فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {إن هذا ما كنتم به تمترون} عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم، أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها. ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق.
وقرأ نافع وابن عامر: {في مُقام} بضم الميم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج. وقرأ الباقون: {في مَقام} بفتحها، وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى والأعمش.
و: {أمين} يؤمن فيه الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون فيه. وكسر عاصم العين من {عِيون}. قال أبو حاتم: وذلك مردود عند العلماء، ومثله شيوخ وبيوت، بكسر الشين والباء. والسندس: رقيق الحرير. والاستبرق: خشينه.
وقرأ ابن محيصن: {واستبرقَ} بالوصل وفتح القاف.
وقوله: {متقابلين} وصف لمجالس أهل الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضًا في المجالس، وقوله: {كذلك وزوجناهم} تقديره: والأمر كذلك.
وقرأ الجمهور: {عين} وهو جمع عيناء. وقرأ ابن مسعود: {عيس}، وهو جمع عيساء، وهي أيضًا البيضاء، وكذلك هي من النوق. وقرأ عكرمة: {بحورِ عين} على ترك التنوين في {حور} وأضافها إلى {عين}. قال أبو الفتح: الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة، وروى أبوقرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين».
وقوله تعالى: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} معناه: يدعون الخدمة والمتصرفين.
وقوله تعالى: {إلا الموتة الأولى} قدر قوم {إلا} بسوى، وضعف ذلك الطبري، وقدرها ببعد، وليس تضعيفه بصحيح، بل يصح المعنى بسوى ويتسق، وأما معنى الآية: فبين أنه نفى عنهم ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا، والضمير في قوله: {يسرناه} عائد على القرآن.
وقوله: {بلسانك} معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة.
وقوله: {فارتقب إنهم مرتقبون} معناه: {فارتقب} نصرنا لك، {إنهم مرتقبون} فيما يظنون الدوائر عليك، وفي هذه الآية وعد له، ووعيد لهم، وفيها متاركة، وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{ولقد نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)}.
لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه، ذكر إحسانه لبني إسرائيل؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب.
ثم ذكر اتصال النفع لهم، من اختيارهم على العالمين، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين: قتل أبنائهم، واستخدامهم في الأعمال الشاقة.
وقرأ عبد الله: {من العذاب المهين}: وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كبقلة الحمقاء.
و {من فرعون}: بدل {من العذاب}، على حذف مضاف، أي من عذاب فرعون.
أولا حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة.
وقيل: يتعلق بمحذوف، أي كائنًا وصادرًا من فرعون.
وقرأ ابن عباس: {من فرعون}، {من}: استفهام مبتدأ، و{فرعون} خبره.
لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال: من فرعون؟ على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرف حاله في ذلك بقوله: {إنه كان عاليًا من المسرفين}: أي مرتفعًا على العالم، أو متكبرًا مسرفًا من المسرفين.
{ولقد اخترناهم}: أي اصطفيناهم وشرفناهم.
{على علم} علم مصدر لم يذكر فاعله، فقيل: على علم منهم، وفضل فيهم، فاخترناهم للنبوات والرسالات.
وقيل: على علم منا، أي عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا.
وقيل: على علم منا بما يصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان، بأنهم يزيفون، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال.
وقيل: اخترناهم بهذا الأنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم، وخصصناهم بذلك دون العالم.
{على العالمين}: أي عالمي زمانهم، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مفضلة عليهم.
وقيل: على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم.
وكان الاختيار من هذه الجهة، لأن أمة محمد أفضل.
وعلى، في قوله: {علم علم}، ليس معناها معنى على في قوله: {على العالمين}، ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلو ل، كقوله:
ويومًا على ظهر الكتيب تعذرت ** عليّ والت حلفة لم يحلل

فعلى علم: حال، إما من الفاعل، أو من المفعول.
وعلى ظهر: حال من الفاعل في تعذرت، والعامل في ذي الحال.
{وآتيناهم من الآيات}: أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون، وما ابتلوا به؛ وفي بني إسرائيل مما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم.
{ما فيه بلاء}: أي اختبار بالنعم ظاهر، أو الابتلاء بالنعم كقوله: {ونبلكم بالشر والخير} {إن هؤلاء}: يعني قريشًا، وفي اسم الإشارة تحقير لهم.
{ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى}: أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى.
وكان قد قال تعالى: {وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} فذكر موتتين، أولى وثانية، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية.
والمعنى: ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا.
فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم، فقالوا: {وما نحن بمنشرين}: أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم:
{إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} {فأتوا بآبائنا}: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث، أي إن صدقتم فيما تقولون، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا، بسؤالكم ربكم، حتى يكون ذلك دليلًا على البعث في الآخرة.
قيل: طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيي لهم قصي بن كلاب، ليشأو روه في صحة النبوة والبعث، إذ كان كبيرهم ومشأو رهم في النوازل.
{أهم}: أي قريش، {خير أم قوم تبع}؟ الظاهر أن تبعًا هو شخص معروف، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس، وقيصر على من ملك الروم؛ قيل: واسمه أسعد الحميري، وكنى أبا كرب؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه امن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.
وروي أنه لما امن بالمدينة، كتب كتابًا ونظم شعرًا.
أما الشعر فهو:
شهدت على أحمد أنه ** رسول من الله باري النسم

