فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخيِّروا بين الأنبياء» و«لا تفضِّلوا بين أنبياء الله» رواها الأئمّة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان.
يُقال: خيّر فلان بين فلان وفلان، وفضّل مشددًا إذا قال ذلك: وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى؛ فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يُوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيِّد ولد آدم، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.
وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: «أنا سيد ولد آدم» يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: «لا تخيِّروني على موسى» على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم.
وكذلك معنى قوله: «لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى» على معنى التواضع.
وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله؛ فدلّ على أن قوله: «لا تفضِّلوني عليه» من طريق التواضع.
ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملًا منِّي، ولا في البَلْوى والامتحان فإنه أعظم محنة منِّي.
وليس ما أعطاه الله لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من السُّودَد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلّب.
ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذرِيعة إلى الجدال وذلك يؤدّي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويَقِلّ احترامهم عند المُماراة.
قال شيخنا: فلا يُقال: النبيّ أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خَيْرٌ، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسُل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبيّ اجتنابًا لما نُهي عنه وتأدّبًا به وعملًا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأُمور عليم.
قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوّة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوّة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأُمور أُخَر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم رُسُل وأولوا عَزْم، ومنهم مَن أُتّخِذ خليلًا، ومنهم مَن كلّم الله ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}.
قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما مُنِح من الفضائل وأعطَي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمّدًا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بِم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} [الأنبياء: 29].
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2].
قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وقال الله عزّ وجلّ لمحمّد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الجن والإنس ذكره أبو محمد الدارميّ في مسنده.
وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أُرسل أفضل ممن لم يُرسل، فإنّ من أُرسل فُضِّل على غيره بالرسالة واستووا في النبوّة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أُممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلاَّ أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال: إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنا أكرم ولد آدم على ربي» وقال: «أنا سيد ولد آدم» ولم يعيِّن، وقال عليه السَّلام: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن مَتّى» وقال: «لا تفضِّلوني على موسى» وقال ابن عطية: وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول؛ لأن يونس عليه السَّلام كان شابًا وتفَسّخ تحت أعْبَاء النبوّة.
فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.
قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يُبيِّن بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فُضِّلوا بها فقال: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} وقال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} [المائدة: 46]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَاءً وَذِكْرًا لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] فعمّ ثم خصّ وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر.
قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار} [الفتح: 29] إلى آخر السورة.
وقال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] ثم قال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] وقال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} [الفتح: 18] فعمّ وخص، ونفي عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين. اهـ.

.قال الفخر:

أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل، ويدل عليه وجوه أحدها: قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.
الحجة الثانية:
قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.
الحجة الثالثة:
أنه تعالى قرن طاعته بطاعته، فقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وإجابته بإجابته فقال: {يا أيها الذين آمَنُوا استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول} [الأنفال: 24].
الحجة الرابعة:
أن الله تعالى أمر محمدًا بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات، وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية، وكذا آية، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزًا واحدًا بل يكون ألفي معجزة وأزيد.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.
الحجة الخامسة:
أن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء.
بيان الأول قوله عليه السلام: «القرآن في الكلام كآدم في الموجودات».
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.
الحجة السادسة:
أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى آخر الدهر، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.
الحجة السابعة:
أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فأمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله، فإما أن يقال: إنه كان مأمورًا بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد، أو في فروع الدين وهو غير جائز، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق، فكأنه سبحانه قال: إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتديًا بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقًا فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
الحجة الثامنة:
أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر، فوجب أن يكون أفضل، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28] وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنسانًا فردًا من غير مال ولا أعوان وأنصار، فإذا قال لجميع العالمين: يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له، وحينئذٍ يصير خائفًا من الكل، فكانت المشقة عظيمة، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحدًا إلا من فرعون وقومه، وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له، يبين ذلك أن إنسانًا لو قيل له: هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيدًا وبلغ إليه خبرًا يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما سمحت نفسه بذلك، مع أنه إنسان واحد، ولو قيل له: اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأمورًا بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ، بل سارع إليها سامعًا مطيعًا، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق، ولهذا قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} [الحديد: 10] ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام: «أفضل العبادات أحمزها».
الحجة التاسعة:
أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان، فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخًا لسائر الأديان، والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثوابًا، كان واضعه أكثر ثوابًا من واضعي سائر الأديان، فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء.
