فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: {تلك الرسل} و{الرسل} هي جمع لمفرد هو رسول. والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق هؤلاء الرسل وقال: {تلك الرسل}؟ ذلك ليدلك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد. وكما عرفنا من قبل أن الإشارة ب {تلك} هي إشارة لأمر بعيد. فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا نقول: ذا، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول: ذاك. وعندما نشير إلى مؤنث فنقول: ت وعندما نشير إلى خطاب مؤنث: تيك. واللام كما عرفنا هنا للبعد أو للمنزلة العالية.
إذن فقوله الحق: {تلك الرسل} هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني. والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام، وعن عيسى عليه السلام، وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل. إن أردت الترتيب القرآني هنا، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة، وإن أردت ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من علمه الرسل من الرسل السابقين، والمناسبة هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك: {وإنك لمن المرسلين}، ولما كانت {وإنك لمن المرسلين} تفيد بعضيته صلى الله عليه وسلم لكلية عامة، كأنه يقول: إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو أنهم رسل الله، أنهم أيضا متساوون في المنزلة، لا، بل كل واحد منهم له منزلته العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل. إنهم جميعا رسل من عند الله، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل.
فلماذا كان قول الله: {وإنك لمن المرسلين} يؤكد لنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة، وتقول إنهم متماثلون في الفضل. لا. إن الله قد فضل بعضهم على بعض. وما هو التفضيل؟ إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان ما هذه محاباة، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلا إذا أردنا أن نختار أحدًا من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عددا من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول: هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح وهذا فيه ميزات عن ذاك وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل، ولكن إن اخترنا واحدًا لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.
إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما. وحينما قال الحق: {وإنك لمن المرسلين} جاء بعدها بالقول الكريم: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وأعطانا نماذج التفضيل فقال: {منهم من كلم الله}. وساعة تسمع {منهم من كلم الله} يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق: {ورفع بعضهم درجات}. ثم قال: {وآتينا عيسى ابن مريم البيانات} إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال: {كلم الله} وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق {ورفع بعضهم درجات} والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام. إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله: {ورفعنا بعضهم درجات} بحق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء، ولكنك تجد أن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود.
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولكن هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة إنه هو محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونية، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى عليه السلام يبرئ الأكمة والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود.
لكن محمد صلى الله عليه وسلم حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسات علما بان الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له معجزات حسية كبيرة انظر كتاب الفرقان لأبن تيمية التي تحدث مرة وتنتهي، إنه سبحانه قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولابد أن تكون معجزته صلى الله عليه وسلم غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن. ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته. إن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} من الآية [7 سورة الحشر].
فهو صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع أيضا، أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض، وتلك القوانين نوعان: نوع جاء من الله، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء، ولكن هناك نوع ثان من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلائم ما يرى، وهذا تفضيل للرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن حين يقول الله تعالى: {ورفع بعضهم درجات} فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا أكثر من التصريح بالاسم. وأضرب هنا المثل- ولله المثل الأعلى- أنت أعطيت لولدك قلما عاديا، ولولدك الثاني قلما مرتفع القيمة، ولولدك الثالث ساعة، أما الولد الرابع فاشترين له هدية غالية جدا، ثم تأتي للأولاد وتقول لهم: أنا اشتريت لفلان قلما جافا، ولفلان قلما حبر، واشتريت لفلان ساعة، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة. ف {بعضهم} هذا قد عرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون قد تعين وتحدد تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله وحين تقول كلم الله إياك أن تغفل عن قضية كلية تحكم كل وصف لله يوجد في البشر، فأنا أتكلم والله يتكلم، لكن أكلامه سبحانه مثل كلامي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه، وإن كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي ككلامه؟ ربما يقول أحد: إن الكلام صوت وأحبال صوتية وغير ذلك، نقول له: لا، أنت لا تأخذ ما يخص الله سبحانه إلا في إطار {ليس كمثله شيء} ونحن نأخذ كل وصف يرد عن الله بواسطة الله، ولا نضع وصفا من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر. فلله حياة ولك حياة. لكن أحياة أي منا كحياته سبحانه؟ لا، إن حياته ذاتية، وحياة كل منا موهوبة مسلوبة، فليست مثل حياته.
وعندما يقول الحق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} سورة السجدة.
فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا لا. ونحن المؤمنين نأخذ كل صفة عن الله في نطاق التنزيه: سبحان الله وليس كمثله شيء، فليس استواء الله مثل استواء البشر، وليس جلوس الحق مثل جلوس الإنسان. ونضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- هب أن صاحبا لك دعاك لتأكل عنده، ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده، لابد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين كل مائة من موائد من دعوك، فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم الأمور الوصفية تبعا لمقاماتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الأشياء أيقنت أنه سبحانه منزه عن كل من سواه، وليس كمثله شيء.
اذن {كلم الله} تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل الإعلام. {منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} والحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما في الكلام عن سيدنا عيسى- أن عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس-؛ لأن المسائل التي تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه، ولذلك يقول الحق سبحانه عنه: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} سورة مريم.
ففي الميلاد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لأنه ولد على غير طريقة ميلاد الناس، واتهمت فيها أمه، وجاء القرآن فنزهها، وبرأها، ووضع الأمر في نصابه الحق، وأيضا في موته عندما أرادوا أن يقتلوه. وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل الله رسلًا إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق الخلق غير مكرهين على فعل، ولا مسخرين كما تسخر بقية الأجناس في الكون، ودونه مباشرة الحيوان الذي ينقص عنه العقل، وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة، وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات، تلك هي أجناس الوجود. والإنسان هو سيد هذه الأجناس. والسيادة جاءت له من ناحية أن الأجناس كلها مسخرة لخدمته لا بالاختيار، ولكن بالقهر والقسر.
فالشمس لم تجئ مرة لتقول: لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ولا الهواء امتنع عن أن يهب، ولا المطر امتنع عن أن ينزل، ولا الأرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر غذائه، إن الإنسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد، لا شيء يتأبى أبدا على الإنسان. وأنت أيها الإنسان الجنس الوحيد الذي وهبك الله الاختيار لتمارس مهمتك في الوجود، فإن شئت فعلت كذا، وإن شئت لم تفعل كذا. ولكن الله لم يدعك هكذا على إطلاقك، بل إن فيه أمورًا تصير برغم أنفك وأنت مسخر فيها، لا تستطيع- مثلا- أن تتحكم في يوم ميلادك، ولا في يوم وفاتك، ولا فيما ينزل عليك من الأحداث الخارجة عنك، ولا فيما يدور من الحركة في بدنك، كل ذلك أنت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضة ربك. ولكنك مختار في أشياء.
ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناسًا على أن تكون كما يريد، وكما يحب، وتلك صفة القدرة؛ لأن صفة القهر تفيد السيطرة. فإذا ما ترك جنسا يختار أن يؤمن، ويختار ألا يؤمن، وإن آمن يختار أن يطيع ويختار أن يعصي، فهذه تثبت المحبوبية لله سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة الله على المعصية. ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب. فأنت تستطيع أن تهدد إنسانا بمسدس وتقول له: اسجد لي فيسجد لك، لكنك لا تستطيع أن تقول له- وهو تحت التهديد- أحبني. فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا الإيمان بالاختيار، ويترك لنا الطاعة والمعصية اختيارًا، ليعلم من يأتيه حبًا ومن يأتيه قهرا.
