فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أومرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} أي: أكرمناهم بأن زوّجناهم بحور عين، والحور جمع حوراء وهي: البيضاء، والعين جمع عيناء: وهي الواسعة العينين.
وقال مجاهد: إنما سميت الحوراء حوراء، لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل: هو من حور العين وهو: شدّة بياض العين في شدّة سوادها كذا قال أبو عبيدة.
وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين.
قال أبو عمرو: الحور أن تسودّ العين كلها مثل أعين الظباء والبقر، قال: وليس في بني ادم حور، وإنما قيل للنساء حور: لأنهنّ شبهن بالظباء والبقر.
قيل: والمراد بقوله: {زوّجناهم} قرناهم، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوّجته بامرأة.
وقال أبو عبيدة: وجعلناهم أزواجًا لهنّ كما يزوّج البعل بالبعل أي: جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال الأخفش {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءآمنين} أي: يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم، والأسقام، والآلام.
قال قتادة: آمنين من الموت، والوصب، والشيطان، وقيل: من انقطاع ما هم فيه من النعيم.
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} أي: لا يموتون فيها أبدًا إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا، والاستثناء منقطع، أي: لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا، كذا قال الزّجاج والفراء، وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله: {و لاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وقيل: إن (إلا) بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلًا اليوم إلا رجلًا عندك، أي: بعد رجل عندك، وقيل: هي بمعنى: سوى، أي: سوى الموتة الأولى.
وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها، فيكون الاستثناء على هذا متصلًا.
واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية {ووقاهم عَذَابَ الجحيم}.
قرأ الجمهور: {وقاهم} بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة {فَضْلًا مّن رَّبّكَ} أي: لأجل الفضل منه، أوأعطاهم ذلك عطاء فضلًا منه {ذلك هو الفوز العظيم} أي: ذلك الذي تقدّم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده، المتناهي في العظم.
ثم لما بيّن سبحانه الدلائل، وذكر الوعد، والوعيد، قال: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك، فيتذكروا، ويعتبروا، ويعملوا بما فيه، أوسهلناه بلغتك عليك، وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} أي: فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم، وإهلاكهم على يدك، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت، أو غيره، وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر، والمعنى متقارب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} يقول: لست بعزيز، ولا كريم.
وأخرج الأموي في مغازيه، عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: «إن الله أمرني أن أقول لك: {أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}» [القيامة: 34، 35] قال: فنزع يده من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، وأنزل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} قال: المهل.
وأخرج عنه أيضًا: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} قال: هو أبو جهل بن هشام. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الدخان:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [1- 3].
يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم. وكانت في رمضان. كما قال سبحانه: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} قال ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، فقد أبعد النجعة. فإن نص القرآن أنها في رمضان. وما روي من الا ثار في فضلها، فمثله لا تعارض به النصوص. هذا على فرض صحتها. وإلا فهي ما بين مرسل وضعيف. والبركة اليمن. ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى، والنجاة من الضلال والردى.
قال القاشاني: ووصفها بالمباركة، لظهور الرحمة والبركة، والهداية والعدالة في العالم بسببها. وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها. كما سماها (ليلة القدر) لأن قدره وكماله إنما ظهر بها. {إنّا كنّا منذرين} أي من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام وتذلل للهوى ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي: يفضل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم.
{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا} نصب على الاختصاص؛ أي: أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا على مقتضى حكمنا. وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي: مرسلين إلى الناس رسو لا من أنفسهم يتلوعليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، رحمة منه تعالى بهم، لمسيس الحاجة إليه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وجوز كون رحمة علة للأنزال. أي: رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية، وصلاح معاشهم ومعادهم، وظهور الخير، والكمال، والبركة، والرشاد فيهم بسببه.
والوجه هو الأول، وهو كونه غاية للإرسال؛ لإفصاح تلك الآية عنه: {إِنَّهُ هو السميع} أي: لدعوة حقائق الأشيئاء بمقتضياتها: {الْعَلِيمُ} أي: بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والأنزال، قاله المهايمي. وقال القاشاني: أي: السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم، العليم: أي: بعقائدهم الباطلة، وارائهم الفاسدة، وأمورهم المختلفة، ومعايشهم غير المنتظمة. فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا، المرشد إلى الصواب فيهما، بتوضيح الصراط المستقيم، وتحقيق التوحيد بالبرهان، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} قال أبو مسلم: أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم: فلان منجد متْهم؛ أي: يريد نجدًّا وتهامة. وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به، من أنه رب الجميع، وخالقه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هو يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي: بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته؛ لأن الإيقان يستتبع قبو ل البرهان، وإنما هو قول ممزوج بلعب، لغشيئان أدخنة أهوية نفوسهم، بصائر قلوبهم وأرواحهم.
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:
الأول- قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسنين يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع، من الظلمة كهيئة الدخان، روى ابن جرير عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصًا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال:
يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئًا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارًا قال: «اللهم سبعًا كسبع يوسف». فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود، والميتة، والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانًا، من الجوع.
فأتاه أَبُو سُفْيَان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.... قال عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}، إلى قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، قال: فكشف عنهم: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16]، فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم، واية الدخان، والبطشة واللزام.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين)، ورواه الإمام أحمد في (مسنده) وهو عند الترمذي والنسائي في (تفسيرهما)، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعةٌ من السلف كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة. لقول ابن مسعود: ثم عادوا. ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبوطالب كان حاضرًا ذلك. فلذلك قال:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَاْمُ بِوَجْهِهِ

لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدًّا. والله المستعان. انتهى.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين:
أحدهما- أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء. وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة: الغبراء.
ثانيهما- أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان. والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أوضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. انتهى.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذٍ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:
تُرِيْدُ مُهَذَّبًا لَاْ عَيْبَ فِيْهِ ** وَهَلْ عَوْدٌ يَفُوْحُ بِلَاْ دُخَاْنِ

الوجه الثاني في الآية- أنه دخان يظهر في العالم، وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول حذيفة. ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول- أن قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ} يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدو لا عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني- أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينًا، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانًا مبينًا.
والثالث- أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشي الناس إلا على سبيل المجاز. وقد ذكرنا أن العدو ل من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل.
الرابع- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة. أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلًا جدًّا. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أَبُو سُفْيَان، وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم.
أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ولم يصح أيضًا أن يقال لهم: {إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريًا مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدًّا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملًا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهابًا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح، والحسان وغيرهما، التي أو ردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} أي: يتغشاهم ويعمهم. ولوكان أمرًا خياليًا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: {يَغْشَى النَّاسَ} وقوله تعالى: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا. كقوله عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 13- 14]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه، وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: {ولوتَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، وكذا قوله جل وعلا: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقول الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَولم تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]. وهكذا قال جل جلاله.
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رسول مُّبِينٌ ثُمَّ تَولوا عَنْهُ وَقالوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي: كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسو لا بين الرسالة والنذارة. ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلّم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] الآية. وكقوله عز وجل: {ولوتَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ: 51]. إلى آخر السورة.
وقوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} يحتمل معنيين:
أحدهما- أنه يقول تعالى ولوكشفنا عنكم العذاب، ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: {ولورَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ} [المؤمنون: 75]، وكقوله جلت عظمته: {ولورُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].