فصل: تفسير الآيات (9- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفَرْق والفَلْق أَخوان.
وكذا فَرَقُ الصُّبح وفَلَقه.
والفَرَق بالتحريك: الخوف الذى يُفَرِّق القلب.
ورجل فَرُوق وفَرُوقة: خوّاف. اهـ.

.تفسير الآيات (9- 16):

قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رسول مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَولوا عَنْهُ وَقالوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان أكثرهم منكرًا لما لزمه القطع به بهذا البرهان الزاهر والسلطان الظاهر القاهر عنادًا ولددًا وإن كان باطنه على غير ذلك، فكان فعله فعل الشاك اللاعب، كان التقدير لأجل ما يظهر من حالهم: لكنكم غير موقنين بعلم من العلوم، بنى عليه قوله مع الصرف إلى الغيبة إعراضًا عنهم أيذانًا بالغضب، وأنهم أهل للمعاجلة بالعطب: {بل هم} أي بضمائرهم {في شك} لأنهم لا يجردون أنفسهم من شوائب المكدرات لصفاء العلم، ثم أعلم نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن الشاغل لهم عن هذا المهم حال الصبيان مع ادعائهم الكمال بأخلاق الأجلاء من الرجال فقال: {يلعبون} أي يفعلون دائمًا فعل التارك لما هو فيه من أجد الجد الذي لا مرية فيه اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه بعد فعل الشاك بالإعراض وعدم الإسراع إلى التصديق والإيقاض.
ولما كان هذا موضع أن يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- المفهو م من السياق: فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان، الذي لم يدع لبسًا لأنسان؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديدًا لهم: {فارتقب} أي انتظر بكل جهد عاليًا عليم ناظرًا لأحوالهم نظر من هو حارس لها، متحفظًا من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلًا لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلأنهم {يوم تأتي السماء} أي فيما يخيل للعين لما يغشي البصر من شدة الجهد بالجوع إن كان المراد ما حصل لهم من المجاعة الناشئة عن القحط الذي سببه قوله- صلى الله عليه وسلم- «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» وروي في الصحيح أن الرجل منهم كان يرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، وفي الواقع أن المراد عند قرب الساعة وعقب قيامها، فإنه ورد أنه يأتي إذ ذاك فيغشي الناس ويحصل للمؤمن منه كهيئة الزكام، ويجوز أن يكون المراد أعم من ذلك كله وأوله وقت القحط وكان آية على ما بعده، أو منه ما يأتي عند خروج الدخان من القحط الذي يحصل قبله أو غيره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد خبأت لك خبأ فما هو؟» قال: الدخ، ففسر بالدخان، فلذلك قال تعالى: {بدخان مبين} أي واضح لا لبس فيه عند رائية ومبين لما سواه من الآيات للفطن {يغشى الناس} أي المهددين بهذا، وهم الذين رضوا بحضيض النوس والاضطراب عن أوج الثبات في رتبة الصواب، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «بادروا بالأعمال ستًا: الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم».
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون عند إتيانه جريًا على عادة جهلهم: ما هذا؟ أجيبوا بقوله تعالى حكاية عن لسان الحال، أو قول بعضهم أوبعض أولياء الله: {هذا عذاب أليم} يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه بما كنتم تؤلمون دعاتكم إلى الله برد مقولهم والاستخفاف باغتراركم بكثرة العدد والقوة والمدد.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا حين تحققوا ذلك؟ قيل: قالوا وقد انحلت عرى تلك العزائم، ووهت تلك القوى من كل عازم، وسفلت بعد العوتلك الشوامخ من الهمم مدعين أنهم لغاية الإذعان من أهل القرب والرضوان: {ربنا} أي أيها المبدع لنا والمحسن إلينا {اكشف عنا العذاب} ثم عللوا ذلك بما علموا أنه الموجب كشفه، فقالوا مؤكدين لما لحالهم من المنافاة لخبرهم: {إنا مؤمنون} أي عريقون في وصف الإيمان واصلون إلى رتبة الإيقان، وهذا يصح أن يراد به بعد طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت وراها الناس امنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها» ثم قرأ الآية، وإن كان المراد بالعذاب ما حصل من القحط كان هذا الإيمان على سبيل الوعد.
ولما كان كشف الآيات وإظهار العذاب لا يفيد في الدلالة على الحق أكثر مما أفاده الرسول- صلى الله عليه وسلم- بما أقامه من المعجزات بل إفادة الرسول أعظم، أجيب من كأنه سأل عن حالهم عند ذلك بقوله معرضًا عن خطابهم، إيذانًا بدوام مصابهم، لئلا يظن أنه ما كشف عنهم العذاب إلا لظن أنهم صادقون: {أنى} أي كيف ومن أين {لهم الذكرى} أي هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم {وقد} أي والحال أنه قد {جاءهم} ما هو أعظم من ذلك بما لا يقايس {رسول مبين} أي ظاهر غاية الظهور أنه رسولنا، وموضح غاية الإيضاح لما جاء به عنا بما أظهر من الآيات، وغير ذلك من الدلالات.
ولما كان الإعراض عنه مع ماله من العظمة بالبيان استخفافًا به وبمن جاء من بعده، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم} أي بعد ما له من عليّ الرتبة في نفسه وبالإضافة إلى من أرسله.
ولما كانت الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الحق، نازعة إلى الأنقطاع إلى الله والعكوف ببابه، واللجاء إلى جنابه، إلا بجهد من النفس في النفور وعلاج دواعي الثبور، أشار إلى ذلك بالتعبير بصيغة التفعل فقال: {تولوا عنه} أي أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ {وقالوا} أي زيادة على إساءتهم بالتولي: {معلم} أي علمه غيره من البشر {مجنون} فلم يبالوا بالتناقض البين الأمر، وهذا يدل على أن من لا يبالي بعرضه ولا حياء له لا طيب لدائه لأنه لا وجود لدوائه، وأنه إذا مس بما يلينه ويرده ويهينه لا يؤمن من رجوعه إلى الحال السيىء عند كشف ذلك الضر عنه.
ولما لفت سبحانه الخطاب عنهم إهانة لهم، بين أن سببه أن داءهم عضال، فليس له أبدًا زوال، فقال مؤكدًا لاستبعادهم زوال ما هم فيه: {إنا} أي على ما لنا من العظمة بالعلم المحيط وغيره {كاشفوا العذاب} أي عنكم بدعاء رسو لكم صل الله عليه وسلم في القول بأن الدخان ما كانوا يرونه بسبب الجوع من القحط {قليلًا} إقامة للحجة عليكم لا لخفاء ما في ضمائركم علينا.
ولما كانوا قد أكدوا الإخبار بإيمانهم، وهو باطل، أكد سبحانه الإخبار بكذبهم، ومن أصدق منه سبحانه قيلًا، فقال تحقيقًا لقوله تعالى: {ولوردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] {وإنهم لكاذبون} [الأنعام: 28]: {إنكم عائدون} أي ثابت عودكم بعد كشفنا عنكم في ذلك الزمن القصير إلى الكفران وإن أكدتم حصو ل الإيمان بأكيد الإيمان لما في جبلاتكم من العوج ولطباعكم من المبادرة إلى الزلل، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل، وإن كان هذا في آخر الزمان فلا يدع أن يكون الخطاب لهم على حقيقته بملك أو غيره ممن يرده الله تعالى لأن ذلك زمان خرق العادات ونقض المطردات إقامة للحجة عليهم وله الحجة البالغة، وتأديبًا لنا وتعليمًا.
ولما كان اليوم قد يراد به المن المجتمع في حكم من الأحكام، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يومًا واحدًا لاتحاد ذلك الحكم، أبدل من {يوم الدخان} قوله تهديدًا بشق الأكباد: {يوم نبطش} أي بما لنا من العظمة، والبطش: الأخذ بقوة {البطشة الكبرى} أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم، سواء كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه، وتمرده على ربه وعصيانه، ويجوز أن يكون هذا ظرفًا لعائدون.
ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجبًا لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده، قال مؤكدًا {إنا منتقمون} أي ذلك صفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ} وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة بل قول مخلوط بهزء ولعب، والله أعلم.
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}.
اعلم أن المراد بقوله: {فارتقب} انتظر ويقال ذلك في المكروه، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله: {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ويجوز أيضًا أن يكون {يَوْمَ تَأْتِي السماء} مفعول الارتقاب وقوله: {بِدُخَانٍ} فيه قولان:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال: «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشًا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروآيات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانًا، فالحاصل أن هذا الدخان هو الظلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع، وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجهين الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني: أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أوضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
والقول الثاني: في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، قالوا فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول: أن قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السماء بِدُخَانٍ} يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدو لا عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينًا، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخانًا مبينًا والثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس، وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدو ل من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر» قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال «دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» رواه صاحب (الكشاف) وروى القاضي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «باكروا بالأعمال ستًا، وذكز منها طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة» أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلًا جدًّا، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أَبُو سُفْيَان وناشده بالله والرحم وأو عده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك، لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} ولم يصح أيضًا أن يقال لهم {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريًا مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة، ثم إن الناس يخافون جدًّا فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذ كان هذا محتملًا فقد سقط ما قالوه، والله اعلم.
و لنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله: {بِدُخَانٍ} وفي قوله: {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قولان الأول: أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني: قال الجرجاني صاحب (النظم) هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدوفاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب.
ثم قال: {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب} فإن قلنا التقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه هاهنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد، وعلى القول الثاني الدخان المهلك {إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
ثم قال تعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى} يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة والبينات الباهرة {ثُمَّ تَولواْ عَنْهُ} ولم يلتفتوا إليه {وَقالواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمدًا يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] وكقوله تعالى: {وأعانه عليه قومٌ آخرون} [الفرقان: 4] ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك، والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} قال صاحب (الكشاف) وقرئ {نبطش} بضم الطاء، وقرأ الحسن {نبطش} بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم والبطش الأخذ بشدة، وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة، وفي المراد بهذا اليوم قولان:
القول الأول: أنه يوم بدر وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي العالية رضي الله تعالى عنهم، قالوا إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر.