فصل: من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رحمه الله تعالى مَا مِثَالُهُ مُفَصَّلًا: كَانَ الْكَلَامُ إِلَى هُنَا فِي طَلَبِ بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ ضُرِبَ لَهُ مَثَلُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ فَمَاتُوا بِجُبْنِهِمْ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللهُ تَعَالَى؛ أَيْ أَحْيَا أُمَّتَهُمْ بِنَفَرٍ مِنْهُمْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَمَثَلُ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ غَلَبَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ أَمَّتَهُمْ عَلَى أَمْرِهَا وَأَخْرَجُوهَا مِنْ دِيَارِهَا وَأَبْنَائِهَا، ثُمَّ نَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ مُؤْمِنَةٍ بِلِقَائِهِ، صَابِرَةٍ فِي بَلَائِهِ، بَعْدَ هَذَا أَرَادَ سبحانه أَنْ يُقَوِّيَ النُّفُوسَ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْطَابَ الْهِدَايَةِ، وَمَحَلَّ التَّوْفِيقِ مِنْهُ وَالْعِنَايَةِ، الَّذِينَ بَيَّنَ الدَّلِيلُ فِي آخِرِ السِّيَاقِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ سِيرَتُهُمْ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ دَاوُدَ وَمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، ذَكَرَهُمْ مُبَيِّنًا تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَوِ الْوَصْفِ مَنْ بَقِيَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ، وَذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي الِاخْتِلَافِ وَالِاقْتِتَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَوْضُوعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ وَبَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَكِنْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ دَاوُدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْمُرَادُ بِالرُّسُلِ مَنْ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ مَنْ قَصَّ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ جَمَاعَةُ الرُّسُلِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي اخْتِيَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ وَهِدَايَةِ خَلْقِهِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ وَذِكْرُ بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاكًا مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ إِيتَائِهِ تَعَالَى دَاوُدَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ مِمَّا يَشَاءُ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ رُسُلُ اللهِ، فَهُمْ حَقِيقُونَ بِأَنْ يُتَّبَعُوا وَيُقْتَدَى بِهُدَاهُمْ وَإِنِ امْتَازَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي شَرَائِعِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ بِصِيغَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِلْفَاتُ الْأَذْهَانِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ تَفْخِيمًا لَهَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [4: 164] وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [7: 143] وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [7: 144] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى قَدْ خُصَّ بِتَكْلِيمٍ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَإِنْ كَانَ وَحْيُ اللهِ تَعَالَى عَامًّا لِكُلِّ الرُّسُلِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [42: 51] فَجَعَلَ كَلَامَهُ لِرُسُلِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تُسَمَّى وَحْيَ اللهِ وَكَلَامَ اللهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّكْلِيمِ كَانَ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَجَلِّي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَلَّمَ اللهُ هُنَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ مَنْ يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ.
