فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات} قيل: في الكلام حذف، التقدير: فاختلف أممهم واقتتلوا ولو شاء الله، ومفعول شاء محذوف تقديره: أن لا تقتتلوا، وقيل: أن لا يأمر بالقتال، قاله الزجاج.
وقال مجاهد: أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال، وقيل: ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان.
وقال عليّ بن عيسى: هذه مشيئة القدرة، مثل: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا} ولم يشأ ذلك، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري: ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر، وجواب لو: ما اقتتل، وهو فعل منفي بما، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام، فتقول: لو قام زيد لما قام عمرو، و: من بعدهم صلة للذين، فيتعلق بمحذوف أي: الذين كانوا من بعدهم، والضمير عائد على الرسل، وقيل: عائد على موسى وعيسى وأتباعهما.
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك، بل المراد: ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فلف الكلام لفًا لم يفهمه السامع وهذا كما تقول: اشتريت خيلًا ثم بعتها، وإن كنت قد اشتريتها فرسًا فرسًا وبعته، وكذلك هذا، إنما اختلف بعد كل نبي، و: من بعد، قيل: بدل من بعدهم، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل، إذ كان في البينات، وهي الدلائل الواضحة، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل.
{ولكن اختلفوا} هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها، لأن المعنى: لو شاء الاتفاق لاتفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. اهـ.

.قال الألوسي:

{ولكن اختلفوا} استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشيء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداءًا كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافًا فاحشًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

قوله تعالى: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر بإعراضه عن اتباع الرسل حسدًا وبغيًا واستئثارًا بحطام الدنيا. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما تقدم أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسلًا وأنزل معهم كتبًا، وأنهم تعبوا ومستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى جمعوا الناس على الحق، وأن أتباعهم اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات كان مما يتوجه النفس للسؤال عنه سبب اختلافهم، فبين أنه مشيئته سبحانه وتعالى لا غير إعلامًا بأنه الفاعل المختار فكان التقدير: ولو شاء الله سبحانه وتعالى لساوى بين الرسل في الفضيلة، ولو شاء لساوى بين أتباعهم في قبول ما أتوا به فلم يختلف عليهم اثنان، ولكنه لم يشأ ذلك فاختلفوا عليهم وهم يشاهدون البينات، وعطف عليه قوله تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لافتًا القول إلى التعبير بالجلالة إشارة إلى أن الاختلاف مع دلالة العقل على أنه لا خير فيه شاهد للخالق بجميع صفات الجلال والجمال {ولو شاء الله} أي الذي له جميع الأمر.
قال الحرالي: وهي كلمة جامعة قرآنية محمدية تشهد الله وحده وتمحو عن الإقامة ما سواه- انتهى.
{ما اقتتل} أي ما تكلف القتال مع أنه مكروه للنفوس {الذين من بعدهم} لاتفاقهم على ما فارقوا عليه نبيهم من الهدى.
قال الحرالي: فذكر الاقتتال الذي إنما يقع بعد فتنة المقال بعد فتنة الأحوال بالضغائن والأحقاد بعد فقد السلامة بعد فقد الوداد بعد فقد المحبة الجامعة للأمة مع نبيها- انتهى {من بعد ما جاءتهم البينات} أي على أيدي رسلهم.
قال الحرالي: فيه إيذان بأن الوسائل والأسباب لا تقتضي آثارها إلا بإمضاء كلمة الله فيها- انتهى.
{ولكن اختلفوا} لأنه سبحانه وتعالى لم يشأ اتفاقهم على الهدى {فمنهم} أي فتسبب عن اختلافهم أن كان منهم {من آمن} أي ثبت على ما فارق عليه نبيه حسبما دعت إليه البينات فكان إيمانه هذا هو الإيمان في الحقيقة لأنه أعرق في أمر الغيب {ومنهم من كفر} ضلالًا عنها أو عنادًا.
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالًا قال تعالى معلمًا أن الكل بخلقه تأكيدًا لما مضى من ذلك معيدًا ذكر الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الحال في أمر القتال الكاشف لمن باشره في ضلال عن أقبح الخلال: {ولو شاء الله} الذي لا كفوء له {ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في الإعلام بعظم المقام {ولكن الله} أي بجلاله وعزّ كماله شاء اقتتالهم فإنه {يفعل ما يريد} فاختلفوا واقتتلوا طوع مشيئته على خلاف طباعهم وما يناقض ما عندهم من العلم والحكمة. اهـ.

