فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ (17)}.
أي ابتليناهم.
ومعنى هذه الفتنة والابتلاء الأمر بالطاعة.
والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا؛ فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنوا.
وقيل: فتنّاهم عذبناهم بالغرق.
وفي الكلام تقديم وتأخير؛ والتقدير: ولقد جاء الَ فرعون رسول كريم وفتنّاهم، أي أغرقناهم؛ لأن الفتنة كانت بعد مجيء الرسل.
والواو لا ترتّب.
ومعنى {كَرِيمٌ} أي كريم في قومه.
وقيل: كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح.
وقال الفرّاء: كريم على ربّه إذ اختصه بالنبوّة وإسماع الكلام.
قوله تعالى: {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} قال ابن عباس: المعنى جاءهم فقال: اتبعوني.
فـ: {عِبَادَ اللَّهِ} منادى.
وقال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب.
فـ: {عِبَادَ اللَّهِ} على هذا مفعول.
وقيل: المعنى أدُّوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالةَ ربي.
{إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ} أي أمين على الوحي فاقبلوا نصحي.
وقيل: أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه.
{وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته.
وقال قتادة: لا تبغوا على الله.
ابن عباس: لا تفتروا على الله.
والفرق بين البغي والاْفتراء: أن البغي بالفعل والاْفتراء بالقول.
وقال ابن جريج: لا تَعْظُمُوا على الله.
يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله.
والفرق بين التعظيم والاْستكبار: أن التعظيم تطاو ل المقتدر، والاْستكبارَ تَرفُّعُ المحتقر؛ ذكره الماوردي.
{إني آتيكم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال قتادة: بعذر بيّن.
وقال يحيى بن سلام بحجة بيّنة.
والمعنى واحد؛ أي برهان بيّن.
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)}.
كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله.
قال قتادة: {تَرْجُمُونِ} بالحجارة.
وقال ابن عباس: تشتمونِ؛ فتقولوا ساحر كذاب.
وأظهر الذال من {عُذْت} نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب.
وأدغم الباقون.
والإدغام طلبًا للتخفيف، والإظهار على الأصل.
ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى؛ لأن الله وعده فقال: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35].
وقيل: إني أعوذ؛ كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله؛ أي أقسم.
قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي} أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني؛ فاللام في (لي) لام أجل.
وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي؛ كقوله: {فَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] أي به.
{فاعتزلون} أي دعوني كَفافًا لا لِيَ ولا عَلَيّ؛ قاله مقاتل.
وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا.
وقيل: فخلّوا سبيلي وكُفُّوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ} فيه حذف؛ أي فكفروا فدعا ربه.
{أَنَّ هؤلاء} بفتح (أنّ) أي بأن هؤلاء.
{قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بني إسرائيل ومن الإيمان.
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)}.
فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي؛ أي بمن امن بالله من بني إسرائيل.
{لَيْلًا} أي قبل الصباح.
{إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} وقرأ أهل الحجاز {فاسر} بوصل الألف.
وكذلك ابن كثِير؛ من سرى. الباقون {فَأَسْرِ} بالقطع؛ من أسرى وقد تقدم.
وتقدم خروج فرعون وراء موسى في (البقرة والأعراف وطه والشعراء ويونس) وإغراقه وإنجاء موسى؛ فلا معنى للإعادة.
الثانية أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلًا.
وسَيْرُ الليل في الغالب إنما يكون عن خَوْف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدوفيتخذ الليل سِترًا مُسْدِلًا؛ فهو من أستار الله تعالى.
وإما من خوْف المشقة على الدواب والأبدان بِحَرّ أوجَدْب، فيتخذ السُّرَى مصلحةً من ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَسْرِي ويُدْلج ويترفّق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم في الخِصْب فأعطوا الإبل حَظّها من الأرض وإذا سافرتم في السَّنَة فبادروا بها نِقْيَها» وقد مضى في أول (النحل)؛ والحمد لله.
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}.
قال ابن عباس: {رَهوا} أي طريقًا.
وقاله كعب والحسن.
وعن ابن عباس أيضًا سمتًا.
الضحاك والربيع: سهلًا.
عكرمة: يَبَسًا، لقوله: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا} [طه: 77].
وقيل: مفترقًا.
مجاهد: منفرجًا.
وعنه يابسًا.
وعنه ساكنًا، وهو المعروف في اللغة.
وقاله قتادة والهَروِيّ.
وقال غيرهما: منفرجًا.
وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لأنه إذا سكن جَرْيُه انفرج.
وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام.
والرَّهوعند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رَهوا، أي ساكنة.
قال:
والخيل تَمْزَعُ رَهوا في أعنّتها ** كالطير تنجومن الشُّؤبُوب ذي البرد

الجوهري: ويقال افعل ذلك رَهوا، أي ساكنًا على هِينَتِك.
