فصل: من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فِيهَا تَنْفِيذُ قول الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}.
هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية.
والجواب- أن معنى الآية أنه تعالى هو معبود أهل السموات والأرض فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} أي معبود وحده في السماء كما أنه المعبود بالحق في الأرض سبحانه وتعالى. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

سورة الزُّخْرُفِ:
قولهُ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} يُشْبِهُ قولهُ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {وَقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الْمَثَلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَسِيحَ ابْنَهُ. وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتَه وَالْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ فَجَعَلُوهُ لِلَّهِ شَبِيهًا وَنَظِيرًا. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمَسِيحِ أَنَّهُ مَثَلٌ لِآلِهَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ضَارِبُهُ كَضَارِبِ الْمَثَلِ لِلرَّحْمَنِ وَهُمْ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ضَارِبُهُ هُوَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ قولهُ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَلَمَّا قال ابْنُ الزبعرى: لَأَخْصِمَن مُحَمَّدًا. فَعَارَضَهُ بِالْمَسِيحِ وَنَاقَضَهُ بِهِ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ مَثَلًا قَاسَ الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِقولهِ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا} فَعُلِمَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ لَا النَّصَارَى.
فَإِنَّ (الْمَثَلَ) يُقال عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى الْفَرْعِ (وَالْمَثَلُ) يُقال عَلَى الْمُفْرَدِ وَيُقال عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَاسُ كَمَا قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ هُوَ الْقِيَاسُ أَمَّا قِيَاسُ التَّمْثِيلِ فَيَكُونُ الْمَثَلُ هُوَ الْمُفْرَدُ وَأَمَّا قِيَاسُ الشُّمُولِ فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ ضَرْبَ مِثْلٍ كَتَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا كَمَا بَيَّنْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ جِهَةِ مُطَابَقَةِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لِلْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ وَمُمَاثَلَتِهَا لَهَا وَمِنْ جِهَةِ مُطَابِقَةِ ذَلِكَ الْمُفْرَدِ الْمُعَيَّنِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِلِ لِلْأَفْرَادِ وَلِسَائِرِ الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ الذِّهْنَ يَرْتَسِمُ فِيهِ مَعْنًى عَامٌّ يُمَاثِلُ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنُ وَكُلُّ فَرْدٍ يُمَاثِلُ الْآخَرَ فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى يُمَاثِلُ هَذَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمَاثِلُ الْمَعْنَى الْعَامَّ الشَّامِلَ لَهُمَا. وَبِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سُمِّيَ ضَرْبَ مَثَلٍ وَسُمِّيَ قِيَاسًا فَإِنَّ الضَّرْبَ الْجَمْعُ وَالْجَمْعُ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فَالْجَمْعُ وَالضَّرْبُ وَالْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فِي النَّفْسِ مَعْنًى وَلَفْظًا فَإِذَا ضَرَبَ مَثَلًا فَقَدْ صِيغَ عُمُومًا مُطَابِقًا أَوْ صِيغَ مُفْرَدًا مُشَابِهًا؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَك أَنْ تَقول: كُلُّ إخْبَارٍ بِمَثَلِ صَوَّرَهُ الْمُخْبِرُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ جَمَعَ مَثَلًا فِي نَفْسِهِ وَنَفْسِ الْمُسْتَمِعِ بِالْخَبَرِ الْمُطَابِقِ لِلْمُخْبِرِ فَيَكُونُ الْمَثَلُ هُوَ الْخَبَرُ وَهُوَ الْوَصْفُ كَقولهِ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وَقولهِ: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. وَبَسْطُ هَذَا اللَّفْظِ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَحْكَامِ وَالْأَدِلَّةِ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في صفح:
نظر إِليه بصَفْح وَجهه، ويصُفْح وجهه.
وضربته على صَفْحِهِ وصَفْحَته: على جَنْبِه.
وجلا صَفْحَتَىْ السّيف، وكتب في صفحتى الورقة.
وتصفَّح الشىءَ: تأَمّله، ونظر في صَفَحاته.
وتصفَّح القومَ: نظر في أَحوالهم، ونظر في خِلالهم هل يرى فلانًا.
وصَفَحْتُ عنه: أَعرضت عن ذنبه وعن تثريبه.
وهو أَبلغ من العفو، (وقد) يعفو الإِنسان ولا يَصفح.
وصفحت عنه: أَوْلته صفحةً جميلة.
وقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} أَمْرٌ للنَّبىِّ صلى الله عليه وسلم أَن يخفِّف على نفسه كُفر من كفر؛ كما قال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}.
ومن المجاز قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}.
وقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أَمْر للنبىِّ صلى الله عليه وسلم بالتَّجاوز عن جنايات المؤمنين.
وقوله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ} إِشارة إِلى الآباءِ والأَزواج بالعفو عن الأَولاد والعِيال.
وقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} إِشارة إِلى أَبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه بالتجاوز عن ذنْب مِسْطح بن أُثَاثة فيما أَخطأَ من الخوض في حديث الإِفْكِ. اهـ.

