فصل: تفسير الآيات (81- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أن المراد بأزواجهم، نساؤهم في الجنة.
لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول.
ولذا يكثر في القرآن، ذكر إكرام أهل الجنة، بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [يس: 55- 56].
وقال كثير من أهل العلم: إن المراد بالشغل المذكور في الآية، هو افتضاض الأبكار. وقال تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]. وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22- 23]. وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] إلى قوله: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72]، وقال: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ} [الصافات: 48] وقال تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} [ص: 52] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا: أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن خلافًا لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة.
والحق أن ذلك لغة عربية، ومنه قول الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقول الحماسي:
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ** والظاعنون إلى ثم تصدع

وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية «إنها زوجتي» وقوله: {تُحْبَرُونَ} أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.
قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة، والتحلي بهما، ولبس الحرير، ومنه السندس والإستبرق، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، أي تلتذ به الأعين أي برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين} [البقرة: 69]. وأسند اللذة إلى العين، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية، وهي مقدم شعر الرأس، في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] وكإسناد الخشوع، والعمل والنصب، إلى الوجوه، في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية: 2- 3] الآية.
ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية، كما أن الخشوع والعمل، والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة، فيها كل مشتهى، وكل مستلذ، جاء مبسوطًا موضحة أنواعه في آيات كثيرة، من كتاب الله، وجاء محمد أيضًا إجمالًا شاملًا لكل شيء من النعيم.
أما إجمال ذلك ففي قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وأما بسط ذلك وتفصيله، فقد بين القرآن، أن من ذلك النعيم المذكور في الآية، المشارب، والمآكل والمناكح، والفرش والسرر، والأواني، وأنواع الحلي والملابس والخدم إلى غير ذلك، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك.
أما المآكل فقد قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 73]، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32- 33] وقال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قالواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
أما المشارب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5- 6]. وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17- 18] الآية، وقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 17- 19]. وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 45- 47]: وقال تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} [محمد صلى الله عليه وسلم: 15] وقال تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئًَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الملابس والأواني والحلي، فقد قدمنا الكلم عليها مستوفى في سورة النحل.
وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريبًا.
وهي كثيرة كقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] الآية. ويكفي ما قدمنا من ذلك قريبًا.
وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك، ففي آيات كثيرة كقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54].
وقوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] وقوله تعالى: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 15- 16].
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب.
وقوله تعالى: {إِخْوَانًا على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
وقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13].
وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما خدمهم فقد قال تعالى في ذلك: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] الآية. وقال تعالى في سورة الإنسان في صفة هؤلاء الغلمان: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19]، وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20].
والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك كثيرة جدًا ولنكتف بما ذكرنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، قد قدمنا الآيات الموضحة، لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له ألبتة كقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع، وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54] وقوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}.
قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة، ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة كقوله تعالى: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وقوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها، مع قوله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل.
وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله.
والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27].
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قال إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}.
اللام في قوله: {لِيَقْضِ} لام الدعاء.
والظاهر أن المعنى، أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار، أن يدعو الله لهم بالموت.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا يا مالك، ولما خاطبوه في قولهم: {رَبُّكَ}.
والثاني: أن الله بين في سورة المؤمن أن أهل النار، يطلبون خزنة النار، أن يدعو الله لهم ليخفف عنهم العذاب، وذلك في قوله تعالى: {وَقال الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ العذاب} [غافر: 49].
وقوله: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ليمتنا فنستريح بالموت من العذاب.
ونظيره قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى} [القصص: 15] أي أماته.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قال إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية.
وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت، ولا تغني هي عنهم، ولا يخفف عنهم عذابها، ولا يخرجون منها.
أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا {قال إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74]، وقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذي يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الأعلى: 11- 13].
وقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36] الآية.
وقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] الآية.
وأما كون النار لا تغني عنهم، فقد بينه تعالى بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء رد عليه بهذه الآية الكريمة.
وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جدًا كقوله: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36].
وقوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [النحل: 85]، وقوله تعالى: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]، وقوله تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] الآية.
وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] على الأصح في الأخيرين.
وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 167] وقوله تعالى في المائدة: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37]، وقوله تعالى في الحج: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} [الحج: 22] الآية.
وقوله تعالى في السجدة: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20]، وقوله تعالى في الجاثية: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} [الجاثية: 35] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحًا شافيًا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قال النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ الله} [الأنعام: 128] وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا} [النبأ: 23] وسنوضحه أيضًا إن شاء الله، في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية النبأ المذكورة، ونوضح هناك إن شاء الله إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث.
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13].
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}.
قوله تعالى: {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقول} [مريم: 79] الآية. اهـ.

.تفسير الآيات (81- 83):

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعاءهم لله ولدًا من الملائكة وهددهم بقوله: {ستكتب شهادتهم ويسألون} وذكر شبههم في قولهم {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} وجهلهم فيها بقوله: {ما لهم بذلك من علم} ونفى أن يكون لهم على ذلك دليل سمعي بقوله منكرًا موبخًا {أم آتيناهم كتابًا} ومر في توهية أمرهم في ذلك وغيره بما لاحم بعضه بعضًا على ما تقدم إلى ما تمم نفي الدليل السمعي على طريق النشر المشوش بقوله تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}، ونظم به ما أتى به رسوله أهل الكتاب مما يصدق ما أتى به كتابنا من التوحيد وما هدد به من أعراض عنه إلى أن أخبر أنه الحق الذي لا زوال أصلًا لشيء منه، وأن رسله سبحانه تكتب جميع أعمالهم من شهادتهم في الملائكة وغيرها، أعاد الكلام في إبطال شبهتهم في أن عبادتهم لهم لو كانت ممنوعة لم يشأها الذي له عموم الرحمة لأن عموم رحمته يمنع على زعمهم مشيئة ما هو محرم، فقال بعد أن نفى قوله: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} أن يكون لهم دليل سمعي على أحد من رسله عليهم الصلاة والسلام: {قل إن كان للرحمن} أي العام الرحمة {ولد} على ما زعمتم، والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة، وغيرهم في غيرهم، وقراءة حمزة والكسائي بضم ثم سكون على أنه جمع على إرادة الكثرة.
ولما كان المعنى: فأنا ما عبدت ذلك الولد ولا أعبده، ولو شاء الرحمن ما تركت عبادته، ولكنه شاء تركي لها وشاء فعلكم لها، فإحداهما قطعًا مشيئة للباطل، وإلا لاجتمع النقيضان بأن يكون الشيء حقًا باطلًا في حال واحد من وجه واحد، وهو بديهي الاستحالة، فبطلت شبهتكم بدليل قطعي- هكذا كان الأصل، ولكنه عدل عنه إلى ما يفيد معناه وزيادة أنه يعبد الله مخلصًا ولا يعبد غيره، أنه لا يستحق اسم العبادة إلا ما كان له خالصًا، فقال: {فأنا} أي في الرتبة {أول العابدين} للرحمن، العبادةَ التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة، أي فأنا لا أعبد غيره لا ولدًا ولا غيره، ولم يشأ الرحمن لي أن أعبد الولد، أو يكون المعنى: أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص، لم أشرك به شيئًا أصلًا في وقت من الأوقات مما سميتموه ولدًا أو شريكًا أو غيره، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص، ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمة، فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاء لي، ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي، ولو أن له ولدًا لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصًا له يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له، فبطلت شبهتكم بمثلها بل أقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن (إن) نافية بمعنى: ما ينبغي أي ما كان له ولد، فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولدًا، ولو كان له ولد لعلمته فعبدته تقربًا إليه بعبادة ولده.