فلومد عمري إلى عمره ** لكنت وزيرًا له وابن عم

وأما الكتاب، فروى ابن اسحاق وغيره أنه كان فيه: أما بعد: فإني آمنت بك، وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك، فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وتابعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام.
ثم ختم الكتاب ونقش عليه: لله الأمر من قبل ومن بعد.
وكتب عنوانه: إلى محمد بن عبد الله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، من تبع الأول.
ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب، خالد بن زيد، فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتوارثونه كابرًا عن كابر، حتى أدّوه للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس: كان تبع نبيًا، وعنه لما أقبل تبع من الشرق، بعد أن حير الحيرة وسمرقند، قصد المدينة، وكان قد خلف بها حين سافر ابنًا، فقتل غيلة، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها.
فجمعوا له الأنصار، وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل.
فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام، إذ جاءه كعب وأسد، ابنا عم من قريظة جيران، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد، ومو لده بمكة، فثناه قولهما عما كان يريد. ثم دعواه إلى دينهما، فاتبعهما وأكرمهما.
وانصرفوا عن المدينة، ومعهم نفر من اليهود، فقال له في الطريق نفر من هذيل: يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة، وأرادت هذيل هلاكه، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك.
فذكر ذلك للحبرين، فقالوا: ما نعلم الله بيتًا في الأرض غير هذا، فاتخذه مسجدًّا، وانسك عنده، واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك.
فأكرمه وكساه، وهو أول من كسا البيت؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم، وسمر أعينهم وصلبهم.
وقال قوم: ليس المراد بتبع رجلًا واحدًا، إنما المراد ملوك اليمن، وكانوا يسمون التتابعة.
والذي يظهر أنه أراد واحدًا من هؤلاء، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به.
وفي الحديث: «لا تسبوا تبعًا فإنه كان مؤمنًا»، فهذا يدل على أنه واحد بعينه.
قال الجوهري: التتابعة ملوك اليمن، والتبع: الظل، والتبع: ضرب من الطير.
وقال أبو القاسم السهيلي: تبع لكل ملك اليمن، والشحر حضرموت، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعًا، قاله المسعودي.
والخيرية الواقعة فيها التفاضل، وكلا الصنفين لا خير فهم، هي بالنسبة للقوة والمنعة، كما قال: {أكفاركم خير من أولئكم} بعد ذكر ال فرعون في تفسير ابن عباس: أهم أشد أم قوم تبع؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم.
{أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين}: إخبار عما فعل تعالى بهم، وتنبيه على أن علة الأهلاك هي الإجرام، وفي ذلك وعيد لقريش، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث، وهو خلق العالم بالحق.
وقرأ الجمهور: {وما بينهما} من الجنسين، وعبيد بن عميس: وما بينهن لاعبين.
قال مقاتل: عابثين.
{ما خلقناهما إلا بالحق}: أي بالعدل، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب.
{و لكن أكثرهم لا يعلمون} أنه تعالى خلق ذلك، فهم لا يخافون عقابًا ولا يرجون ثوابًا.
وقرىء: ميقاتهم، بالنصب، على أنه اسم إن، والخبر يوم الفصل، أي: إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم، {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا} يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئًا من إغناء، أي قليلًا منه: {و لا هم ينصرون}: جمع، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم، فعاد على المعنى، لا على اللفظ.
{إلا من رحم الله}، قال الكسائي: من رحم: منصوب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين.
قيل: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض.
وقال الحوفي: ويجوز أن يكون بدلًا من مولى المرفوع، ويكون يغني بمعنى ينفع.
وقال الزمخشري: {من رحم الله}، في محل الرفع على البدل من الواو في {ينصرون}، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله؛ وقاله الحوفي قبله.
{إنه العزيز الرحيم}: لا ينصر من عصاه، الرحيم لمن أطاعه ومن عفا عنه.
{إن شجرة الزقوم}: قرئ بكسر الشين، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات.
{طعام الأثيم}: صفة مبالغة، وهو الكثير الاثام، ويقال له: أثوم، صفة مبالغة أيضًا، وفسر بالمشرك.
وقال يحيى بن سلام: المكتسب للإثم.
وعن ابن زيدان: الأثيم هنا هو أبو جهل، وقيل: الوليد.
{كالمهل}: هو دردي الزيت، أو مذاب الفضة، أو مذاب النحاس، أو عكر القطران، أو الصديد؛ أولها لابن عمر وابن عباس، وآخِرها لابن عباس.
وقال الحسن: كالمهل، بفتح الميم: لغة فيه.
وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضًا: المهل: ما أذيب من ذهب، أوفضة، أوحديد، أو رصاص.
وقرأ مجاهد، وقتادة، والحسن، والابنان، وحفص: يغلي، بالياء، أي الطعام.
وعمرو بن ميمون، وأبورزين، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وطلحة، والحسن: في رواية، وباقي السبعة: تغلي بالتاء، أي الشجرة.
{كغلي الحميم}: وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه.
{خذوه فاعتلوه}، يقال للزبانية: خذوه فاعتلوه، أي سوقوه بعنف وجذب.
وقال الأعمش: معنى اتعلوه: اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم.
قال ابن عباس: وسطها.
وقال الحسن: معظمها.
وقرأ الجمهور: فاعتلوه، بكسر التاء، وزيد بن علي، والابنان، ونافع: بضمها؛ والخلاف عن الحسن، وقتادة، والأعرج، وأبي عمرو.
{ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم}: وفي الحج يصيب من فوق رءوسهم الحميم، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم، فتارة اعتبرت الحقيقة، وتارة اعتبرت الاستعارة، لأنه أذم من الحميم، فقد صب ما تو لد عنه من الآلام والعذاب، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم، ولفظة العذاب أهول وأهيب.
{ذق}: أي العذاب، {إنك أنت العزيز الكريم}، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وعن قتادة، أنه لما نزلت: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم}، قال أبو جهل: أتهددني يا محمد؟ وإن ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم، فنزلت هذه الآية، وفي آخِرها: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}، أي على قولك، وهذا كما قال جرير:
ألم تكن في رسوم قد رسمت بها ** من كان موعظة يا زهرة اليمن