أَقُولُ: وَقَدْ خَاضَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّكْلِيمِ وَتَبِعَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ التَّكْلِيمَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى كَالتَّعْلِيمِ وَالْكَلَامُ مَا يَكُونُ بِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي عِلْمِهِ، وَتَكْلِيمُهُ الرُّسُلَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ، وَمَا بِهِ الْإِعْلَامُ هُوَ كَلَامُ اللهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ، أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْكَلَامِ، أَيْ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيمُ مَتَى شَاءَ، كَمَا أَنَّهُ مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ مَتَى شَاءَ، هَذَا أَوْضَحُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى النَّفْسِيِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ صِفَةً ذَاتِيَّةً، بِهَا يُعَلِّمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ مَتَى شَاءَ، وَهَذَا الْإِعْلَامُ هُوَ التَّكْلِيمُ وَالْوَحْيُ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ كَلَامِهِ الْقَدِيمِ، وَلَا عَنْ كَيْفِيَّةِ تَكْلِيمِهِ رُسُلَهُ وَإِيحَائِهِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ إِلَّا النَّبِيُّ الْمُكَلَّمُ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْحَثَ فِيهِ وَنُحَاوِلَ الْوُقُوفَ عَلَى كُنْهِهِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ الْمُكَلَّمَ نَفْسَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُفْهِمَهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ تَكْلِيمِ اللهِ وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْوِجْدَانِ وَالشُّعُورِ النَّفْسِيِّ، كَالشُّعُورِ بِالسُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْخَوَاطِرِ، وَلَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ وَالْأَقْلَامِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِنَا مَا يُوهِمُ خِلَافَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَثَرَاتِ الْقَلَمِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيَانِ، لَا مِنْ شُذُوذٍ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَيَّدَهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْأُسْلُوبَ يُؤَيِّدُهُ وَيَقْتَضِيهِ؛ أَيْ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَتَّبِعُ الرُّسُلَ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ مَعَ أَنَّ دِينَهُمْ وَاحِدٌ فِي جَوْهَرِهِ، وَالْمَوْجُودُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ، فَالْمُنَاسِبُ تَخْصِيصُ رُسُلِهِمْ بِالذِّكْرِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ آخِرِهِمْ فِي الْوَسَطِ لِلْإِشْعَارِ بِكَوْنِ شَرِيعَتِهِ وَكَذَا أُمَّتِهِ وَسَطًا.
أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ مَا هُوَ خُصُوصِيَّةٌ فِي نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي كِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي أُمَّتِهِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ تُنْبِئُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [68: 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَى أَشْهَرِهِمْ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [21: 107] وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [34: 28] وَقَالَ تَعَالَى فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17: 9] الْآيَاتِ. وَقَالَ فِيهَا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [17: 88] وَقَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [39: 23] الْآيَةَ. وَقَالَ فِيهَا: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [39: 55] الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [16: 89] وَقَالَ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6: 38] وَوَصَفَهُ بِالْحَكِيمِ وَبِالْمَجِيدِ وَبِالْعَظِيمِ وَبِالْمُبِينِ وَبِالْفُرْقَانِ، وَحَفِظَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَوَصَفَ الشَّرِيعَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [87: 8] وَقَالَ فِي أُمَّتِهِ، أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حَقَّ الِاتِّبَاعِ دُونَ الَّذِينَ لَقَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [2: 143] وَقَالَ فِيهَا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [3: 110] وَلَوْ أَرَدْتُ اسْتِقْصَاءَ الْآيَاتِ فِي وُجُوهِ دَرَجَاتِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَأَتَيْتُ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا الْقَلِيلُ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلٌ، وَفِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ خَصَائِصِهِ مَا أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ وَهِيَ مِمَّا يَصِحُّ أَنَّ تُعَدَّ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْعُلَمَاءَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، بَلْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا إِدْرِيسَ عليه السلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [19: 57] عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ بِمَعْنَى الدَّرَجَاتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى رَفْعِ اللهِ دَرَجَاتِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَمْلَ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، وَبَالَغَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مِنْهُ وَالْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، لاسيما إِذَا أَيَّدَهُ السِّيَاقُ وَرَضِيَ بِهِ الْأُسْلُوبُ، إِنَّمَا التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ هُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبًا يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ، ثُمَّ يُحَاوِلُونَ حَمْلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْأَخْذِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَرْكِ بَعْضٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْبَيِّنَاتُ} هِيَ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [2: 92] وَرُوحِ الْقُدُسِ: هُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّنَا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [42: 52] الْآيَةَ. وَقَالَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [16: 102] وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا عِيسَى عليه السلام، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي آيَةِ (87) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا نُطِيلُ فِي إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ اسْمِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّ مَا آتَاهُ لَمَّا كَانَ مُشْتَرَكًا كَانَ ذِكْرُهُ بِالْإِبْهَامِ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي كَوْنِهِ مِمَّنْ فُضِّلَ بِهِ، أَوِ الرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهٌ لَا رَسُولٌ مُؤَيَّدٌ بِآيَاتِ اللهِ، ظَهَرَ لِي هَذَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ رَاجَعْتُ تَفْسِيرَ أَبِي السُّعُودِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَإِفْرَادُهُ عليه السلام بِمَا ذُكِرَ لِرَدِّ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي شَأْنِهِ عليه السلام مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: إِذْ جَرَيْنَا فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى تَفْسِيرِ مُفَسِّرِنَا الْجَلَالِ وَأَضْرَابِهِ نَكُونُ جَبْرِيَّةً لَا نَقْبَلُ دِينًا وَلَا شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ لَنَا فِي الْكَلَامِ عِبْرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا قُصَارَاهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي غَرَسَ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ الْأَنْبِيَاءِ بُذُورَ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمَهُمُ الْعُدْوَانَ وَالِاقْتِتَالَ، فَإِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَكُونُوا هَكَذَا، فَكَانُوا مُضْطَرِّينَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ لَهُمُ اخْتِيَارٌ مَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَلْنَدَعْ هَذَا وَلْنَنْظُرْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْقَلِيلَةُ مِنِ اتِّفَاقِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ مَشِيئَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَسُنَنِهِ فِي شُئُونِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، لَمْ يَخْلُقِ اللهُ النَّاسَ بِقُوًى مَحْدُودَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي أَفْرَادِهِمْ لَا تَتَجَاوَزُ طَلَبَ مَا بِهِ قِوَامُ الْحَسْمِ بِالْإِلْهَامِ الْفِطْرِيِّ وَالْإِدْرَاكِ الْجُزْئِيِّ، كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالطُّيُورِ الْحَائِمَةِ، بَلْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ كَمَا نَعْرِفُهُ الْآنَ، جَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَتَصَرَّفُ فِي أَنْوَاعِ شُعُورِهِ، وَفِكْرًا يَجُولُ فِي طُرُقِ حَاجَاتِهِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَجَعَلَ ارْتِقَاءَهُ فِي إِدْرَاكِهِ وَأَفْكَارِهِ كَسْبِيًّا، يَنْشَأُ ضَعِيفًا فَيَقْوَى بِالتَّدْرِيجِ حَسَبَ التَّرْبِيَةِ الَّتِي يُحَاطُ بِهَا، وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ، وَتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْأُسْوَةِ وَالتَّجَارِبِ فِيهِ، وَجَعَلَ هِدَايَةَ الدِّينِ لَهُ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا لَا وَصْفًا اضْطِرَارِيًّا، فَهِيَ مَعْرُوضَةٌ أَمَامَهُ يَأْخُذُ مِنْهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ وَفِكْرِهِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْأَخْذِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ مَنَافِعِ الْكَوْنِ. هَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ سُنَّتَهُ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ وَعَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ هَكَذَا- بِأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ إِلْهَامَاتِهِمُ الْعَامَّةِ وَشُعُورِهِمُ الْفِطْرِيِّ، كَشُعُورِ الْحَيَوَانِ وَإِلْهَامِهِ مَا فِيهِ مَنْفَعَتُهُ- لَكَانُوا فِي هِدَايَةِ الدِّينِ سَوَاءٌ؛ يَسْعَدُونَ بِهِ أَجْمَعِينَ فَتَمْنَعُهُمْ بَيِّنَاتُهُ أَنْ يَخْتَلِفُوا فَيَقْتَتِلُوا، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى غَيْرِ مَا خَلَقَ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا فَأَخَذَ الدِّينَ عَلَى وَجْهِهِ؛ إِذْ فَهِمَهُ حَقَّ فَهْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَبِسَهُ مَقْلُوبًا وَحَكَّمَ هَوَاهُ فِي تَأْوِيلِهِ فَكَانَ كَافِرًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ- وَإِنْ كَانَ غَالِيًا فِيمَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ- وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ التَّخَاصُمِ وَسَبَبَ التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ. اخْتَلَفَ الْيَهُودُ فِي دِينِهِمْ فَاقْتَتَلُوا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ تَخْتَلِفْ أُمَّةٌ اخْتِلَافَهُمْ، وَلَمْ يَقْتَتِلْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ اقْتِتَالَهُمْ، بَلْ كَانَ الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ يَتَشَعَّبُ إِلَى شُعَبٍ يُقَاتِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَحْذَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَشَدَّ الْحَذَرِ لِكَثْرَةِ مَا نَهَاهُمُ اللهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَأَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَهُ تَعَالَى بِالِاتِّحَادِ وَالِاعْتِصَامِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي عَصْرِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَهُ، فَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ ذَهَبُوا فِي الدِّينِ مَذَاهِبَ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا فِي شَرِيعَتِهِ مَشَارِبَ، فَاقْتَتَلُوا فِي الدِّينِ قَلِيلًا وَفِي السِّيَاسَةِ الَّتِي صَبَغُوهَا بِصِبْغَةِ الدِّينِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَمَادَوْا فِي هَذَا الشِّقَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَانْتَهَوْا إِلَى زَمَنٍ صَارُوا فِيهِ أَبْعَدَ الْأُمَمِ عَنِ الِاتِّفَاقِ وَالِائْتِلَافِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، وَالْأَوْلَى أَنْ تُفَسَّرَ بِوَجْهٍ آخَرَ أَخَصَّ، كَأَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهُ فِي الْإِنْسَانِ- عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ- أَنْ يَعْذُرَ الْمُخْتَلِفُونَ مِنْ أَفْرَادِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُوَطِّنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِرَأْيِهِ بِالْحُجَّةِ، وَيَسْعَى إِلَى مَصْلَحَتِهِ بِالْفِطْنَةِ لَمَا اقْتَتَلُوا عَلَى مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُمْ دَرَجَاتٍ فِي الْفَهْمِ وَالْحَزْمِ، وَأَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمُ الْمُدَافَعَةَ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ وَالنِّضَالَ دُونَ مَصْلَحَتِهِمْ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، فَالْقَوِيُّ بِالرَّأْيِ يُحَارِبُ بِالرَّأْيِ وَالْقَوِيُّ بِالسَّيْفِ يُقَاوِمُ بِالسَّيْفِ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ وَالْمَصَالِحِ مَعًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مُؤَدِّيًا إِلَى الِاقْتِتَالِ لَا مَحَالَةَ. قَالَ: هَكَذَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ، فَلَا يُقَالُ: لِمَ خَلَقَهُ هَكَذَا؟ لِأَنَّ هَذَا بَحْثٌ عَنْ أَسْرَارِ الْخِلْقَةِ كَكِبَرِ أُذُنَيِ الْحِمَارِ وَصِغَرِ أُذُنَيِ الْجَمَلِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أَيْ إِنَّ اخْتِصَاصَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَزَايَا هُوَ أَثَرُ إِرَادَتِهِ وَتَخْصِيصِهَا فَلَا مَرَدَّ لَهُ.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنْ لَا تَكْرَارَ فِي الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اخْتِلَافِ الْبَشَرِ وَأَسْبَابِهِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا فِيمَا كَتَبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رحمه الله تعالى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [2: 213] وَقَدْ عَنَّ لِي الْآنَ أَنْ أَخْتِمَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِسَرْدِ بَعْضِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، النَّاعِيَةِ عَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ وَالْمُخْتَلِفِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [3: 103] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [3: 105].
{إِنِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [6: 159] الْآيَةَ. {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30: 31: 32].
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [6: 65].
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [42: 13- 15] إِلَخْ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ يُنَافِي الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، وَأَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَقَدْ أَرْشَدَنَا إِلَى الْمَخْرَجِ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفَهْمِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأَمْرِ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [4: 59].