والعالم كله يأتي لله قهرا. وأنت أيها الإنسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها. ومن هنا ثبتت لله تعالى القدرة. وبقى أن تثبت له الحب. والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب. ونحن قد سبق لنا أن ضربنا مثلا- ولله المثل الأعلى- وقلنا أن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والآخر اسمه سعيد، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا: يا سعد فهل لسعد ألا يجئ؟ لا. لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية، وعندما يناديه فهو يأتيه. إذن، أيهما يحبه، الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن، فمن كرامة الإنسان أن يثبت لله صفة المحبة إن آمن بالله؛ لأنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعا ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر به، ولو شاء أن يكون مطاعا دائما ما استطاع واحد أن يعصيه أبدًا. ولذلك قلنا: إن إبليس كان عالما حينما قال أمام الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} سورة ص.
اقسم الشيطان لله بعزته سبحانه عن خلقه، وكأنه قال: أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا لا أستطيع أن أخذهم، لكن لأنك عزيز عليهم، إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا، وإن أرادوا ألا يؤمنوا لم يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه. ولذلك استثني الشيطان بعضا من العباد لأنه لن يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخلا: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} سورة ص.
أي إن الذي يريد الله أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه. إذن فإبليس ليس داخلا في معركة مع الله تعالى، ولكنه في معركة معنا نحن. ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء على لسان إبليس في القرآن: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} سورة ص.
إذن لو أراد الله أن نكون طائعين جميعا، أيستطيع واحد أن يعصي؟ لا يستطيع. ولو أرادنا مؤمنين جميعا، أيستطيع واحد أن يكفر؟ لا يستطيع. إنما شاء الله تعالى لبعض الأمور والأفعال أن يتركها لاختيارك؛ لأنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعا وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد». رواه مسلم بسنده عن ابى هريرة. ولهذا فإن مطلوب الارتفاع الإيماني، والارتفاع اليقيني أن تحب الله لذات الله. وهو سبحانه يجري عليك من الأحداث ما يشاء، وظل تحبه فيباهي الله بك الملائكة فتقول الملائكة: يا رب يحبك لنعمتك عليه فيقول لهم: وأسلب نعمتي ولا يزال يحبني، ويسلب الحق النعمة لكن العبد لا يزال يحب الله، فهو يحب الله ولا يحب نعمته لأنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه يعطينا النعم.
إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج الله لمن يريد أن يعلن حبه لله، وأن يكون خليفة في الأرض بحق، وأن يصلح في الكون ولا يفسده. ونعرف أن الإصلاح له مرتبتان: أن تترك الصالح بطبيعته فلا تفسده، أو أن تزيد الصالح صلاحا. فلا تأتي على عين الماء التي تتدفق للناس وتردمها، ولكنك تتركها على صلاحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلاحا. وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلاحا؛ فبدلا من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون منها الماء، قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد المواسير وتوصل المياه إلى منازلهم. فأنت بذلك تزيد الأمر الصالح صلاحا، وهذه خلافة وعمارة في الوجود. فإن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحا فجنبنا شر إفسادك، ودع الحال كما هي عليه، واقعد كما أنت عالة في الكون.
ولو أن الإنسان كان منصفا في الكون لسأل نفسه: من الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي تأكله الآن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف، فهناك إنسان زرع القمح، وهناك إنسان آخر هداه الله أن يطحن هذا القمح، وهو سبحانه هدى الإنسان أن يصنع منخلا ليفصل الدقيق عن النخالة، ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعما افضل. ولاشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها مرة أخرى فوجدها متخمرة، فلما خبزها خرج له العيش افضل طعما، إنه سبحانه قدر فهدى، وإلا كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟
ومثال آخر: إن الإنسان حين ينظف ثوبه، لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع منذ آدم، لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة الكهربائية التي تغسل له بدون تعب، كل هذه الأشياء جاءت له بهدايات من الله. وقد قلت مرة: لماذا طبخت الناس الكوسة ولم تطبخ الخيار؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة مرت على الإنسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار، وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم يطبخوا النعناع، مع أن النعناع أحسن منها، حدث ذلك؛ لأن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع لا يستساغ طعمه مطبوخا.
وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم، وقدرت الأعمال التي تداولته من يوم أن وجد، ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملًا ومجالًا، وظل يخدمك أنت. ومادمت قد خدمت بهؤلاء الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم، فلابد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك، فلا تكن كسولًا في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود، وبعد ذلك لا تعطي أي شيء، بل لابد أن يكون لك عطاء، فكما أخذت من بيئتك لابد أن تعطي هذه البيئة، ولو لم يوجد هذا لما ارتقت الحياة؛ لأن معنى ارتقاء الحياة أن إنسانًا أخذ خبرة من سبقوه، وحاول أن يزيد عليها، أي أن يأخذ أكبر ثمرة بأقل مجهود.
فلو قدر الناس جهد الإنسان الذي ابتكر العجلة مثلا التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن يستغفروا الله له بمقدار ما أراحهم، فبعد أن كان الإنسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحمل، وفر عليه من اختراع هذا أن يحمل ويتعب، وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود. إذن لابد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الآن وترى كم مرحلة مرت بها، وهل صنعها الناس هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الأرض، وعرف الإنسان جيلا بعد جيل كيفية تطوير تلك الأشياء، وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الإصلاح أو التحسين وهكذا. فأنت عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات، لابد أن تسأل نفسك: ما الذي ستقدمه أنت لهذا العالم، وبذلك تظل الحلقة الإنسانية مرتقية ومتصلة.
والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج: افعل كذا ولا تفعل كذا، حتى تستقيم حياة الناس على الأرض، لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود فسادات بقدر الغفلة، وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسولا جديدا يذكرهم بالمنهج مرة أخرى، وعندما يأتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه، ويتنصر الرسول وتستقر مبادئ الله في الأرض، ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلاف، فهناك أناس يتمسكون بمنهج الله، وأناس يفرطون في هذا المنهج، ويحدث الخلاف وتقوم المعارك.
ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بلا معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطرا سيطرة تسخير. لكن الله تعالى أعطانا تمكينا، وأعطانا اختبارا؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمنا، ومن ينشأ كافرا، نجد الطائع، ونجد العاصي، هذا فريق، وهذا فريق. وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في الأرض، أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة الله، لا. بل إن الله تعالى هو الذي أعطاهم هذا الاختيار، ولو شاء الله أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان أن يخرج على مراد الله. وفي الآية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل: سيدنا موسى عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا عيسى عليه السلام وبعد ذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من الآية [253 سورة البقرة].
إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟ إنه الاختلاف بين الناس، لقد اختلفوا فاقتتلوا. لكن ألا يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان إجماعا على الفساد. والحق سبحانه لا يريد أن يحدث الإجماع على الفساد، فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فلا أقل من أن يظل عنصر الخير موجودا، ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه. إن الحق سبحانه لا يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والأفعال الحسنة، بل يستبقى سبحانه معالم الخير والأفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير، وقد يكون الخير ضعيفا، ولكن الله لا يمحوه؛ لأنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق، وإن بدأوا ضعفاء. ولذلك نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا عباد الله ركع وصبية رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا» رواه الطبرانى في الكبير والبيهقى في السنن الكبرى.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا ألا ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد أنهم يعيشون في أكنافنا. بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق. إن الله سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا، لأن في الضعاف يوجد شيء من الخير، ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد فإنه سيجد من الخير ما يرشده. إذن لولا الاقتتال لعم الفساد، وانتهت المسألة. لكن الناس اختلفت فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، {ولو شاء الله ما اقتتلوا} أي لظلوا على منهج واحد من الكفر أو من الفساد، لكن الله يفعل ما يريد. وفي الاقتتال- كما نعرف- هناك تضحيات بالنفس، وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الأرض.
وتقتضي التضحية إما أن يجود الإنسان بنفسه وإما أن يجود بماله، ولذلك فمن المناسب هنا أن نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال، وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة قتاله: فرسه، رمحه، سيفه، سهامه، لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق، ويتكلم الحق عن هذه المسألة لأن الأمر بصدد استبقاء خلية الإيمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا المنهج في الأرض حتى يفئ إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. اهـ.