فصل: القراءات والوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الكرماني: فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.
ولما كان هذا مفهمًا لأمور لا حصر لها، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة، فقال مؤكدًا لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم: {أمرًا} أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمرًا عظيمًا جدًّا واحدًا لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في أقل من لمح البصر، ودل على أنه ليس مستغرقًا لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال: {من عندنا} أي من العاديات والخوارق وما وراءها.
ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الأنذار، علله بقوله مؤكدًا لما لهم من الأنكار: {إنا} أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة {كنا} أي أزلًا وأبدًا {مرسلين} أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد، لابد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الأنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) وكذا قوله في سورة القدر {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة، وبين سبحانه حال الرسالات بقوله: {رحمة} وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: {منا} إلى قوله: {من ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد، وتمهيد الشرائع في العباد، حتى استنارت القلوب، واطمأنت النفوس، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الافاق، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق.
ولما كانت الرسالة لابد فيها من السمع والعلم، قال: {إنه هو} أي وحده {السميع} أي فهو الحي المريد {العليم} فهو القدير البصير المتكلم، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها.
ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الأنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم من التوراة، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال: {رب} أي مالك ومنشئ ومدبر {السماوات} أي جميع الأجرام العلوية {والأرض} وما فيها {وما بينهما} مما تشاهدون من هذا الفضاء، وما فيه من الهواء وغيره، مما تعلمون من اكتساب العباد، وغيرهما مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذوالعرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله.
ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال: {إن كنتم موقنين} أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق، فأنتم تعلمون أنه لابد لهذه الأجرام الكثيفة جدًّا المتعالى بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهدونه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو كامل العلم شامل القدرة، مختار في تدبيره، حكيم في شأنه كله وجميع تقديره، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملًا يبغي بعضهم على بعض من غير رسول معلم بأوامره، وأحكامه وزواجره، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته، وبعدم اختلال التدبير على طو ل الزمان وحدانيته، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته، صرح بذلك منبهًا لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلك ولا بد فقال تعالى: {لا إله إلا هو} أي وإلا لنازعه في أمرهما أوبعضه منازع، أوأمكن أن ينازع فيكون محتاجًا لا محالة، وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه، فلا يكون صالحًا للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاو ل الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر، وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره، ثبت قوله تعالى: {يحيى ويميت} لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه، ويحال شيء من الأمور عليه، فهما جملتان: الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث.
ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب، وكان السلب أدل على القهر، ذكرهم ما لهم من ذلك في أنفسهم فقال سبحانه: {ربكم} أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدون من النعم في الأرواح وغيرها {ورب آبائكم} ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم، رقي نظرهم إلى النهاية فقال: {الأولين} أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{رب السموات} بالجر على البدل {من ربك}: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالرفع {أني آتيكم} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو {ترجموني} {فاعتزلوني} بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل {لي} بالفتح: ورش {فكهين} بغير الألف: يزيد {يغلي} على التذكير والضمير للطعام: ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون: بتاء التأنيث والضمير للشجرة {فاعتلوه} بضم التاء: ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الآخرون: بالكسر {ذق أنك} بفتح الهمزة على حذف لام التعليل.
{في مقام} بضم الميم من الإقامة: أبو جعفر ونافع وابن عامر.

.الوقوف:

{حم} كوفي o {المبين} o لا ومن لم يقف على {حم} وقف على {المبين} {منذرين} o {حكيم} o ط بناء على أن التقدير أمرنا أمرًا {من عندنا} ط {مرسلين} o ج لاحتمال أن {رحمة} مفعول له أوبه أو التقدير رحمنا رحمة {من ربك} ط {العليم} o لا لمن خفض {رب} {بينهما} ط {موقنين} o {ويميت} ط {الأولين} o {يلعبون} o {مبين} o ط {الناس} ط {أليم} o {مؤمنون} o {مبين} o لا للعطف {مجنون} o لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار {عائدون} o م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود {الكبرى} ج لاحتمال التعليل {منتقمون} o {كريم} o لا {عباد الله} ط {أمين} o {على الله} ج {مبين} o ج {ترجمون} o {فاعتزلون} o {مجرمون} o {متبعون} o لا {رهوا} ط {مغرقون} o {وعيون} o لا {كريم} o لا {فاكهين} o لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت {آخرين} o {منظرين} o {المهين} o لا {من فرعون} ط {المفسرين} o {العالمين} o ج {مبين} o {ليقولون} o لا {بمنشرين} o {صادقين} o {تبع} لا للعطف {من قبلهم} ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار {أهلكناهم} ج لأن التعليل أوضح {مجرمين} o {لاعبين} o {لا يعلمون} o {أجمعين} o لا لأن ما بعده بدل {ولا هم ينصرون} o لا {رحم الله} ط {الرحيم} o {الأثيم} o ج لاحتمال أن يكون {كالمهل} خبرًا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف {في البطون} لا {الحميم} o {الجحيم} o {الحميم} o ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق {الكريم} o {تمترون} o {أمين} o لا {وعيون} o ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال {متقابلين} o ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك {عين} o ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور {آمنين} o لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به {الأولى} ج لأن ما بعده يصلح استئنافًا وحالًا بإضمار قد {الجحيم} o لا لأن {فضلًا} مفعول به {من ربك} ط {العظيم} o {يتذكرون} o {مرتقبون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {حم والكتاب المبين} وجوه من الاحتمالات أولها: أن يكون التقدير: هذه حام والكتاب المبين كقولك هذا زيد والله وثانيها: أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله: {حم} ثم يقال: {والكتاب المبين إِنَّا أنزلناه}، وثالثها: أن يكون التقدير: وحام، والكتاب المبين، إنا أنزلناه، فيكون ذلك في التقدير قسمين على شيء واحد.
المسألة الثانية:
قالوا هذا يدل على حدوث القرآن لوجوه الأول: أن قوله: {حم} تقديره: هذه حام، يعني هذا شيء مؤلف من هذه الحروف، والمؤلف من الحروف المتعاقبة محدث الثاني: أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشيئاء بل بإله هذه الأشيئاء فيكون التقدير ورب حام ورب الكتاب المبين، وكل من كان مربوبًا فهو محدث الثالث: أنه وصفه بكونه كتابًا والكتاب مشتق من الجمع فمعناه أنه مجموع والمجموع محل تصرف الغير، وما كان كذلك فهو محدث الرابع: قوله: {إِنَّا أنزلناه} والمنزل محل تصرف الغير، وما كان كذلك فهو محدث، وقد ذكرنا مرارًا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة والأصوات المتوالية محدث، والعلم بذلك ضروري بديهي، لا ينازع فيه إلا من كان عديم العقل وكان غير عارف بمعنى القديم والمحدث، وإذا كان كذلك فكيف ينازع في صحة هذه الدلائل، إنما الذي ثبت قدمه شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات.
المسألة الثالثة:
يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله على أنبيائه، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ويجوز أن يكون المراد اللوح المحفوظ، كما قال: {يَمْحُوالله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] وقال: {وَإِنَّهُ في أُمّ الكتاب لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه: أستشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك.
المسألة الرابعة:
{المبين} هو المشتمل على بيان ما بالناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم، فوصفه بكونه مبينًا، وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأجل أن الإبانة حصلت به، كما قال تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بني إسرائيل} [النمل: 76] وقال في آية أخرى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وقال: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فهو يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذو لسان ينطق، والمعنى فيه المبالغة في وصفه بهذا المعنى.
المسألة الخامسة:
اختلفوا في هذه الليلة المباركة، فقال الأكثرون: إنها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها: أنه تعالى قال: {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وهاهنا قال: {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةٍ مباركة} فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر، لئلا يلزم التناقض وثانيها: أنه تعالى قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] فبيّن أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان، وقال هاهنا {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةٍ مباركة} فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان، وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان، قال إنها ليلة القدر، فثبت أنها ليلة القدر وثالثها: أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سلام هِيَ} [القدر: 4، 5] وقال أيضًا هاهنا {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهذا مناسب لقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} وههنا قال: {أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا} وقال في تلك الآية {بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ} وقال هاهنا {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} وقال في تلك الآية {سلام هِيَ} وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الآخرى ورابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في (تفسيره): عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه، والأنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم، لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته، فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة، ومعلوم أن منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدنيا، وأعلى الأشيئاء وأشرفها منصبًا في الدين هو القرآن، لأجل أن به ثبتت نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزّلة، كما قال في صفته {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وبه ظهرت درجات أرباب السعادات، ودركات أرباب الشقاوات، فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدرًا وأعلى ذكرًا وأعظم منصبًا منه فلوكان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر، لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان، علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة، وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية، هي ليلة النصف من شعبان، فما رأيت لهم فيه دليلًا يعو ل عليه، وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس، فإن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كلام فلا مزيد عليه، وإلا فالحق هو الأول، ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة، وقيل إنما سميت بليلة البراءة، وليلة الصك، لأن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول: تفريق كل أمر حكيم فيها، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والثانية: فضيلة العبادة فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان» الخصلة الثالثة: نزول الرحمة، قال عليه السلام: «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب» والخصلة الرابعة: حصو ل المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة، إلا لكاهن، أو مشاحن، أو مدمن خمر، أو عاق للوالدين، أو مصر على الزنا» والخصلة الخامسة: أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر، فأعطي الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير، هذا الفصل نقلته من (الكشاف)، فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي تقديرها حركات الأفلاك والكواكب، وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض، والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض، وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحًا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال، قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده، فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة، وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال، فهذا هو الجواب المعتمد، والناس قالوا لا يبعد أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيًا للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت، ولهذا السبب بيّن أنه تعالى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لم يكن معينًا جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملًا له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات، وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعًا لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له، والله أعلم.