فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك: إن كانت الخمسة زوجًا فهي منقسمة بمتساويين. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه، فلو كان المقدم حاصلًا في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصًا فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام، واضح الإفحام، قريب من الأفهام، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام.
وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوهًا متكلفة منها: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله. ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد. يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه. ومنها جعل (إن) نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة. ثم مدح ذاته بقوله: {وهو الذي في السماء إله} أي معبود كما مر في قوله: {وهو الله في السموات وفي الأرض} [الأنعام: 3] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام. ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم.
وقوله: {إلا من شهد} استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة، ويجوز أن يكون متصلًا لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيرًا. وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعًا له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء {وهم يعلمون} دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر. ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلًا {ولئن سألتهم} والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أندادًا. وقيل: الضمير في {سألتهم} للمعبودين. من قرأ {وقيله} بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على {سرهم ونجواهم} أو المراد وقال قيله أي قوله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله: {قل إن كان} وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلًا} فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلًا وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إذا قومك} أي: من قريش {منه} أي: من هذا المثل {يصدون} أي: يرفع لهم ضجيج فرحًا بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة: يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهًا كما عبدت النصارى عيسى.
{وقالوا آلهتنا} أي: التي نعبدها من الأصنام {خير أم هو} قال قتادة: يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد: يعنون عيسى عليه السلام قالوا: توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: {ما ضربوه} أي: المثل {لك إلا جدلا} أي: خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه {بل هم قوم} أي: أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه {خصمون} أي: شديدُ الخصام.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال». وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {يصدون} بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل: الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون: {آلهتنا} بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفًا، ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هو} أي: عيسى عليه السلام {إلا عبد} أي: وليس هو بإله {أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {عليه} أي: بالنبوة والإقدار على الخوارق {وجعلناه} أي: بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته {مثلًا} أي: أمرًا عجيبًا كالمثل لغرابته من أنثى فقط بلا واسطة ذكر كما خلقنا آدم من غير ذكر وأنثى وشرفناه بالنبوة {لبني إسرائيل} الذين هم أعرف الناس به، بعضهم بالمشاهدة، وبعضهم بالنقل القريب المتواتر فيعرفون به قدرة الله تعالى على ما يشاء حيث خلقه من غير أبٍ.
{ولو نشاء} أي: على ما لنا من العظمة {لجعلنا} ما هو أغرب مما صنعناه من أمر عيسى عليه السلام {منكم} أي: جعلا مبتدأ منكم إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه السلام من أنثى من غير ذكر، وجعلنا آدم عليه السلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر، وإما بالبدلية {ملائكة في الأرض يخلفون} أي: يخلفونكم في الأرض والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدًا كما جاز خلقها إبداعًا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى.
{وإنه} أي: عيسى عليه السلام {لعلم للساعة} أي: نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي تعم الخلائق كلها بالموت فنزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قال صلى الله عليه وسلم «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عادلًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمنه الملل كلها إلا الإسلام».
وروي: «أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أنيق وبيده حربة وعليه مخصرتان وشعر رأسه دهين يقتل الدجال ويأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به». وقال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم». وقال الحسن وجماعة. وإنه أي: القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم أحوالها وأهوالها {فلا تمترن بها} حذف منه نون الرفع للجزم وواو الضمير لالتقاء الساكنين من المرية وهي الشك أي: لا تشكن فيها وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها {واتبعوني} أي: أوجدوا تبعكم لي {هذا} أي: كل ما أمرتكم به من هذا أو غيره {صراط} أي: طريق واضح {مستقيم} أي: لا عوج له، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بغير ياء وصلًا وقفًا.
{ولا يصدنكم الشيطان} أي: عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي {إنه لكم} أي: عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته {عدو مبين} أي: واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبدًا.
{ولما جاء عيسى} أي: إلى بني إسرائيل {بالبينات} أي: المعجزات أي: بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات {قال} منبهًا لهم {قد جئتكم} بما يدلكم قطعًا على أني آية من عند الله وكلمة منه {بالحكمة} أي: الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال {ولأبين لكم} أي: بيانًا واضحًا {بعض الذي تختلفون} أي: الآن {فيه} ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه، فإن قيل: لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه؟.
أجيب: بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمر دنياكم». ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافيًا في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم: ما ليس فيه التباس، والمتشابه: ما يكون ملتبسًا وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب، فالصادق الذي رسخ علمًا وإيمانًا يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول: الله أعلم بمراده {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران:) ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما بين لهم الأصول والفروع قال: {فاتقوا الله} أي: خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه {وأطيعون} أي: فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
{إن الله} أي: الذي اختص بالجلال والجمال فكان أهلًا لأن يُتقى {هو} أي: وحده {ربي وربكم} أي: المحسن إلي وإليكم {فاعبدوه} أي: بما أمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباعي بما أظهره على يدي فصار هو الآمر لكم لا أنا {هذا} أي: الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه {صراط} أي: طريق واسع جدًا واضح {مستقيم} لا عوج فيه.
ولما كان الطريق الواضح القويم موجبًا للاجتماع عليه والوفاق عند سلوكه بين تعالى أنهم اختلفوا فيه بقوله تعالى: {فاختلف الأحزاب} أي: الفرق المتحزبة {من بينهم} أي: اختلافًا ناشئًا ابتداء من بني إسرائيل في عيسى أهو الله؟ أو ابن الله؟ أو ثالث ثلاثة؟ وقوله تعالى: {فويل} كلمة عذاب {للذين ظلموا} أي: وضعوا الشيء في غير موضعه بما قالوه في عيسى عليه السلام {من عذاب يوم أليم} أي: مؤلم وإذا كان اليوم مؤلمًا فما الظن بعذابه.
{هل ينظرون} أي: هل ينظر كفار مكة أو الذين ظلموا {إلا الساعة} أي: ساعة الموت العام والبعث والقيامة فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه وقوله تعالى: {أن تأتيهم} بدل من الساعة، فإن قيل: قوله تعالى: {بغتة} أي: فجأة يفيد قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} أي: بوقت مجيئها قبله؟
أجيب: بأنه يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
{الأخلاء} أي: الأحباء في الدنيا على المعصية وقوله تعالى: {يومئذ} أي: يوم القيامة، متعلق بقوله تعالى: {بعضهم لبعض عدو} أي: يتعادون في ذلك اليوم لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتحابون له سببًا للعذاب {إلا المتقين} أي: المتحابين في الله على طاعة الله تعالى وهم الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضًا على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
روى أبو ثور عن مَعْمَر عن قَتَادة عن أبي إسحاق أن عليًا قال في الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول: لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول: نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال: ويموت أحد الكافرينِ فيقول: يا رب إن فلانًا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفًا لهم وتسكينًا لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى: {يا عباد} فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} والثاني قوله: {لا خوف} أي: بوجه من الوجوه {عليكم اليوم} أي: في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها: قوله تعالى: {ولا أنتم تحزنون} أي: لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفًا ووصلًا وقوله تعالى: {الذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتًا لعبادي أو بدلًا منه أو عطف بيان له أو مقطوعًا منصوبًا بفعلٍ أي: أعني الذين آمنوا أو مرفوعًا وخبره مضمر تقديره يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رءوسهم فيقول الذين آمنوا {بآياتنا} الظاهرة عظمتها في نفسها أولًا وبنسبتها إلينا ثانيًا {وكانوا} أي: دائمًا بما هو لهم كالجبلة والخلق {مسملين} أي: منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رءوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:
{ادخلوا الجنة} ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى: {أنتم وأزواجكم} أي: نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى: {وكانوا مسلمين} {تحبرون} أي: تسرون وتنعمون والحبرة: المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه وقوله تعالى: {يطاف} قبله محذوف أي: يدخلون يطاف {عليهم} أي: المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكًا {بصحاف من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذانًا بأنه لا حاجة أصلًا إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك: وقيل: هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل: إنه لا خرطوم له، وقيل: إنه لا عروة له ولا خرطوم معًا قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي:
متكئًا تصفق أبوابه ** يطوف عليه العبد بالكوب

ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بيانًا كليًا فقال: {وفيها} أي: الجنة {ما تشتهي الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا {وتلذ الأعين} أي: من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.