.قال الفخر:

احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية، وقالوا تقدير الآية: ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال، وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال، وقالوا: المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال: إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال: لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال: لو شاء لمنعهم من القتال جبرًا وقسرًا وإذا كان كذلك فقوله: {وَلَوْ شَاء الله} المراد منه هذه الأنواع من المشيئة، وهذا كما يقال: لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته، ولم تشرب النصارى الخمر، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها، وكذا ههنا، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال: إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص، لاسيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.
والجواب: أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة، لا من حيث إنها مشيئة خاصة، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلًا، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة، وهي إما مشيئة الهلاك، أو مشيئة سلب القوى والقدر، أو مشيئة القهر والإجبار، تقييد للمطلق وهو غير جائز، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالمًا بوقوع الاقتتال، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات، وبين السلب والإيجاب، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم، والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق.
ثم قال: {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى: ولو شاء لم يختلفوا، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي، وواجب عند حصول الداعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعًا للتسلسل، فكانت الآية دالة أيضًا من هذا الوجه على صحة مذهبنا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولكن الله يفعل ما يريد} هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة، وإن إرادة غيره غير مؤثرة، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر، وهو فعله تعالى. وقال الزمخشري: ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة، وهذا على طريقة الاعتزالية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} [البقرة: 254]، فالواو اعتراضية: فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما، المقصود منه تشريعًا وتمثيلًا قتالُ أهلِ الإيمان لأهلِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال.
بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا: بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا.
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله: {من بعدهم} مرادًا به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود، ومقاتلة الفلسطينيَّين لبني إسرائيل انتصارًا لأصنامهم، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارًا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى، ويكون المراد بالبيّنات دلائللِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا} [البقرة: 244] إلخ.
ويجوز أن يكون ضمير {مِنْ بعدهم} ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل، فيكون مفيدًا أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافًا واقتتالًا نشَأ من تكفير بعضهم بعضًا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضًا، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالًا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّارًا لادّعائهم ألوهية المسيح، فعظمت بذلك حروب بين فرَنسا وأسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيرًا متواترًا بقوله في خطبة حجة الوداع: «فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض» يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائلِ النبوءة العظيمة.
وورد في الصحيح قوله: «إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار» قيل يا رسول الله هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول، قال: «أمَا إنَّه كان حريصًا على قتل أخيه» وذلك يفسّر بعضه بعضًا أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة.
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة:
فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالد ** ولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد

وقوله: {ولكن اختلفوا} استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله: وهو ما اقتتل، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا.
وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به، وإن كان المراد اختلاف أمممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} [البقرة: 113]، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه، فاقتتل الفريقان.
وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى.
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابًا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع، ولهذَا قال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} ثم قال: {ولكن اختلفوا} فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة.
بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضًا في العقول أصُولًا ضرورية قطعية أو ظنّية ظنًا قريبًا من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة، أو حُب المدحة من الأشياع وأهلِ الأغراض، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافًا يدوم، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فلا عذر في القتال إلا لفريقين: مؤمن، وكافر بما آمن به الآخر، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم، أما الخلاف الناشيء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها» لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفرًا، فقد صار هو كافرًا لأنّه جعل الإيمان كفرًا.
وقال عليه الصلاة والسلام: «فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، فجعل القتال شعار التكفير.
وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافًا بلغ بهم إلى التكفير والقتال، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفَّروا عليًا في قبوله تحكيم الحكمي، ثم خلاف أتباع المقنَّع بخراسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجهًا من ذهب، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائِبة مِن الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفَروا وادّعوا الحلول أي حلول الرب في المخلوقات واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين، وذلك من سنة 293.
واختلف المسلمون أيضًا خلافًا كثيرًا في المذاهب جَرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفِّرين لبقية الأمة في المشرق، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم، وقتال الباطنية المعروفين بالإسْمَاعِيلية لأهل السنة في سَاوَة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523.
ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية.
ثم انقلبوا أنصارًا للإسلام في الحروب الصليبية، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل.
لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام.
وتطرّقت كل جهة منه حتى البلدِ الحرام.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائلِ التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} فأعاد {ولو شاء الله ما اقتتلوا} تأكيدًا للأول وتمهيدًا لقوله: {ولكن الله يفعل ما يريد} ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعًا لهم لو أرادوا الاهتداء، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ.
فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرّطون في ذلك. اهـ.
هل الأديان تسبّب الاختلافات؟
يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.
وإزاء هذا القول لابدّ من الانتباه إلى ما يلي: أولًا: إنّ الاختلافات- كما جاء في الآية المذكورة- لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعًا بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.
ثانيًا: إنّ الدين- أو تأثيره- قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعًا وانتشرت في مختلف أرجاء العالم.
فهل الدين هو السبب، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية، وفي أيّام أخرى بقوالب ومسمّيات أُخرى؟! وعليه فالدِين لا ذنب له في هذا، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.
ثالثًا: إنّ الأديان السماوية- وعلى الأخصّ الإسلام- التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سببًا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.
رابعًا: أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلّين، من أمثال فرعون والنمرود.
إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهادًا في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوبًا تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها.
إنّ حروب رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أُخرى، كانت كلّها من هذا القبيل. اهـ.