وعيشٌ راهٍ، أي ساكن رافِه.
وخِمْسٌ راهٍ، إذا كان سهلًا.
ورها البحر أي سكن.
وقال أبو عبيد: رَهَا بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى: {واترك البحر رَهوا}.
والرَّهو: السير السهل، يقال: جاءت الخيل رَهوا.
قال ابن الأعرابي: رَهَا يَرْهوفي السير أي رفَقَ.
قال القطامي في نعت الركاب:
يَمْشِين رَهوا فلا الأعجازُ خاذِلةٌ ** ولا الصدورُ على الأعجاز تَتَّكِلُ

والرَّهو والرَّهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضًا يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد.
وقال أبو عبيد: الرَّهو: الجَوْبة تكون في مَحَلّة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره.
وفي الحديث أنه قضى أن: «لا شفعة في فِناء ولا طريقٍ ولا مَنْقَبَةٍ ولا رُكْح ولا رَهو» والجمع رِهَاء.
والرَّهو: المرأة الواسعة الهَنِ، حكاه النَّضْر بن شُمَيلٍ.
والرَّهو: ضرب من الطير، ويقال: هو الكُرْكيّ.
قال الهَرَوِيّ: ويجوز أن يكون (رَهوا) من نعت موسى وقاله القشيريّ أي سِرْ ساكنًا على هِينَتِك؛ فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الأول هو من نعت البحر؛ أي اتركه ساكنًا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالأنضمام حتى يدخل فرعون وقومه.
قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا.
وقيل: ليس الرَّهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين؛ يقال: رَهَا ما بين الرجلين أي فرج.
فقوله: {رَهوا} أي منفرجًا.
وقال الليث: الرَّهو مشْيٌ في سكون، يقال: رها يرهو رَهوا فهو راهٍ.
وعيشٌ راهٍ: وادعٌ خافض.
وافعل ذلك سَهوا رَهوا؛ أي ساكنًا بغير شدّة.
وقد ذكرناه آنفًا.
{إِنَّهُمْ} أي إن فرعون وقومه.
{جُندٌ مُّغْرَقُونَ} أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه.
قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} {كَمْ} للتكثير.
وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في (الشعراء) مستوفى.
{وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} النَّعْمة (بالفتح): التنعيم، يقال: نعّمه الله وناعَمَه فتنعّم.
وامرأة مُنَعَّمة ومُنَاعَمَة، بمعنًى.
والنِّعمة (بالكسر): اليد والصنِيعة والمِنّة وما أُنعِم به عليك.
وكذلك النُّعْمى.
فإن فتحت النون مددت وقلت: النَّعماء.
والنعيم مثله.
وفلأن واسع النعمة، أي واسع المال؛ جميعه عن الجوهريّ.
وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر.
ابن لهِيعة: الفيوم.
ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها.
وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة.
وقد يقال: نَعْمَة ونِعْمَة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي.
قال: وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما أنها بكسر النون في المِلْك، وبفتحها في البَدَن والدين، قاله النَّضْر بن شُمَيل.
الثاني أنها بالكسر من المِنّة وهو الإفضال والعطيّة، وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة؛ قاله ابن زياد.
قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه.
وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة {فَكِهِينَ} بغير ألف، ومعناه أشِرِين بَطِرين.
قال الجوهري: فَكِه الرجل (بالكسر) فهو فَكِه إذا كان طيِّب النفس مَزَّاحًا.
والفِكه أيضًا الأشِر البطِر.
وقرىء {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَكِهِينَ} أي أَشِرين بطِرين.
و {فَاكِهِينَ} أي ناعمين.
القشيري: {فَاكِهِينَ} لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مَزَّاح.
وفيه فكاهة أي مزح.
الثعلبيّ: وهما لغتان كالحاذر والحَذِر، والفارِه والفَرِه.
وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الاكل بأنواع الفاكهة.
والفاكهة: فضلٌ عن القوت الذي لابد منه.
{كَذَلِكَ وأورثناها قَوْمًا آخرين (28)}.
قال الزجاج: أي الأمر كذلك؛ فيوقف على {كَذَلِكَ}.
وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلًا كذلك بمن نريد إهلاكه.
وقال الكلبي: {كَذَلِكَ} أفعل بمن عصاني.
وقيل: {كَذَلِكَ} كان أمرهم فأهلكوا.
{وأورثناها قَوْمًا آخرين} يعني بني إسرائيل، ملّكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ لوصو ل ذلك إليهم كوصو ل الميراث.
ونظيره: {وَأو رثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] الآية.
قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} أي لكفرهم.
{وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي مؤخرين بالغرق.
وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي عمّت مصيبته الأشيئاء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات.
قال الشاعر: