فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}.
ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا} إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله، وليس تكليفا للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به، إنما يكلف الله من آمن به، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له: يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعا لك، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر. إذن الإيمان هو حيثية كل حكم، فأنت تفعل ذلك لماذا؟ لا تقل: لأن حكمته كذا وكذا. لا. ولكن قل: لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته.
ولو أن إنسانا قال له الطبيب: إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا، وبعد ذلك امتنع عن الخمر، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا، لم يمتنع لأن الله قال، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب. أما المؤمن فيقول: أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد رحمها، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب: إن كبدك سيضيع بسبب الخمر، فالرحمة هي ألا يجئ الداء.
إن الحق يقول: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} أي أنا لا أطلب منكم أن تنفقوا علي، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر، وهذا الفكر رتبه من خلقه، والجوارح التي تنفعل، واليد التي تتحرك، والرجل التي تمشي خلقها الله، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله. وسنأخذ الزارع نموذجا، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها.. فأي شيء للإنسان إذن؟ ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول: «إنه لي» بل أمنحه لك أيها الإنسان، ولكن أعطني حقي فيه، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين، والحق يقول: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)} سورة الذاريات.
وإياك أن تقول: ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أن المسكنة عرض، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت. فلا تقدر أنك معطٍ دائما، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لا أن تعطي. الحق يقول لك: أعط المسكين وأنت غني؛ لأنه سبحانه سيقول للناس: أن يعطوك وأنت فقير، فقدر حكم الله ساعة يطلب منك، ليحميك ساعة أن يطلب لك، وبذلك تتوازن المسألة. ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا، حتى تمحى الضغائن من قلوبكم؛ لأن الإنسان الضعيف- ضعفا طبيعيا وليس ضعف التسول أو الكسل أو الاحتراف، بل ضعف عدم القدرة على العمل- هو مسئولية المؤمنين، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولا أن يساعدك وأنت ضعيف.
وأنت حين ترى- وأنت ضعيف لا تقدر- الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك، وذكروك بما عندهم، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير، فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبدًا، ولا تحقد على معطيها، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك- لأنها جاءتك عن حاجة- تتمنى لو أن الله قدرك لتردها، فيكون المجتمع مجتمعا متكافلا متضامنا. فحين يقول الله تعالى: {أنفقوا مما رزقناكم} فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك، فهو سبحانه يقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} سورة البقرة.
إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق. وحتى نفهم معنى النفقة أقول: قد قلنا من قبل: إن الكلمة مأخوذة من مادة النون والفاء والقاف، ويقال: نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان. والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة. والثمن ما لا يستفاد به مباشرة. فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة، وكذلك كوب الماء الممتلئ، تستفيد منه مباشرة، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة. إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمنًا. ولذلك يقول لنا الحق إنذارا وتحذيرا من الاعتزاز بالمال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} سورة البقرة.
إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه؛ أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس، وأيضا لا يكون في هذا اليوم {خلة}، ومعنى خلة هي الود الخالص، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلا بالآخر بالمحبة؛ لأن كلا منكما منفصل عن الآخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولا بأمر نفسه.
إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها. فأنت لا تملك ثمنا تشتري به، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة، إذن فهذا الباب قد سد. وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة، والشفاعة هذه مأذون فيها. إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله، ومعنى شفيع مأخوذة من الشفع والوتر. الوتر واحد والشفع اثنان، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان. فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب. ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة. فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تغلق في هذا اليوم العظيم. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف، فأنا لم أظلمهم. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: {والكافرون هم الظالمون}. وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل، وعن الاختلاف، وعن القتال لتثبيت منهج الحق، وعن الإنفاق، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل. فقد جاء موكب الرسالات كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} في الزكاة والتطوّع.
وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: يقال نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ونسخ شهر رمضان كل صوم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: قد علم الله أن أناسًا يتخالون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار قال: الحمد لله الذي قال: {والكافرون هم الظالمون} ولم يقل: والظالمون هم الكافرون. والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {أَنْفِقُواْ} مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئًا ممَّا رزقناكم، فعلى هذا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولًا محذوفًا، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. ومَا يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلِّقٌ أيضًا بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، وأَنْ يَأْتي في محلِّ جرٍّ بإضافة قبل إليه، أي: من قبل إتيانه.
وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ ليَوم فمحلُّها الرَّفع. وقرأ: {بَيْعٌ} وما بعده مرفوعًا منونًا نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197].
والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها.
والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: الطويل:
وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ** يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا

وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه خُلاَّن، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو: رُغْفَانٍ.
قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة؛ قال الشاعر: المتقارب:
وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ** خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب.
والخَلَّة- بالضَّمِّ- أيضًا- ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها.
والخَلَّة:- بالفتح- الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره.
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.
والأنثى خلَّة أيضًا، والخلّة: الخمرة الحامضة.
والخِلَّة- بالكسر- واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضًا سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضًا ما يبقى بين الأسنان.
وهم يجوز أن تكون فصلًا أو مبتدأ ثانيًا، و{الظالمون} خبره والجملة خبر الأوَّل. اهـ.