الحجة العاشرة:
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء، بيان الأول قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع، وأيضًا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ثوابًا لأنه مبعوث إلى الجن والإنس، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لأن لكثرة المستجيبين أثرًا في علو شأن المتبوع.
الحجة الحادية عشر:
أنه عليه السلام خاتم الرسل، فوجب أن يكون أفضل، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.
الحجة الثانية عشرة:
أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها: كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف، وهي بالجملة على أقسام، منها ما يتعلق بالقدرة، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وإروائهم من الماء القليل، ومنها ما يتعلق بالعلوم كالإخبار عن الغيوب، وفصاحة القرآن، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل، نحو كونه أشرف نسبًا من أشراف العرب، وأيضًا كان في غاية الشجاعة، كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود: «كيف وجدت نفسك يا علي، قال: وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال: تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك»، الحديث إلى آخره وهو مشهور، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.
الحجة الثالثة عشرة:
قوله عليه السلام: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام» وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده، وقال عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وقال عليه السلام: «لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي» وروى أنس قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» وعن ابن عباس قال: جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم: عجبًا إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر».
الحجة الرابعة عشرة:
روى البيهقي في فضائل الصحابة أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام: «هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست أنت سيد العرب؟ «فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب»، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.
الحجة الخامسة عشرة:
روى مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئًا».
وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.
الحجة السادسةَ عشرةَ:
قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى: إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته، فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لابد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] وفي الفصاحة إلى أن قال: «أوتيت جوامع الكلم» وصار كتابه مهيمنًا على الكتب وصارت أمته خير الأمم.
الحجة السابعةَ عشرةَ:
روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب النوادر: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وموسى نجيًا، واتخذني حبيبًا، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي».
الحجة الثامنة عشرة:
في الصحيحين عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بناؤك؟ فقال محمد: كنت أنا تلك اللبنة».
الحجة التاسعة عشرة:
أن الله تعالى كلما نادى نبيًا في القرآن ناداه باسمه {ويا آدم اسكن} [البقرة: 35]، {وناديناه أَن يا إبراهيم} [الصافات: 104]، {يا موسى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 10، 11] وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله: {يا أيها النبى}، {يا أيها الرسول} وذلك يفيد الفضل.
واحتج المخالف بوجوه الأول: أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم عليه السلام كان مسجودًا للملائكة، وما كان محمد عليه السلام كذلك، وإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النيران العظيمة فانقلبت روحًا وريحانًا عليه، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة، ومحمد ما كان له مثلها، وداود لأن له الحديد في يده، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له، وما كان ذلك حاصلًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلًا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الحجة الثانية:
أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلًا، فقال: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلًا} [النساء: 125] وقال في موسى عليه السلام {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقال في عيسى عليه السلام: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام.
الحجة الثالثة:
قوله عليه السلام: «لا تفضلوني على يونس بن متى» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروا بين الأنبياء».
الحجة الرابعة:
روي عن ابن عباس قال: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحًا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا رسول الله أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء، فدخل رسول الله فقال: «فيم أنتم؟» فذكرنا له فقال: «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا» وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
والجواب: أن كون آدم عليه السلام مسجودًا للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» وقال: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين» ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وهذا أعظم من السجود، وأيضًا أنه تعالى صلى بنفسه على محمد، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه، وذلك أفضل من سجود الملائكة، ويدل عليه وجوه الأول: أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديبًا، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم تقريبًا والثاني: أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث: أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع: أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم.
فإن قيل: إنه تعالى خص آدم بالعلم، فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وأما محمد عليه السلام فقال في حقه: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فهدى} [الضحى: 7] وأيضًا فمعلم آدم هو الله تعالى، قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء} ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5].
والجواب: أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] وقال عليه السلام: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» وقال تعالى: {الرحمن علم القرآن} [الرحمن: 2] وكان عليه السلام يقول: «أرنا الأشياء كما هي» وقال تعالى لمحمد عليه السلام: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114] وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} فذاك بحسب التلقين، وأما التعليم فمن الله تعالى، كما أنه تعالى قال: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] ثم قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42].
فإن قيل: قال نوح عليه السلام {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} [الشعراء: 114] وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن.
قلنا: إنه تعالى قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فكان أول أمره العذاب، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107]، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128] إلى قوله: {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} فكان عاقبة نوح أن قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وأما سائر المعجزات فقد ذكر في كتب دلائل النبوة في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه، والله أعلم. اهـ.