فصل: تفسير الآيات (63- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {إنه لكم عدو مبين} تعليل للنهي عن أن يصدهم الشيطان فإن شأن العاقل أن يحذر من مكائد عدوه.
وعداوة الشيطان للبشر ناشئة من خبث كينونته مع ما انضمّ إلى ذلك الخبث من تنافي العنصرين فإذا التقى التنافي مع خبث الطبع نشأ من مجموعهما القصد بالأذى، وقد أذكى تلك العداوةَ حدث قارن نشأة نوع الإنسان عند تكوينه، في قصته مع آدم كما قصه القرآن غير مرة.
وحرف (إنَّ) هنا موقعه موقع فاء التسبب في إفادة التعليل. اهـ.

.تفسير الآيات (63- 67):

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قال قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلًا لبني إسرائيل، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال، وأمر باتباع الهادي، ونهى عن اتباع المضل، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة، فقال عاطفًا على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى: {وجعلناه مثلًا}: {ولما جاء عيسى} أي إلى بني إسرائيل بعد موسى عليهما الصلاة والسلام: {بالبينات} أي من الآيات المسموعة والمرئية، {قال} منبهًا لهم: {قد جئتكم} ما يدلكم قطعًا على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضًا {بالحكمة} أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال.
ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به، فكان التقدير: لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمرًا خاصًا هو من أحكم الحكمة فقال: {ولأبين لكم} أي بيانًا واضحًا جدًا {بعض الذي تختلفون} أي الآن {فيه} ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بيانًا يرده إلى المحكم، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه، وهو ما يكون بيانه كافيًا في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم ما لا لبس فيه، والمتشابه ما يكون ملبسًا، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علمًا وإيمانًا يرد المتشابه منه إلى المحكم، أو يعجز فيقول: الله أعلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر كله، فهو فعال لما يشاء، وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى، سبب عنه قوله تعالى: {فاتقوا الله} أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه {وأطيعون} فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه، فإني لا آخذ شيئًا إلا عنه، ولا أتلقى إلا منه، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى، وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
ولما أمرهم بطاعته، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه، فقال مؤكدًا لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب: {إن الله} أي الذي اختص بالجلال والجمال، فكان أهلًا لأن يتقى {هو} أي وحده {ربي وربكم} نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات {فاعبدوه} بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا.
ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعيًا على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغبًا فيه دالًا على اقتضائه الطاعة {هذا} أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه {صراط} أي طريق واسع جدًا واضح {مستقيم} لا عوج له.
ذكر ما يدل على أنه أتى بالحكمة من الإنجيل:
قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى: فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية- وقال مرقس: يونانية- خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول: ارحمني يا رب يا ابن داود! ابنتي بها شيطان رديء، فلم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين: اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا، أجاب وقال لهم: لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل، فأتت وسجدت له قائلة: يا رب أعني فأجاب: ليس هو جيدًا أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب، فقالت: نعم! يا رب، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيمة أمانتك يكون لك كما أردت، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة، وقال مرقس: فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه، فأخرجوه وحده من الشعب، وترك أصابعه في أذنيه، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال: الفاثًا الذي هو التفتح، وللوقت انفتح سمعه وسمع، وانحل رباط لسانه وتكلم مستويًا، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئًا فأتاهم فكانوا ينكرون كثيرًا ويبهتون جدًا، قائلين: ما أحسن كل شيء! يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون، وقال مرقس: ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى، وطلبوا منه أن يلمسه، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجًا من القرية، وتفل في عينيه ووضع يده عليه وسأله: ما ينظر؟ قال: أنظر الناس مثل الشجر يمشون، فوضع يده أيضًا على عينيه، فأبصر حينًا ونظر إلى كل شيء ظاهرًا، قال: ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه: ماذا يقول الناس في ابن الإنسان؟ فقال قوم: يوحنا المعمدان، وآخرون: إليا، وآخرون: إرميا، وواحد من الأنبياء، فقال لهم: فأنتم ماذا تقولون؟ أجاب سمعان بطرس-
وقال: أنت هو المسيح، أجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأنه ليس جسد يسعى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات، وما ربطته الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وما حللته على الأرض يكون محلولًا في السماوات، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشليم ويقبل الآمًا كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وقال: من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها، وما ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه، وقال لوقا: وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم: من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا، من منكم يريد أن يبني برجًا ولا يجلس أولًا ويحسب نفقته؟ وهل له ما يكمله لكيما يستهزىء به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولًا ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفًا إلا فما دام بعيدًا منه يرسل رسلًا رسل سلامة، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذًا، وذكر لوقا أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلًا لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم: متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له: يا حبيب! ارتفع إلى فوق، حينئذ يكون لك مجدًا قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع، وكل من يتضع يرتفع، وقال للذي دعاه: وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا أغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضًا فيكون لك مكافأة، لكن إذا صنعت طعامًا فادع المساكين والعور والضعفاء والعميان، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين، فسمع واحد من المتكئين ذلك، فقال له: طوبى لمن يأكل خبزًا في ملكوت الله، وقال متى: وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له: من هو العظيم في ملكوت السماوات، فدعا طفلًا وأقامه بينهم وقال: الحق أقول: إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات، ومن قبل صبيًا مثل هذا باسمي فقد قبلني، قال مرقس: ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني، وقال لوقا: ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر، قال متى: ومن شك أحد هؤلاء الصغار المؤمنين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته، ويغرق في البحر، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للإنسان الذي يأتي منه الشكوك، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد، وقال مرقس: وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها- انتهى.
وإن شكتك عينك فاقلعها وألقها عنك فخير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة من أن يكون لك عينان وتلقى في جهنم، وقال مرقس: وكل شيء بالنار يملح وكل ذبيحة تملح بالملح جيد هو الملح، فإن فسد الملح فبما ذا يملح فليكن فيكم الملح، ويكون سلام بعضكم بعضًا، وقال لوقا: ثم قال: من أجل أقوام يقولون: إنهم صديقون ويحقرون البقية، هذا المثل رجلان صعدا إلى الهيكل ليصليا، أحدهما فريسي والآخر عشار، فأما الفريسي فإنه كان يصلي بهذا في نفسه: اللهم إني أشكرك لأني لست مثل سائر الناس العاصين الظلمة الفجار، ولا مثل هذا العشار، فكان قائمًا من بعيد ولا يرى أن يرفع عينيه إلى السماء، وكان يضرب على صدره ويقول: اللهم اغفر لي فإني خاطئ، أقول لكم: إن هذا نزل إلى بيته أمر من ذلك لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ولك من يضع نفسه يرتفع، ثم قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم، فلما نظرهم التلاميذ نهروهم فقال: دعوا الصبيان يأتوا إليّ ولا تمنعوهم لأن ملكوت الله لمثل هؤلاء، الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، وقال متى: انظروا لا تحقروا أحد هؤلاء الصغار، لم يأت ابن الإنسان إلا ليطلب ويخلص من كان ضالًا، ماذا تظنون إذا كان الإنسان مائة خروف فضل منها واحد ليس يترك التسعة والتسعين في الجبل، ويمضي يطلب الضال؟ وقال لوقا: حتى يجده، الحق أقول لكم، إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل، هكذا ليس مشيئة ربي الذي في السماوات أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار، وقال لوقا: ودنا منه العشارون والخطأة ليسمعوا منه فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم، فقال لهم: أي رجل منكم له مائة خروف فيتلف واحد منها ليس يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي إلى الضال حتى يجده، فإذا وجده حمله على منكبيه فرحًا، ويأتي به إلى بيته ويدعو أصدقاءه وجيرانه ويقول لهم: افرحوا معي لوجودي خروفي الضال، أقول لكم: إنه يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الصديق الذين لا يحتاجون إلى توبة، وأي امرأة لها عشرة دراهم يتلف واحد منها أليس توقد سراجًا وتكنس بيتها وتطلبه مجتهدة حتى تجده، فإذا وجدته دعت أحبابها وجاراتها قائلة: افرحوا لي لوجودي درهمي الضال، هكذا أقول لكم: يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب، وقال: إنسان له ابنان فقال الأصغر يا أبتاه! أعطني نصيبي من مالك فقسم بينهما ماله، وبعد أيام قليلة جمع الأصغر كل شيء له وسافر إلى كورة بعيدة، وبذر ماله هناك بعيش بذخ، فلما نفد كل شيء له حدث جوع شديد في تلك الكورة فافتقر وانقطع إلى رجل منها فأرسله إلى حقله يرعى خنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطى ذلك، ففكر في نفسه وقال: كم من أجراء أبي يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعًا، أقوم أمضي إلى أبي وأقول: يا أبتاه! أخطأت في السماء وبين يديك، ولست بمستحق أن أدعى لك ابنًا لكن اجعلني كأحد أجرائك فجاء إليه فنظره أبوه فتحنن وأسرع واعتنقه وقبله فقال: يا أبتاه! أخطأت في السماء وقدامك، ولست بمستحق أن ادعى لك ابنًا، فقال أبوه لعبيده: قدموا الحلة الأولى وألبسوه وأعطوه خاتمًا في يده، وحذاء في رجليه، وائتوا بالعجل المعلوف واذبحوه ونأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وضالًا فوجد، فبدؤوا يفرحون، وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع المزاهر واتفاق الأصوات والرقص، فدعا واحدًا من الغلمة وسأله فقال له: إن أخاك قدم، وذبح أبوك العجل المعلوف، فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه وطلب إليه فقال: كم لي من سنة أخدمك ولم أخالف لك وصية قط ولم تعطني جديًا واحدًا أتنعم به مع أصدقائي، فلما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزناة ذبحت له العجل المعلوف، فقال له: يا بني! أنت معي في كل حين وفي كل شيء هو لي، وينبغي لك أن تسر وتفرح لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وضالًا فوجد.
وقال: رجل كان غنيًا يلبس الأرجوان وكان يتنعم كل يوم ويلذ، ومسكين كان اسمه العازر مطروحًا عند بابه مضروبًا بقروح، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني، وكانت الكلاب تأتي وتلطع قروحه، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حصن إبراهيم، ومات ذلك الغني وقبو فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، فنظر إبراهيم من بعيد والعازر في حصنه، فنادى: يا أبتاه إبراهيم! ارحمني وأرسل العازر ليبل طرف إصبعه بما يبرد لساني لأني معذب في اللهب، فقال له إبراهيم: يا ابني اذكر أنك قد قتلت جيرانك في حياتك والعازر في بلائه والآن فهو يستريح ههنا وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم أهوية عظيمة نائية لا يقدر أحد على العبور من ههنا إليكم، ولا من هنا إلينا، قال له: أسألك يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي، فإن خمسة أخوة لكي يناشدهم لئلا يأتوا إلى موضع هذا العذاب، قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم، فقال له: يا أبتاه إبراهيم! إن لم يمض إليهم واحد من الأموات ما يتوبون؟ فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فليس إن قام واحد من الأموات يصدقونه، وقال لتلاميذه: سوف تأتي الشكوك والويل، الذي تأتي الشكوك من قبله خير له لو علق حجر رحى الحماز في عنقه ويطرح في البحر من أن يشك أحدًا من هؤلاء الضعفاء- والله أعلم.
ولما كان الطريق الواضح القديم موجبًا للاجتماع عليه، والوفاق عند سلوكه، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله: {فاختلف} وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله: {الأحزاب} أي إنهم لم يكونوا فرقتين فقط، بل فرقًا كثيرة.
ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجبًا، بين أنهم من أهل القسم فقال: {من بينهم} أي اختلافًا ناشئًا ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلًا لهم: وقال لهم: قد جئتكم بالحكمة، فسبب عن اختلافهم قوله: {فويل} وكان أن يقال: لهم، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميمًا وتعليقًا للحكم به.
ولما كان في سياق الحكمة، وهو وضع الشيء في أتقن مواضعه، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال: {للذين ظلموا} أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم صلى الله عليه وسلم به من الحكمة {من عذاب يوم أليم} أي مؤلم، وإذا كان اليوم مؤلمًا لما الظن بعذابه.
ولما عم الظالمين بالوعيد بذلك اليوم فدخل فيه قريش وغيرهم، أتبعه ما هو كالتعليل مبرزًا له في سياق الاستفهام لأنه أهول فقال: {هل} وجرد الفعل إشارة إلى شدة القرب حتى كأنه بمرأى فقال: {ينظرون} أي ينتظرون {إلا الساعة} أي ساعة الموت العام والبعث والقيام، فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه.