأدناهما؟ قاله الزمخشري.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} أي: من البنات: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي: من الكآبة، والغم، والحزن: {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مملوء قلبه من الكرب.
{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} أي: تربى في الزينة، يعني النبات: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} أي: في المجادلة: {غَيْرُ مُبِينٍ} أي: لمن خاصمه ببرهان، وحجة، لعجزه وضعفه. والمعنى: أو من كان كذلك جعلتموه جزءًا لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيب منهم؟.
تنبيه:
قال إلكيا الهراسي: في دليل على إباحة الحلي للنساء. وسئل أبو العالية من الذهب للنساء، فلم ير به بأسًا، وتلا هذه الآية.
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده، يسبحونه، ويقدسونه، إناثًا. فقالوا: هم بنات الله. جهلًا منهم بحق الله سبحانه، وجراءةً منهم على قيل الكذب.
قال القاشاني: لما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها، إما باعتبار اللفظ وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية، مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية- توهموا أنوثتها في الحقيقة، التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصامها بالله. فجعلوها بنات. وقلما يعتقدها العامي إلا صورًا إنسية لطيفة في غاية الحسن. انتهى.
{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟ وهو تجهيل لهم، وتهكم بهم: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي: على الملائكة بما هم مبرءون عنه: {وَيُسْأَلُونَ} أي: عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، وفيه من الوعيد ما فيه؛ لأن كتابتها، والسؤال عنها، يقتضي العقاب والمجازاة عليها، وهو المراد.
هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم وخصامهم وتعنتهم. وقد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور والمعاصي. وأهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح. وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء، الناطق به غير ما آية. ولما كانت هذه الآية وأخواتها من معارك الأنظار قديمًا وحديثا، آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين، جريًا على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم، وتحلية مصنفاتنا بها، فنقول: قال القاشاني: لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى، افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار. وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان، بل على سبيل العناد والإفحام. ولهذا ردهم الله تعالى بقوله (ما لهم بذلك من علم) إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله. فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره. إذ لا يرون حينئذٍ لغيره نفعًا ولا ضرًا (إن هم إلا يخرصون) لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل، حين عظموهم وخافوهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم، كما قال قوم هود (إِنْ نَقول إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ولما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم، أجاب بقوله (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) إلى قوله (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) انتهى.
وفي البيضاوي وحواشيه: إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها. يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى. فيكون مأمورًا بها أو حسنة. ويمتنع كونها منهيًا عنها أو قبيحة. وهذا الاستدلال باطل. لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنًا كان أو قبيحًا. ولذلك جهلهم في استدلالهم هذا. والحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلًا على امتناع النهي عن عبادتهم، أو على حسنها: لا إلى هذا القول، فإنه كلمة حق أريد به باطل. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف): نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئته تعالى، حتى الضلالة والهدى، اتباعًا لدليل العقل، وتصديقًا لنص النقل. في أمثال قوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدي مَن يَشَاءُ} وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدًا، ولا تفيده إلا تصويبًا وتسديدًا. فنقول: إذا قال الكافر (لو شاء الله ما كفرتُ) فهذه كلمة حق أراد بها باطلًا، أما كونها كلمة حق، فلما مهّدناه. وأما كونها أراد بها باطلًا، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهمًا أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضلّ، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه فعل مقتضى مشيئته.
ثمّ قال: فإذا وضح ما قلناه، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله. فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} و{إِنْ هُمْ إِلَّّا يَظُنُّون} وقد أفصحت أخت هذه الآية عن هذا التقدير. وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {سَيَقول الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، والإشراك بالله، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب وخيال مكذب، فقال: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون} ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله: {فلله الحجة البالغة} ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلاّ في احتجاجهم على الله بذلك. لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال: {فلو شاء لهداكم أجمعين} وهو معنى قولهم {لو شاء الله ما أشركنا} من حيث أن {لو} مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا، فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء، مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيًا وتيسرًا للهداية وغيرها، من الأفعال الكسبية، حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية فهذه الآية أقامت الحجة ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة فلا جرم أن أفهامهم تبددت وأفكارهم تبدلت فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا وأرشدهم إلى الطريق الوسطى فانتهجوا سبل السلام وساروا ورائد التوفيق لهم إمام مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة لكنها قدرة تقارن بلا تأثير وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير فهذا هو التحقيق والله ولي التوفيق. انتهى.
وقد سبق في آية الأنعام نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت.
وقوله تعالى: {أم ءاتيناهم كتابا من قبله} أي من قبل هذا القرآن {فهم به مستمسكون} أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك نظير قوله تعالى في الآية الأخرى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} يعني بالعلم كتابا موحى في ذلك.