فَإِطَاعَةُ اللهِ هِيَ الْأَخْذُ بِكِتَابِهِ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَا رَأَيْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ. وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هِيَ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ، وَإِطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ هِيَ الْعَمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُولُو الشَّأْنِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَرُؤَسَائِنَا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرٍ اجْتِهَادِيٍّ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلَحُ لَنَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُنَا، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَادَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَالٍ.
هَذَا حُكْمُ اللهِ الَّذِي أَبْطَلَهُ التَّقْلِيدُ بِمَا جَعَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَاجْتِمَاعِ رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ مِنَ الْحُجُبِ حَتَّى صَارَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، هَذَا خَارِجِيٌّ وَهَذَا شِيعِيٌّ، وَهَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا، وَشِيَعًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، هَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانَهُ وَيُحَارِبُ لِأَجْلِ هَوَاهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانًا يَعْصِي فِي طَاعَتِهِ نُصُوصَ الدِّينِ، وَقَدْ أَفْضَى الْخِلَافُ إِلَى غَايَةٍ هِيَ شَرُّ الْغَايَاتِ، وَخَاتِمَةٍ هِيَ سُوأَى الْخَوَاتِمِ؛ وَهِيَ السُّكُوتُ لِكُلِّ مُبْتَدِعٍ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَالرِّضَا مَنْ كُلِّ مُقَلِّدٍ بِجَهَالَتِهِ، وَاتِّفَاقُ سَوَادِ الشِّيَعِ كُلِّهَا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ إِنَّكَ لَتَجِدُ فِي حَمَلَةِ الْعَمَائِمِ، وَسَكَنَةِ الْأَثْوَابِ الْعَبَاعِبِ مَنْ لَا يُنْكِرُ عَلَى التِّلْمِيذِ الْمُبْتَدِئِ أَنْ يَقْرَأَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ الَّتِي تَطْعَنُ كَبِدَ الدِّينِ، وَتُحَاوِلُ هَدْمَ بِنَائِهِ الْمَتِينِ، وَيُنْكِرُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ كِتَابٍ أَوْ صَحِيفَةٍ تَدْعُوهُ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَعُدُّ هَذَا الْإِنْكَارَ غَيْرَةً عَلَى الدِّينِ وَخِدْمَةً لَهُ!! فَأَيُّ بُعْدٍ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ، وَأَيُّ أَثَرٍ لِلتَّقْلِيدِ شَرٌّ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ؟
أَمَّا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ: فَأَوَّلُهُ مَا كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ فِئَةُ الثَّانِي هِيَ الْبَاغِيَةُ، وَاللهُ يَقُولُ فِيمَنْ سَبَقَهُمْ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [42: 14].
ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ الشِّيعَةِ، وَآخِرُهَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمَصْرِيِّينَ وَالْوَهَّابِيِّينَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
وَمَنْ أَرَادَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ التَّارِيخِ لاسيما تَارِيخِ بَغْدَادَ وَحَادِثَةِ خُرُوجِ التَّتَرِ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ حَادِثَةٍ زَلْزَلَتْ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَرْضِ، وَدَمَّرَتْ بِلَادَهُمْ تَدْمِيرًا، فَقَدْ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَابْنُ الْعَلْقَمِيِّ الشِّيعِيُّ الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ 656 هـ فَخَرَّبُوهَا وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا الشُّرَفَاءَ شِيعَةً وَغَيْرَ شِيعَةٍ، وَوَبَّخَهُ هُولَاكُو عَلَى خِيَانَتِهِ فَمَاتَ غَمًّا، وَالْفِتَنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَتْلُ الْأَوَّلِينَ لِلْآخِرِينَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ أَوَّلَ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّقُونَهُمْ بِالنَّارِ وَيَنْهَبُونَ دُورَهُمْ، وَتَارِيخُ بَغْدَادَ مَمْلُوءٌ بِالْفِتَنِ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَانَ أَشَدُّ الْخِلَافِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ لِذَلِكَ، وَلَا يَنْسَيَنَّ الرَّاجِعُ إِلَى التَّارِيخِ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، إِذْ تَقَلَّدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ خَرَابِ مَرْوَ عَاصِمَةِ خُرَاسَانَ.
