فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أي: فاستفزهم بهذه المغالطات، وحملهم على أن يخفّوا له ويصدقوه: {فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا} أي: أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وآياته، وندائه بالساحر، ونكث العهود: {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال، الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال.
{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} أي: حجة للهالكين بعدهم: {وَمَثَلًا} أي: عبرة: {لِلْآخِرِينَ} أي: الناجين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}.
تعرض هذه السورة جانبًا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات؛ ومن جدال واعتراضات. وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائمًا في النفوس في كل زمان ومكان.
كانت الوثنية الجاهلية تقول: إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد، نصيبًا لله، ونصيبًا لآلهتهم المدعاة: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم} وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة. فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب وأنواع محرمة لحومها على الأكل: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى. فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعًا. وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها؛ لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة، ويتبعون خرافات وأساطير: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلًا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون}.
وكانت الوثنية الجاهلية تقول: إن الملائكة بنات الله؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم، فإنهم كانوا يختارون لله البنات! ويعبدونهم من دونه، ويقولون: إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة.
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق: {وجعلوا له من عباده جزءًا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودًا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابًا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}.
ولما قيل لهم: إنكم تعبدون أصنامًا وأشجارًا وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، وقيل لهم: إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار. حرفوا الكلام الواضح البين، واتخذوا منه مادة للجدل. وقالوا: فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟! ثم قالوا: إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله. فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس!
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل؛ ويبرئ عيسى عليه السلام مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه برىء: {ولما ضرب ابن مريم مثلًا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلًا لنبي إسرائيل} وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة. وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون.
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم، وأنها ملة التوحيد الخالص، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بها، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون}.
ولم يدركوا حكمة اختيار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال.
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون وزخرفًا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} ثم جاء بحلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة، وهوانها على الله، وهوان فرعون الذي اعتز بها، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفًا ومثلا للآخرين} حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة، تدور السورة، وتعالجها على النحو الذي تقدم. في أشواط ثلاثة تقدم أولها قبل هذا وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة. فلنأخذ في التفصيل:
{حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشًا ومضى مثل الأولين}.
تبدأ السورة بالحرفين: (حا. ميم) ثم يعطف عليهما قوله: {والكتاب المبين}.. ويقسم الله سبحانه بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين. وحاميم من جنس الكتاب المبين، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم. فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين. وهذان الحرفان كبقية الأحرف في لسان البشر آية من آيات الخالق، الذي صنع البشر هذا الصنع، وجعل لهم هذه الأصوات. فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن.
يقسم الله سبحانه بحا ميم والكتاب المبين، على الغاية من جعل هذا القرآن في صورته هذه التي جاء بها للعرب:
{إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون}.
فالغاية هي أن يعقلوه حين يجدونه بلغتهم وبلسانهم الذي يعرفون. والقرآن وحي الله سبحانه وتعالى جعله في صورته هذه اللفظية عربيًا، حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة، للحكمة التي أشرنا إلى طرف منها في سورة الشورى؛ ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها. والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي:
{وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي: أهي اللوح المحفوظ، أم هي علم الله الأزلي. فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا. ولكننا ندرك منه مفهومًا يساعد على تصورنا لحقيقة كلية. وحين نقرأ هذه الآية: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.. فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره. وهذا حسبنا. فهذا القرآن {عليّ حكيم} وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة. وإنه لكذلك! وكأنما فيه روح. روح ذات سمات وخصائص، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها. وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه. وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان: علي. حكيم.
وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها؛ ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض؛ ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف:
{أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين}.
ولقد كان عجيبًا وما يزال أن يعنى الله سبحانه في عظمته وفي علوه وفي غناه بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتابًا بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم، ويبين لهم طريق الهدى، ويقص عليهم قصص الأولين، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين.. ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون!
وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته، جزاء إسرافهم القبيح!
وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين، بعد إرسال النبيين:
{وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشًا ومضى مثل الأولين} فماذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشًا، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون؟
والعجيب كان في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله، وخلقه للسماوات والأرض. ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام!
والقرآن يعرض اعترافهم، ويرتب عليه نتائجه، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام. ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة:
{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدًا وجعل لكم فيها سبلًا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتًا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون}.
لقد كانت للعرب عقيدة نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السلام، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون، وأنه هوالله، فما يمكن في منطق الفطرة وبداهتها أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله. ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها:
{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم}.
وواضح أن هاتين الصفتين: {العزيز العليم} ليستا من قولهم. فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو (الله).. ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام. هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثرًا فعالًا في حياتهم وحياة هذا الكون. كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون، وخالقًا لهم كذلك. ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء. لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة.
والقرآن هنا يعلمهم أن الله، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض، هو {العزيز العليم}.. فهو القوي القادر، وهو العليم العارف. فيبدأ بهم من اعترافهم، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف.
ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء:
{الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلًا لعلكم تهتدون}.
وحقيقة جعل هذه الأرض مهدًا للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.
ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهدًا لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهدًا لبني الإنسان.
وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء؟
ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلًا! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقًا، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحيانًا بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا! ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجارًا!