فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال جرير:
لَمَّا أتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ** سُوْرُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ

وقال النابغة:
بكى حارِثُ الجَو لأن مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ** وحَوْرَانُ منه خاشِعٌ مُتَضائِلُ

{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}.
قوله: {مِن فِرْعَوْنَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدل من العذاب: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ عذابِ فرعونَ، وإمَّا على المبالغةِ جعلَه نفسَ العذابِ فأبدله منه. والثاني: أنه حالٌ من العذابِ تقديرُه: صادرًا مِنْ فرعونَ.
وقرأ عبد الله {مِنَ عَذَابِ المهين} وهي مِنْ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه؛ إذ الأصلُ: العذابُ المُهين، كالقراءة المشهورةِ.
وقرأ ابن عباس {مَنْ فرعونُ} بفتح ميم (من) ورفع {فرعونُ} على الابتداءِ والخبرِ، وهو استفهامُ تحقيرٍ كقولك: مَنْ أنتَ وزيدًا. ثم بَيَّنَ حالَه بالجملة بعدُ في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المسرفين}.
{ولقد اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)}.
قوله: {على عِلْمٍ عَلَى العالمين}: {على} الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها حالٌ من الفاعل في {اخْتَرْناهم}. والثانية متعلقةٌ بـ: {اخْتَرْناهم}. وفي عبارة الشيخ: أنَّه لَمَّا اختلفَ مدلو لها جاز تعلُّقُهما بـ: (اخْتَرْنا). وأنشد الشيخُ نظيرَ ذلك:
ويَوْمًا على ظَهْر الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ ** عليَّ والَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

ثم قال: فـ: {على عِلْم} حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. و(على ظَهْر) حالٌ من الفاعل في (تَعَذَّرَتْ). والعاملُ في الحال هو العاملُ في صاحبها. وفيه نظرٌ؛ لأن قوله أولا: ولذلك تَعَلَّقا بفعلٍ واحدٍ لَمَّا اختلف المدلول ينافي جَعْلَ الأولى حالًا؛ لأنها لم تتعلَّقْ به.
وقوله: والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها. لا يَنْفَعُ في ذلك.
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)}.
قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ}: يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ معطوفًا على {قومُ تُبَّع}. الثاني: أَنْ يكونَ مبتدًا، وخبرُه ما بعده مِنْ {أَهْلَكْناهم}، وأمَّا على الأول فـ: {أَهْلَكْناهم}: إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حالٌ من الضمير الذي اسْتَكَنَّ في الصلة. الثالث: أَنْ يكونَ منصوبًا بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره {أَهْلَكْناهم}. ولا مَحَلَّ لـ: (أَهْلكنا) حينئذٍ.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)}.
قوله: {لاَعِبِينَ}: حال. وقرأ عمرو بن عبيد {وما بينَهُنَّ} لأن السماواتِ والأرضَ جمعٌ. والعامَّةُ {بينَهما} باعتبار النَوْعين.
{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}.
قوله: {إِلاَّ بالحق}: حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا من المفعول أي: إلاَّ مُحِقِّين أو ملْتَبِسين بالحق.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)}.
قوله: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ}: العامَّةُ على رَفْعِ {ميقاتُهم} خبرًا لـ: {إنَّ}. وقرئ بنصبِه على أنه اسمُ (إن) و{يومَ الفصلِ} خبرُه. و{أَجْمعين} تأكيدٌ للضميرِ المجرور.
{يَوْمَ لَا يُغْنِي مولى عَنْ مولى شَيْئًا ولا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)}.
قوله: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي}: يجوزُ أَنْ يكونَ بدلًا من {يومَ الفصل} أو بيانا عند مَنْ لا يَشْتَرِط المطابقةَ تعريفًا وتنكيرًا، وأَنْ يكونَ منصوبًا بإضمار أَعْني. وأَنْ يكونَ صفةً لـ: {مِيقاتُهم} ولكنه بُنِي. قاله أبو البقاء. وهذا لا يتأتَّى عند البَصْريين لإِضافتِه إلى مُعْرَبٍ. وقد تقدَّمَ آخر المائدة، وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ يَدُلُّ عليه {يومَ الفَصْلِ} أي: يَفْصِلُ بينهم يومَ لا يُغْني. ولا يجوز أَنْ ينتصِبَ بالفصلِ نفسِه لِما يَلْزَمُ مِنْ الفَصْلِ بينهما بأجنبيّ وهو {ميقاتُهم}، و{الفَصْل} مصدر لا يجوز فيه ذلك. وقال أبو البقاء: لأنه قد أُخْبر عنه. وفيه تَجَوُّزٌ فإنَّ الإِخبارَ عَمَّا أُضِيْفَ إلى الفَصْلِ لاغي الفَصْلِ.
قوله: {و لا هم} جُمِع الضميرُ عائدًا به على {مولى}، وإنْ كان مفردًا لأنه قَصَدَ معناه فجُمِعَ، وهو نكرةٌ في سِياق النفيِ فَعَمَّ.
{إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هو العَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)}.
قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} يجوزُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: وهو قول الكسائيِّ- أنه منقطِعٌ. الثاني: أنه متصِلٌ تقديرُه: لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ إلاَّ المؤمنين فإنَّهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعةِ فيَشْفَعُون في بعضِهم. الثالث: أَنْ يكونَ مرفوعًا على البدليةِ مِنْ {مولى} الأول، ويكونُ {يُغْني} بمعنى يَنْفَعُ، قاله الحوفي. الرابع: أنه مرفوعُ المحلِّ أيضًا على البدل من واو {يُنْصَرُون} أي: لا يمنعُ من العذابِ إلاَّ مَنْ رحمه الله.
{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)}.
قوله: {كالمهل}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو كالمهل. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا مِنْ {طعام الأثيم}. قال أبو البقاء: لأنه لا عاملَ إذ ذاك. وفيه نظرٌ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا، والعاملُ فيه معنى التشبيه، كقولك: زيدٌ أخوك شجاعًا.
والأثيم صفةُ مبالَغَةٍ. ويقال: الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور. والمُهْل: قيل دُرْدِيُّ الزيت. وقيل عَكَر القَطِران. وقيل: ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أوفضة. وقيل: ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص. والمَهْلُ بالفتح: التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ. ومنه {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17]. وقرأ الحسن {كالمَهْل} بفتح الميم فقط، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم.
قوله: {يَغْلي} قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ. والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم. وقيل: يعود على المُهْلِ نفسِه، و{يَغْلي} حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي: مُشْبهًا المُهْلَ غاليًا. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا مِنَ المُهْلِ نفسِه. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو يغلي أي: الزقُّوم أو الطعامُ. والباقون {تَغْلي} بالتاء مِنْ فوقُ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال على رَأْيٍ، أو خبر مبتدأ مضمر أي: هي تَغْلي.
{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}.
قوله: {كَغَلْيِ الحميم}: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حال مِنْ ضميرِه أي: تَغْلي غَلْيًا مثلَ غَلْيِ الحميمِ أو يغْليه مُشْبهًا غَلْيَ الحميمِ.
{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)}.
قوله: {فاعتلوه}: قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر بضمِّ عين {اعْتُلوه}. والباقون بكسرِها، وهما لغتان في مضارع عَتَله أي: ساقَه بجفاءٍ وغِلْظَة كـ: عَرَش يَعْرِش ويَعْرُش. والعُتُلُّ: الجافي الغليظُ.
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}.
قوله: {إِنَّكَ أَنتَ}: قرأه الكسائيُّ بالفتحِ على معنى العلَّةِ أي: لأنك. وقيل: تقديرُه: ذُقْ عذابَ أنَّك أنت العزيزُ. والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ المفيدِ للعلَّة، فتتحدُ القراءاتان معنىً. وهذا الكلامُ على سبيلِ التهكمِ، وهو أغيَظُ للمُسْتَهْزَأ به، ومثلُه قول جريرٍ لشاعرٍ سَمَّى نفسه زهرةَ اليمن:
ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بها ** مَنْ كان موعظةً يا زهرةَ اليَمَنِ

وكان هذا الشاعرُ قد قال:
أبْلِغْ كُلَيْبًا وأَبْلِغْ عَنْك شاعرَها ** أنِّي الأَغَرُّ وأنِّي زهرةُ اليمنِ