أَقُولُ: إِنَّ الْوُجُودَ قَدْ كَانَ وَمَا زَالَ مُصَدِّقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ إِهْلَاكِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لِلْأُمَمِ وَإِفْسَادِهِ لِلدِّينِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كِتَابُ اللهِ هَذَا الْمَرَضَ الِاجْتِمَاعِيَّ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ عِلَاجَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَحْكِيمُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَرَدُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُمُورِ الْحَرْبِيَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [4: 83] وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلَاجَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ ذَهَبَ بِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ رَأْيٌ وَلَا مَشُورَةٌ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمِيرٌ وَلَا سُلْطَانٌ، مَا كَانَ هُنَاكَ إِلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ وُجُوهَ الْمَصْلَحَةِ مَعَ فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ رِجَالٌ أَهْلُ بَصِيرَةٍ وَرَأْيٍ فِي سِيَاسَتِهَا وَمَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَقُدْرَةٍ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَمْرُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ أَهْلُ الشُّورَى، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ بَيْعَةَ الْخِلَافَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْخَلِيفَةَ وَيُبَايِعُونَهُ بِرِضَاهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ عِنْدَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى بِنُوَّابِ الْأُمَّةِ.
لَوْ وُجِدَ هَؤُلَاءِ فِي بِلَادٍ إِسْلَامِيَّةٍ لَتَيَسَّرَ لَهُ إِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَإِنْجَائِهِمْ مِنْ شُرُورِهِ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَبِإِقَامَتِهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حِفْظِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ حَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ فَبِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاعْتِبَارُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَيُحْمَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ. وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ صَاحِبُ الدَّلِيلِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَادِيَ أَوْ يُمَارِيَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلُهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَافِقِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُذْكَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ اسْتَفْتَى فِيهِ مَنْ يَثِقُ بِوَرَعِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، وَذَلِكَ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ لَهُ حُكْمَ اللهِ فِيهِ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا عِنْدَهُ فِيهِ مِنْ آيَةٍ كَرِيمَةٍ أَوْ سُنَّةٍ قَوِيمَةٍ، وَيُبَيِّنُ لَهُ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَارِ. هَكَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّتُهُمْ، وَأَنَّى لِلْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُمْ فَاقِدُو أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تُفَوِّضُ الْأُمَّةُ إِلَيْهِمْ أُمُورَهَا الْعَامَّةَ وَتَجْعَلُهُمْ مُسَيْطِرِينَ عَلَى حُكَّامِهَا وَأَحْكَامِهَا؟
قَدِ اهْتَدَى الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى مَضَارِّ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَى أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا قُلْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ: {الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ} مُنَاظَرَةً دَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لابد فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُطَاعُ طَاعَةً عَمْيَاءَ، وَإِنَّنَا نُورِدُ بَعْضَ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ قَالَ رحمه الله تعالى بَعْدَ كَلَامٍ فِي الِاخْتِلَافِ:
فَقَالَ- أَيْ مُنَاظِرُهُ الْبَاطِنِيُّ-: كَيْفَ نَجَاةُ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ؟ قُلْتُ: إِنْ أَصْغَوْا إِلَيَّ رَفَعْتُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَا حِيلَةَ فِي إِصْغَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصْغُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا إِلَى إِمَامِكَ فَكَيْفَ يُصْغُونَ إِلَيَّ؟ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِصْغَاءِ وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَكَوْنُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ضَرُورِيًّا تَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ: جَوَابُ مُفَصَّلِ الْخِلَافِ وَهُوَ الْفُصُولُ الِاثْنَا عَشَرَ.
