فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ عبيد بن عمير {لا} مبنيًا للمفعول، وقرأ عبد الله {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا يَعْقُوبَ الموت} وجاء في الحديث النوم لأنه أخوالموت، أخرج البزار. والطبراني في (الأوسط) وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: لا النون أخوالموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون».
{ووقاهم عَذَابَ الجحيم} وقرأ أبو حيوة {ووقاهم} مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله.
{فَضْلًا مّن رَّبّكَ} أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلًا منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالًا ومفعولا له، وأيًا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى.
وقرىء {فَضَّلَ} بالرفع أي ذلك فضل {ذلك هو الفوز العظيم} لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره.
{فَإِنَّمَا يسرناه} أي فإنما سهلنا القرآن {بِلَسَانِكَ} أي بلغتك، وقيل: المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونك أميًا، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرًا لما سلف مشروحًا فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه.
{فارتقب} أي وأن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء} [الدخان: 10] منتظرون ما يحل بك كما قالوا: {نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وقيل: معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكمًا، وقيل: هو مشاكلة، والمعنى أنهم صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وقيل: فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)}.
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس.
والمُقام بضم الميم: مكان الإقامة.
والمَقام بفتح الميم: مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه.
وقرأه نافع وابنُ عامر وأبو جعفر بضم الميم.
وقرأه الباقون بفتح الميم.
والمراد بالمُقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم.
والأمين بمعنى الامِن والمراد: الامن ساكنه، فوصفه ب {أمين} مجاز عقلي كما قال تعالى: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3].
والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أول ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان امنًا في منزله كان مطمئن البال شاعرًا بالنعيم الذي يناله.
وأبدل منه بأنهم {في جنات وعيون} وذلك من وسائل النزهة والطيب.
وأعيد حرف {في} مع البدل للتأكيد.
والجنات: جمع جنة، وتقدم في أول البقرة.
والعيون: جمع عين، وتقدم في قوله: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا} في سورة البقرة (60)، فهذا نعيم مكانهم.
ووصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يَلبس هذا اللّباسَ إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنهِ وظاهره.
والسندس: الديباج الرقيق النفيس، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي.
أصله: سِنْدِي، منسوب إلى السنِد على غير قياس.
والسندس يلبس مما يلي الجسد.
والإستبرق: الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية، وهو الغليظ مطلقًا ثم خص بغليظ الديباج، ثم عُرب.
وتقدما في قوله: {يلبسون ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق} في سورة الكهف (31) فارجع إليه.
و {من} لبيان الجنس، والمبيَّن محذوف دل عليه {يلبسون}.
والتقدير: ثيابًا من سندس وإستبرق.
ثم وُصف نَعيم نفوسهم بعضِهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله: {متقابلين} لأن الحديث مع الأصحاب والأحبّة نعيم للنفّس فأغنَى قوله: {متقابلين} عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادتُه على وجه الإيجاز البديع.
{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)}.
{متقابلين}.
اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبْرًا} في سورة الكهف (91).
وتقدم نظيره آنفًا في هذه السورة.
{كَذَلِكَ وزوجناهم بِحُورٍ} {عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فاكهة ءَآمنين لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت}.
معنى {زوجناهم} جعلناهم أزواجًا جمع زوج ضد الفرد، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجًا بسبب نساءٍ حور العيون.
والزوج هنا كناية عن القرين، أي قرنَّا بكل واحد نساءً حورًا عينًا، وليس فعل {زوجناهم} هنا مشتقًا من الزوج الشائععِ إطلاقُه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال: زوجه ابنتَه وتزوج بنت فلان، قال تعالى: {زوَّجناكها} [الأحزاب: 37]، وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته، إذ ليس في الجنة عقود نكاح، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالًا لمتعارف الأنس بين الناس.
وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجرّ للنفس من النعيم الجثماني، وَهذا معنًى ساممٍ من معاني الأنبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في الدّنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجرّ إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعًا ومثل الاعتداء على المرأة قسرًا، ومن مصطلحات متكلفة، وقد سمى الله سكونًا فقال: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنُوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً} [الروم: 21].
والحور: جمع الحوراء، وهي البيضاء، أي بنساء بضيضات الجلد.
والعِين: جمع العيناء، وهي واسعة العين، وتقدم في سورة الصافات.
وشمل الحور العين النساء الّلاءِ كُنَّ أزواجهن في الدنيا، ونساءً يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاءً} [الواقعة: 35] وقال تعالى: {هم وأزواجهم في ظلالٍ} [يس: 56].
ومعنى {يدعون فيها بكل فاكهة} أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة، أي فيجابون.
والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة، أي بإحضار كل فاكهة.
و {كل} هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة.
والفاكهة: ما يتفكه به، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها.
وجملة {يدعون} حال من {المتقين} [الدخان: 51]، و{آمنين} حال من ضمير {يدعون}.
والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله: {في مقاممٍ أمينٍ} [الدخان: 51] وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة {لا فيها غو ل ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47]، أوآمنين من نفاد ذلك وانقطاعه.
وجملة {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} حال أخرى.
وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب.
والاستثناء في قوله: {إلا الموتة الأولى} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب {الأولى}.
والمراد ب {الأولى} السالفة، كما تقدم آنفًا في قوله: {إن هي إلا موتتنا الأولى} [الدخان: 35].
{الأولى ووقاهم عَذَابَ} {الجحيم فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هو الفوز العظيم}.
عطف على {وزوجناهم بحور عين} وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم.
وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من اداب من يرى غيره في شدة أوبأس أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه.
وضمير {وقاهم} عائد إلى ضمير المتكلم في {وزوجناهم} على طريقة الالتفات.
و {فضلًا} حال من المذكورات.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم.
وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال: فضلًا منه أو منا.
ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى الله عليه وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به.
وجملة {ذلك هو الفوز العظيم} تذييل، والإشارة في {ذلك هو الفوز العظيم} لتعظيم الفضل ببعد المرتبة.
وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}.
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضارًا لتلك الأغراض وضبطًا لترتُّب علتها.
وضمير {يسرناه} عائد إلى الكتاب المفهو م من المقام والمذكور في قوله: {والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} [الدخان: 2، 3] الخ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله: {والكتاب المبين} فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر.
فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله: {فإنما يسرناه بلسانك} لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعًا على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ.
ويجوز أن يكون المفرع قوله: {لعلهم يتذكرون}.
وقدم عليه ما هو توطئة له اهتمامًا بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم.
والقصر المستفاد من (إنما) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله: {بل هم في شَككٍ يلعبون} [الدخان: 9] أي إنا جعلنا فهمه يسيرًا بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا.
فمفعول {يسرناه} مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره: فهمه.
والباء في {بلسانك} للسببية، أي بسبب لغتك، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4].
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى: {بلسانٍ عربيٍ مبينٍ} [الشعراء: 195].
وأفصح قوله: {لعلهم يتذكرون} عن الأمر بالتذكير بالقرآن.
والتقدير: فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى: {فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين} الخ في سورة مريم (97).
و(لعلّ) مستعملة في التعليل، أي لأجل أن يتذكّروا به، وَهَذَا كقوله: {وهذا كتابٌ مصدقٌ لسانًا عربيًّا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} [الأحقاف: 12].
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [القمر: 17]، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصو ل تذكرهم تسببًا قريبًا لولم يكونوا في شك يلعبون.
وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله: {فارتقب إنهم مرتقبون} أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى.
وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقُون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين (ارتقب) و{مرتقبون}.
وجملة {إنهم مرتقبون} تعليل للأمر في قوله: {فارتقب} أي ارتقب النصر بأنهم لاَقُوا العذاب بالقحط وقد أغنت (إنّ) التّسبُب والتعليل.
وفي هذه الخاتمة ردّ العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكان في صدرها الأنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى.
فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
هذه الآيات والتي بعدها، تعرض الصورة المقابلة لأهل الضلال والمنكر، وما يلقون في جهنم من عذاب وهو ان.. وفى المقابلة بين الصورتين تتضح المعالم في كلّ منهما، ويرى كلّ في الصورة المقابلة، ما يضاعف ما هو فيه من بلاء أونعيم..
فأهل النار، إذ يرون أصحاب الجنة، وما هم فيه من نعيم ورضوان، يزداد بلاؤهم وتتضاعف محنتهم، ويشتد عذابهم وحسرتهم.. وأصحاب (الجنة) إذ يرون أهل النار، وما هم فيه من محن وشدائد، يعظم نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم، فلا يجدون غير أن يسبّحوا بحمد ربهم أن عافاهم من هذا البلاء..
{وَقالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} (34- 35: فاطر).
و لهذا كان أصحاب الجنة وأصحاب النار، على مشهد من بعضهم، حيث يرى بعضهم بعضا، ويتحدث بعضهم إلى بعض، دون أن يصل إلى أصحاب الجنة شىء من عذاب أهل النار، ودون أن يصل شىء من نعيم الجنة وريحها إلى أهل النار..