فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوّع.

.قال ابن عطية:

وهذا صحيح، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا النّدب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: {هُمُ الظالمون} أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.
قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرّة واجبًا ومرّة ندبًا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. اهـ.

.قال الفخر:

المقصود من الآية أن الإنسان يجئ وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] وقال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80]. اهـ.

.قال القرطبي:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة إبراهيم {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: 31] وفي الطور {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] وأنشد حسان بن ثابت:
ألاَ طِعانَ وَلاَ فُرْسَانَ عاديةٌ ** إلاَّ تَجَشُّؤكمْ عند التَّنَانِير

وألف الاستفهام غير مغيِّرة عملَ لا كقولك: ألا رجلَ عندك، ويجوز ألاَ رجلٌ ولا امرأةٌ كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه.
وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعيّ:
وما صَرَمْتُكِ حتى قُلْتِ مُعْلِنَةً ** لا ناقةٌ لِيَ في هذا ولا جَمَلُ

ويروى وما هجرتكِ فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنّه جواب لمن قال: هل فيه مِن بيع؟ فسأل سؤالًا عامًا فأُجيب جوابًا عامًا بالنفي.
ولا مع الاسم المنفي بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر فيه.
وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومَن رفع جعل لا بمنزلة ليس.
وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب مَن قال: هل فيه بيع؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس وفيه الخبر.
قال مكيّ: والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القرّاء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيعَ فيه ولا خلةٌ، وأنشد سيبويه لرجل من مَذْحِج:
هذا لعَمْركُمُ الصَّغار بعيْنِه ** لا أُمَّ لِي إن كان ذاك ولا أَبُ

ويجوز أن تبني الأوّل وتنصب الثاني وتنوّنه فتقول: لا رجلَ فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:
لا نَسبَ اليومَ ولا خلةً ** اتسع الخرْقُ على الرّاقِعِ

فلا زائدة في الموضعين، الأوّل عطف على الموضع والثاني على اللفظ.
ووجه خامس أن ترفع الأوّل وتبني الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أُمّيّةُ:
فلا لَغْوٌ ولا تَأتِيمَ فيها ** وما فَاهُوا به أبَدًا مُقيمَ

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وقد تقدّم هذا والحمد لله. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} ففيه وجهان:
الأول: أن البيع هاهنا بمعنى الفدية، كما قال: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] وقال: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 7] فكأنه قال: من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب.
والثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله: {وَلاَ خُلَّةٌ} فالمراد المودة، ونظيره من الآيات قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقال: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] وقال: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] وقال حكاية عن الكفار: {فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100] وقال: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270] وأما قوله: {وَلاَ شفاعة} يقتضي نفي كل الشفاعات.
واعلم أن قوله: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} عام في الكل، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} [البقرة: 48].
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها: أن كل أحد يكون مشغولًا بنفسه، على ما قال تعالى: {لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ} [عبس: 37] والثاني: أن الخوف الشديد غالب على كل أحد، على ما قال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2] والثالث: أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضًا لهذين الأمرين، وإذا صار مبغضًا لهما صار مبغضًا لمن كان موصوفًا بهما. اهـ.

.قال القرطبي:

أخبر الله تعالى ألاّ خُلّة في الآخرة ولا شفاعة إلاَّ بإذن الله.
وحقيقتها رحمة منه تعالى شرّف بها الذي أذن له في أن يشفع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولا شفاعة} اللفظ عام والمراد الخصوص، أي: ولا شفاعة للكفار، وقال تعالى: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} أو: ولا شفاعة إلاَّ بإذن الله، قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له} وقال: {ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى} فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم، وعلى تأويل الإذن: لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ بإذنه.
وقيل: المراد العموم، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيامة ألبتة، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع.
وقد تعلق بقوله: ولا شفاعة، منكرو الشفاعة، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه، وصح حديث الشفاعة الذي تلقته الأمّة بالقبول، فلا التفات لمن أنكر ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والشفاعة الوساطة في طلب النافع، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعًا، وشفع أيضًا كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وترًا فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعًا، فالشفاعة تقتضي مشفوعًا إليه ومشفوعًا فيه، وهي في عرفهم لا يتصدّى لها إلاّ من يتحقّق قبول شفاعته، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفَّعهُ فيه أي فقبل شفاعته، وفي الحديث: «قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع».
وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال:
فذاك فتًى إن تأته في صنيعة ** إلى ماله لا تأته بشفيع

ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي ولّيناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة، بشفاعة أبي حامد الإسفرائيني، أي بواسطته ورغبته.
فالشفاعة في العرف تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعًا عند الله بإدلال، وأثبتها في آيات أخرى كقوله قريبًا {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] وقوله: {ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء: 79] وفسّرت الآية بذلك في الحديث الصحيح، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة للنبيء صلى الله عليه وسلم وأنكرها المعتزلة وهم مخطئون في إنكارها وملبسون في استدلالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.
والشفاعة المنفية هنا مراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوعَ إليه ردّها، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنّ تلك كرامة أكرمه الله تعالى بها وأذن له فيها إذ يقول: «اشفع تشفع» فهي ترجع إلى قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] وقوله: {ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] وقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له} [سبأ: 23]. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما حث سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذم الكافرين لكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة لتخليهم من الإيمان وبعدهم عنه وتكذيبهم بذلك اليوم فهم لا ينفقون لخوفه ولا رجائه فقال بدل- ولا نصرة لكافر: {والكافرون} أي المعلوم كفرهم في ذلك اليوم، وهذا العطف يرشد إلى أن التقدير: فالذين آمنوا يفعلون ما أمرناهم به لأنهم المحقون، والكافرون {هم} المختصون بأنهم {الظالمون} أي الكاملون في الظلم لا غيرهم، ومن المعلوم أن الظالم خاسر وأنه مخذول غير منصور، لأنه يضع الأمور في غير مواضعها، ومن كان كذلك لا يثبت له أمر ولا يرتفع له شأن بل هو دائمًا على شفا جرف هار، ولأجل ذلك يختم سبحانه وتعالى كثيرًا من آياته بقوله: {وما للظالمين من أنصار} [البقرة: 270] فقد انتفى بذلك جميع أنواع الخلاص المعهودة في الدنيا في ذلك اليوم من الافتداء بالمال والمراعاة لصداقة أو عظمة ذي شفاعة أو نصرة بقوة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول: الحمد لله الذي قال: {والكافرون هُمُ الظالمون} ولم يقل الظالمون هم الكافرون، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهًا:
أحدها: أنه تعالى لما قال: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقًا، فذكر تعالى عقيبه: {والكافرون هُمُ الظالمون} ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق، قال القاضي: هذا التأويل غير صحيح لأن قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم.
والجواب: أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ، تطرق الخُلفْ إلى كلام الله تعالى، لأن غير الكافرين قد يكون ظالمًا، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله.
التأويل الثاني: أن الكافرين إذا دخلوا النار عَجَزوا عن التخلص عن ذلك العذاب، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب، ونظيره قوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
والتأويل الثالث: أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.
والتأويل الرابع: الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18]، وقالوا أيضًا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] فمن عبد جمادًا وتوقع أن يكون شفيعًا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه.
والتأويل الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق، قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأما المسلم فلابد وأن ينفق منه شيئًا قل أو كثر.
والتأويل السادس: {والكافرون هُمُ الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال: العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم. اهـ.