فَقَالَ: فَلَوْ أَصْغَوْا إِلَيْكَ كَيْفَ كُنْتَ تَفْعَلُ؟ قُلْتُ: كُنْتُ أُعَامِلُهُمْ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَأَنْزَلَنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [57: 25].
الْآيَةَ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَ لِأَنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: عَوَامٌّ: وَهُمْ أَهْلُ السَّلَامَةِ الْبُلْهُ: وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَخَوَاصٌّ: وَهُمْ أَهْلُ الذَّكَاءِ وَالْبَصِيرَةِ. وَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمْ طَائِفَةٌ هُمْ أَهْلُ الْجَدَلِ وَالشَّغَبِ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ.
أَمَّا الْخَوَاصُّ فَإِنِّي أُعَالِجُهُمْ بِأَنْ أُعَلِّمَهُمُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَكَيْفِيَّةَ الْوَزْنِ بِهَا فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ عَلَى قُرْبٍ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ اجْتَمَعَ فِيهِمْ ثَلَاثُ خِصَالٍ: أَحَدُهَا الْقَرِيحَةُ النَّافِذَةُ وَالْفَطِنَةُ الْقَوِيَّةُ، وَهَذِهِ فِطْرِيَّةٌ وَغَرِيزَةٌ جِبِلِّيَّةٌ لَا يُمْكِنُ كَسْبُهَا الثَّانِيَةُ خُلُوُّ بَاطِنِهِمْ مِنْ تَقْلِيدٍ وَتَعَصُّبٍ لِمَذْهَبٍ مَوْرُوثٍ مَسْمُوعٍ، فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُصْغِي وَالْبَلِيدَ وَإِنْ أَصْغَى لَا يَفْهَمُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ بِالْمِيزَانِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّكَ تَعْرِفُ الْحِسَابَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْكَ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الْبُلْهُ. وَهُمْ جَمِيعُ الْعَوَامِّ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِطْنَةٌ لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِطْنَةٌ فِطْرِيَّةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ دَاعِيَةُ الطَّلَبِ، بَلْ شَغَلَتْهُمُ الصِّنَاعَاتُ وَالْحِرَفُ. وَلَيْسَ فِيهِمْ أَيْضًا دَاعِيَةُ الْجَدَلِ بِخِلَافِ الْمُتَكَايِسِينَ فِي الْعِلْمِ مَعَ قُصُورِ الْفَهْمِ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ. فَأَدْعُو هَؤُلَاءِ إِلَى اللهِ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا أَدْعُو أَهْلَ الْبَصِيرَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَأَدْعُو أَهْلَ الشَّغَبِ بِالْمُجَادَلَةِ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ أَوَّلًا، فَأَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ: عَلِّمْنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ. فَعَلِمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: وَمَاذَا عَمِلْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ؟ أَيِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ اذْهَبْ فَأَحْكِمْ رَأْسَ الْعِلْمِ ثُمَّ ارْجِعْ لِأُعَلِّمَكَ مِنْ غَرَائِبِهِ فَأَقُولُ لِلْعَامِّيِّ لَيْسَ الْخَوْضُ فِي الِاخْتِلَافَاتِ مِنْ عُشِّكَ فَادْرُجْ فَإِيَّاكَ أَنْ تَخُوضَ فِيهِ أَوْ تُصْغِيَ إِلَيْهِ فَتَهْلَكَ، فَإِنَّكَ إِذَا صَرَفْتَ عُمُرَكَ فِي صِنَاعَةِ الصِّيَاغَةِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِيَاكَةِ، وَقَدْ صَرَفْتَ عُمُرَكَ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْ أَهْلِ الْخَوْضِ فِيهِ؟ فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُهْلِكَ نَفْسَكَ، فَكُلُّ كَبِيرَةٍ تَجْرِي عَلَى الْعَامِّيِّ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْعِلْمِ، فَيَكْفُرُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.