.قال السمين:

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)}.
قوله: {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ}: قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: كيف جازَ أَنْ تُجاب (لَمَّا) بـ: (إذا) المفاجأة؟ قلت: لأنَّ فِعْلَ المفاجأةِ معها مقدَّرٌ، وهو عاملُ النصبِ في مَحَلِّها، كأنه قيل: فلمَّا جاءهم بآياتنا فاجَؤُوا وقتَ ضَحِكهم. قال الشيخ: ولا نعلَمُ نحوَ ما ذهب إلى ما ذَهَب إليه مِنْ أنَّ (إذا) الفجائيةَ تكونُ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ تقديره: فاجأ، بل المذاهبُ ثلاثةٌ: إمَّا حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ، أو ظرفُ مكانٍ، أو ظرفُ زمانِ. فإنْ ذُكِرَ بعد الاسمِ الواقع بعدها خبرٌ كانت منصوبةً على الظرفِ، والعاملُ فيها ذلك الخبرُ نحوَ: (خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ) تقديره: خرجتُ ففي المكان الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقتِ الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، وإنْ لم يُذْكَرْ بعد الاسمِ خبرٌ، أو ذُكِرَ اسمٌ منصوبٌ على الحالِ: فإنْ كان الاسمُ جثةً وقُلنا: إنها ظرفُ مكانٍ كان الأمرُ واضحًا نحو: خرجْتُ فإذا الأسدُ أي: فبالحضرةِ الأسدُ، أو فإذا الأسدُ رابضًا. وإنْ قلنا: إنها ظرفُ زمانٍ كان على حذفِ مضافٍ لئلا يُخْبَرَ بالزمانِ عن الجثةِ نحو: (خَرَجْتُ فإذا الأسدُ) أي: ففي الزمانِ حضورُ الأسدِ، وإن كان الاسمُ حَدَثًا جازَ أن يكونَ مكانًا أو زمانًا. ولا حاجةَ إلى تقديرِ مضافٍ نحو: (خرجْتُ فإذا القتالُ) إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ فبالحضرة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ. وفيه تلخيصٌ وزيادةٌ كبيرةٌ في الأمثلةِ رأيْتُ تَرْكَها مُخِلًا.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)}.
قوله: {إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ}: جملةٌ واقعةٌ صفةً لقوله: {مِنْ آية} فيُحْكَمُ على موضِعها بالجَرِّ اعتبارًا باللفظِ، وبالنصبِ اعتبارًا بالمحلِّ، وفي معنى قوله: {أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أوجهٌ، أحدها: قاله ابنُ عطية- وهو أنهم يَسْتَعْظِمون الآيةَ التي تأتي، لجِدَّةِ أَمْرِها وحُدوثِه؛ لأنهم أَنِسُوا بتلك الآيةِ السابقةِ فيَعْظُم أَمْرُ الثانيةِ ويَكْبرُ، وهذا كما قال:
على أنَّها تَعْفُو الكُلُوم وإنما ** نُوَكَّلُ بالأَدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضي

الثاني: ما ذكرَه بعضُهم: مِنْ أنَّ المعنى: إلاَّ هي أكبرُ من أختها السابقةِ، فحذَفَ الصفةَ للعِلْمِ بها. الثالث: قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: هو كلامٌ متناقضٌ؛ لأنَّ معناه: ما مِنْ آيةٍ من التسعِ إلاَّ وهي أكبرُ مِنْ كلِّ واحدةٍ منها، فتكونُ كلُّ واحدةٍ منها فاضلةً ومفضولةً في حالةٍ واحدة. قلت: الغرضُ بهذا الكلامِ وَصْفُهُنَّ بالكبرِ لا يَكَدْنَ يتفاوَتْنَ فيه، وكذلك العادةُ في الأشياء التي تتقارَبُ في الفضلِ التقاربَ اليسيرَ، تختلفُ آراءُ الناس في تفضيلِها، فبعضُهم يفضِّل هذا، وبعضُهم يفضِّل هذا، وربما اختلفَتْ آراءُ الواحدِ فيها، كقول الحماسيِّ:
مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ** مثلَ النجومِ التي يَهْدِي بها السَّاري

وقالت الأنمارية في الجُمْلة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كنتُ أعلمُ أيُّهم أفضلُ، هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أين طرفاها. انتهى كلامُه. وأولُه فظيعٌ جدًا كأن العباراتِ ضاقَتْ عليه حتى قال ما قال، وإنْ كان جوابُه حَسَنًا فسؤالُه فظيعٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في {يا أيها الساحر} في النور.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}.
وقرأ أبو حيوةَ {يَنْكِثُوْن} بكسرِ الكافِ. وهي لغةٌ.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قال يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)}.
قوله: {وهذه الأنهار}: يجوزُ في {وهذه} وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مبتدأةً، والواوُ للحالِ. والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفُ بيانٍ. و{تجري} الخبرُ. والجملةُ حالٌ مِنْ ياء {لي}. والثاني: أنَّ {هذه} معطوفةٌ على {مُلْك مِصْرَ}، و{تَجْري} على هذا حالٌ أي: أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي: الشيئان.
قوله: {تُبْصِرونَ} العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه. وقرأ عيسى بكسر النون أي: تُبْصِروني. وفي قراءة العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي: تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي. وقرأ فهد بن الصقر {يُبْصِرون} بياء الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)}.
قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ}: في (أم) أقوالٌ، أحدها: أنها منقطعةٌ، فتتقدَّرُ بـ: بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزة التي للإِنكار. والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى ** وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ

أي: بل أنتِ. الثالث: أنها منقطعةٌ لفظًا، متصلةٌ معنىً. قال أبو البقاء: أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى: أنا خيرٌ منه أم لا، وأيُّنا خيرٌ. وهذه عبارةٌ غريبةٌ: أن تكونَ منقطعةً لفظًا، متصلةً معنى، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضرابًا: إمَّا إبطالًا، وإمّا انتقالا. الرابع: أنها متصلةٌ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره: أم تُبْصِرون. وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت (لا) بعد أم نحو: أتقومُ أم لا؟ أي: أم لا تقوم. وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي: أم لا هو عندك. أمَّا حَذْفُه دون (لا) فلا يجوزُ، وقد جاء حَذْفُ (أم) مع المعادِلِ وهو قليلٌ جدًا. قال الشاعر:
دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها ** سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

أي: أم غَيٌّ. وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي (أم) المعادِلَةُ أي: أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى. قال: وهذا القول بدأ به الزمخشريُّ فقال: {أم} هذه متصلة لأنَّ المعنى: أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون، إلاَّ أنه وَضَعَ قوله: {أنا خيرٌ} موضعَ {تُبْصِرون}؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خيرٌ، فهم عنده بُصَراءُ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب. قال الشيخ: وهذا متكلَّفٌ جدًا؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلًا للسابقِ. فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ، كقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لأنَّ معناه: أم صَمَتُّم، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} ليس مقابلًا لقوله: {أفلا تُبْصِرون}. وإن كان السابقُ اسمًا كان المعادِلُ اسمًا، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قوله:
أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ

فـ(أتمَّت) معادِلٌ للاسم، فالتقديرُ: أم (مُتِمًّا) قلت: وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به، وكذا قوله أيضًا: إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد (أم) إلاَّ وبعدها (لا) فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون (لا) فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضًا.
قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالًا.
والعامَّة على {يُبين} مِنْ أبان، والباقر {يَبين} بفتحِها مِنْ بان أي: ظهر.
{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}.
قوله: {أَسْوِرَةٌ}: قرأ حفص {أَسْوِرَة} كأَحْمِرَة. والباقون {أساوِرَة}. فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة، وهو جمعُ قلةٍ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار. يقال: سِوارُ المرأة وإسْوارُها، والأصل: أساوير بالياء، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة. وقيل: بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ. وقرأ أُبَيٌّ والأعمش- ويُرْوى عن أبي عمرو- {أساوِر} دونَ تاءٍ. ورُوِي عن أُبَيّ أيضًا وعبد الله أساْوِير. وقرأ الضحاك {أَلْقَى} مبنيًا للفاعلِ أي الله. و{وأساوِرة} نصبًا على المفعولية. و{مِنْ ذَهَبٍ} صفةٌ لـ: أَساورة. ويجوزُ أَنْ تكون (مِنْ) الداخلةَ على التمييز.
{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}.
قوله: {آسَفُونَا}: منقول بهمزةِ التعديةِ مِنْ أسِفَ بمعنى غَضِبَ، والمعنى: أَغْضَبونا بمخالَفَتِهم أمرَنا. وفي التفسيرِ: أحزنوا أولياءَنا يعني السَّحَرةَ.
{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)}.
قوله: {سَلَفًا}: قرأ الأخَوان بضمتين، والباقون بفتحتين. فأمَّا الأُولى فتحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنها جمعُ سَليف كرَغيف ورُغُف. وسمع القاسمُ بنُ مَعَن من العرب: (مضى سَليفٌ من الناس). والسَّليفُ من الناس كالفريقِ منهم. والثاني: أنها جمعُ سالِف كصابِر وصُبُر. والثالث: أنها جمعُ سَلَف كأَسَد وأُسُد. والثانية تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعًا لسالِف كحارس وحَرَس، وخادِم وخَدَم. وهذا في الحقيقة اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ إذ ليس في أبنيةِ التكسير صيغةُ فَعَل. والثاني: أنه مصدرٌ يُطْلق على الجماعة تقول: سَلَفَ الرجلُ يَسْلُفُ سَلَفًا أي: تقدَّم. وسلَفُ الرجلِ آباؤه المتقدِّمون، والجمع أَسْلافٌ وسُلاف. وقال طفيل:
مَضَوْا سَلَفًا قَصْدُ السَّبيلِ عليهمُ ** صُروفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ

وقرأ عليٌّ كَرَّم اللَّهُ وجهَه ومجاهد {سُلَفًا} بضم السين وفتح اللام. وفيها وجهان، أشهرُهما: أنه جمعُ سُلْفَة كغُرْفَة وغُرَف، والسُّلْفَةُ الأمة. وقيل: الأصل {سُلُفًا} بضمتين، وإنما أَبْدل من الضمة فتحةً.
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}.
قوله: {مَثَلًا}: إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كانت بمعنى صَيَّر، وإلاَّ حالًا.
قوله: {يَصِدُّون} قرأ نافع وابن عامر والكسائي {يَصُدُّون} بضمِ الصادِ. والباقون بكسرِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو الصحيحُ، واللفظُ يُقال: صَدَّ يَصِدُّ ويَصُدُّ كعَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ، ويَعْرُشُ ويَعْرِشُ. وقيل: الضمُّ مِن الصُّدود، وهو الإِعراضُ. وقد أنكر ابنُ عباسٍ الضمَّ، وقد رُوِي له عن علي رضي الله عنهما- والله أعلم- قبل بلوغِه تواتُرُه.
{وَقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}.
قوله: {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ}: قرأ أهلُ الكوفة بتحقيق الهمزةِ الثانيةِ، والباقون بتسهيلِها بينَ بينَ، ولم يُدْخِلْ أحدٌ مِنْ القراء الذين مِنْ قاعدتِهم الفصلُ بين الهمزتين بألفٍ، ألفًا، كراهةً لتوالي أربعةِ مُتشابهات، وأَبْدل الجميعُ الهمزةَ الثالثة ألفًا. ولابد مِنْ زيادةِ بيان: وذلك أن (آلِهة) جمعُ إله كعِماد وأَعْمِدَة، فالأصلُ أَأْلِهَة بهمزتين: الأولى زائدةٌ، والثانيةُ فاء الكلمة وقعتِ الثانيةُ ساكنةً بعد مفتوحةٍ وَجَبَ قلْبُها ألفًا كأَمِن وبابِه، ثم دَخَلَتْ همزةُ الاستفهامُ على الكلمةِ، فالتقى همزتان في اللفظ: الأولى للاستفهامِ والثانيةُ همزةُ أَفْعِلة. والكوفيون لم يَعْتَدُّوا باجتماعِهما فأبْقَوْهما على حالِهما. وغيرُهم استثقَل فخفَّفَ الثانيةَ بالتسهيلِ بينَ بينَ، والثالثةُ بألفٍ محضةٍ لم تُغَيَّرْ البتةَ. وأكثرُ أهلِ العصرِ يُقرُّونَ هذا الحرفَ بهمزةٍ واحدة بعدها ألفٌ على لفظِ الخبرِ ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما قرأتُ به، إلاَّ أنَّه رُوِي أنَّ وَرْشًا قرأ كذلك في روايةِ أبي الأَزْهر، وهي تحتملُ الاستفهامَ كالعامَّةِ، وإنما حَذَفَ أداةَ الاستفهامِ لدلالة (أم) عليها وهو كثيرٌ، وتَحْتمل أنَّه قرأه خبرًا مَحْضًا وحينئذٍ تكون (أم) منقطعةً فتُقَدَّرُ بـ: بل والهمزة.