{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)}.
قوله: {فِي جَنَّاتٍ}: يجوز أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ قوله: {في مَقام} بتكرير العاملِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا.
{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)}.
قوله: {يَلْبَسُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من الضميرِ المستكِنِّ في الجارِّ، وأَنْ يكونَ خبرًا لـ: (إن) فيتعلَّقَ الجارُّ به، وأَنْ يكون مُسْتأنفًا.
قوله: {مُتقابلين} حالٌ مِنْ فاعلِ {يَلْبَسون} وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ: السُّنْدس والإِستبرق والمقام.
{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)}.
قوله: {كَذَلِكَ}: في هذه الكاف وجهان، أحدُهما: النصبُ نعتًا لمصدرٍ أي: نفعلُ بالمتقين فعلًا كذلك أي: مِثْلَ ذلك الفعلِ. والثاني: الرفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: الأمرُ كذلك. وقَدَّر أبو البقاء قبلَه جملةً حاليةً فقال: تقديرُه: فَعَلْنا ذلك والأمرُ كذلك. ولا حاجةَ إليه. والوقفُ على {كذلك}، والابتداءُ بقوله: {وزَوَّجْناهم}.
قوله: {بِحُوْرٍ عِيْنٍ} العامَّةُ على تنوين {حور} مَوْصوفين بـ: {عِيْن}. وعكرمة لم يُنَوِّن، أضافهنَّ لأنهنَّ ينقسِمْنَ إلى عِيْنٍ وغيرِ عِيْنٍ. وتقدَّم تفسيرُ الحُور العين.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمنين (55)}.
قوله: {يَدْعُونَ}: حالٌ مِنْ مفعول {زَوَّجْناهم}، ومفعوله محذوفٌ أي: يَدْعُوْن الخَدَمَ بكلِّ فاكهةٍ.
قوله: {آمنين} يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا ثانية، وأَنْ يكونَ حالًا من فاعلِ {يَدْعُون} فتكونَ حالًا متداخلةً.
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأولى ووقاهم عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)}.
قوله: {لاَ يَذُوقُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من الضميرِ في {آمنين}، وأَنْ يكونَ حالًا ثالثةً أوثانيةً مِنْ مفعول {زَوَّجْناهم} و{آمنين} حالٌ مِنْ فاعلِ {يَدْعُون} كما تقدَّمَ، أو صفة لـ: {آمنين} أو مستأنفٌ. وقرأ عمرو بن عبيد {لا يُذاقون} مبنيًا للمفعول.
قوله: {إِلاَّ الموتة الأولى} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها. الثاني: أنه متصلٌ وتَأَولوه: بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها، أولما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها. الثالث: أنَّ (إلا) بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه. قال ابن عطية: وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ. الرابع: أن (إلا) بمعنى بَعْد. واختاره الطبريُّ، وأباه الجمهورُ؛ لأن (إلا) بمعنى بعد لم يَثْبُتْ. وقال الزمخشري: فإنْ قلت: كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأولى المَذُوْقَةُ قبلَ دخو ل الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه؟ قلت: أُريدَ أَنْ يُقال: لا يَذُوْقون فيها الموتَ البتةَ، فوضع قوله: {إِلاَّ الموتة الأولى} مَوْضِعَ ذلك؛ لأن الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال: كأنَّه قيل: إنْ كانت الموتةُ الأولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ؛ فإنَّهم يَذْوْقونها في الجنة. قلت: وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه. ومثلُه قول النابغةِ:
لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ** بهنَّ فُلو ل مِنْ قراعِ الكتائبِ

يعني: إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلول السيوفِ مِنْ قراع الكتائب عَيْبًا فهذا عيبُهم، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال. وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ: فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا. يعني أنه كلامٌ محمول على معناه.
قوله: {ووقاهم} الجمهورُ على التخفيف. وقرأ أبو حيوةَ {ووقاهم} بالتشديد على المبالغة، ولا يكونُ للتعدية فإنَّه متعدٍّ إلى اثنين قبلَ ذلك.
{فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هو الفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)}.
قوله: {فَضْلًا}: هذا مفعول مِنْ أجلِه، وهو مُرادُ مكي حيث قال: مصدرٌ عَمِلَ فيه {يَدْعُون}. وقيل: العاملُ فيه {ووقاهم} وقيل: {آمنين} فهذا إنما يظهر على كونِه مفعولا مِنْ أجله. على أنَّه يجوزُ أن يكونَ مصدرًا لأن يَدْعُون وما بعده من باب التفضُّلِ، فهو مصدر مُلاقٍ لعاملِه في المعنى. وجَعَله أبو البقاء منصوبًا بمقدر أي: تَفَضَّلْنا بذلك فَضْلًا أي: تَفَضُّلًا.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}.
قوله: {يَسَّرْنَاهُ}: أي: القرآن بلسانك أي بلغتك. والباءُ للمصاحبة.
{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}.
قوله: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ}: مفعولا الارتقاب محذوفان أي: فارتقب النصرَ مِنْ رَبِّك إنهم مُرْتَقِبون بك ما يتمنَّوْنَه من الدوائرِ والغوائلِ ولن يَضِيْرَك ذلك. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: ما ذكروه في قوله تعالى: {ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم ما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38، 39] إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] وأفصح بعضهم فقال: الحق هو عز وجل والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جل وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد:
رق الزجاج وراقت الخمر ** فتشاكلا وتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر

والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا في شجرة الزقوم: هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا: {الموتة الأولى} [الدخان: 56] ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيى أبدًا الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل. اهـ.