فَإِنْ قَالَ: لابد مِنْ دِينٍ أَعْتَقِدُهُ وَأَعْمَلُ بِهِ لِأَصِلَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْأَدْيَانِ، فَبِأَيِّ دِينٍ تَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ أَوْ أُعَوِّلَ عَلَيْهِ؟ فَأَقُولُ لَهُ: لِلدِّينِ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ، وَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِمَا، أَمَّا الْأُصُولُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَعْتَقِدَ فِيهَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْتُرْ عَنْ عِبَادِهِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ فَعَلَيْكَ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ اللهَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ قُدُّوسٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ- إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، فَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَإِنْ تَشَابَهَ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَقُلْ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [3: 7] وَاعْتَقِدْ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِهَا عَلَى غَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقْدِيسِ، مَعَ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ وَاعْتِقَادِ أَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَبَعْدَ هَذَا لَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْقِيلِ وَالْقَالِ، فَإِنَّكَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَلَا هُوَ عَلَى حَدِّ طَاقَتِكَ، فَإِنْ أَخَذَ يَتَحَذْلَقُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ عَالِمٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالذَّاتِ أَوْ بِعِلْمٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، فَقَدْ خَرَجَ بِهَذَا عَنْ حَدِّ الْعَوَامِّ؛ إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَلْتَفِتُ قَلْبُهُ إِلَى هَذَا مَا لَمْ يُحَرِّكْهُ شَيْطَانُ الْجَدَلِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا إِلَّا يُؤْتِهِمُ الْجَدَلَ، كَذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ وَإِذَا الْتَحَقَ بِأَهْلِ الْجَدَلِ فَأَذْكُرُ عِلَاجَهُمْ:
هَذَا مَا أَعِظُ بِهِ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ الْحَوَالَةُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهَمُّ الْحَوَالَةِ عَلَى الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَأَقُولُ: لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ مَا لَمْ تَفْرُغْ عَنْ جَمِيعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ زَادَ الْآخِرَةِ هُوَ التَّقْوَى وَالْوَرَعُ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الْحَرَامَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَالنَّمِيمَةَ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالْخِيَانَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ حَرَامٌ، وَالْفَرَائِضُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنْ فَرَغْتَ مِنْ جَمِيعِهَا عَلَّمْتُكَ طَرِيقَ الْخَلَاصِ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنْ هُوَ طَالَبَنِي بِهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذَا فَهُوَ جَدَلِيٌّ وَلَيْسَ بِعَامِّيٍّ، أَفَرَأَيْتَ رُفَقَاءَكَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ جَمِيعِ هَذَا ثُمَّ أَخَذَ إِشْكَالُ الْخِلَافُ بِمَخْنَقِهِمْ؟ هَيْهَاتَ مَا أَشْبَهَ ضَعْفَ عُقُولِهِمْ فِي خِلَافِهِمْ إِلَّا بِعَقْلٍ مَرِيضٍ بِهِ مَرَضٌ أَشْرَفَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ وَلَهُ عِلَاجٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَطِبَّاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْأَطِبَّاءُ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ أَنَّهَا حَارَّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ وَرُبَّمَا افْتَقَرْتُ إِلَيْهِ يَوْمًا، فَأَنَا لَا أُعَالِجُ نَفْسِي حَتَّى أَجِدَ مَنْ يُعَلِّمُنِي رَفْعَ الْخِلَافِ فِيهِ إِلَى آخَرِ مَا أَطَالَ بِهِ، وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا رَأْيُهُ فِي الْخَوَاصِّ وَكَيْفَ يُعَالِجُهُمْ بِمَوَازِينِ الْبَرَاهِينِ، وَفِي أَهْلِ الْجَدَلِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ جِدَالَهُمْ يَكُونُ بِمِثْلِ مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ الَّذِي يَبْغِي بِجَدَلِهِ فِتْنَةَ الْعَوَامِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْحَدِيدُ؛ أَيْ قُوَّةُ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ فِتْنَةِ بَعْضٍ. اهـ.