فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}:

.قال أبو حيان:

{له ما في السموات وما في الأرض} يصح أن يكون خبرًا بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها.
و: ما، للعموم تشمل كل موجود، و: اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى، وكرر: ما، للتوكيد.
وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات: كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية: كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق.
وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض، فلم يذكرهما كونه مالكًا لهما استغناء بما تقدّم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك، وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحدًا كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر، وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {له ما في السماوات وما في الأرض} تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكًا له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها.
واللامُ للمِلك.
والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر، ولكنّه زاده تأكيدًا بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة.
فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجِزة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: لأن قوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق، وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده، وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته، وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}:

.قال الفخر:

قوله: {مَن ذَا الذى} استفهام معناه الإنكار والنفي، أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] وقولهم: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب.
فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [يونس: 18] فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه} مقرّرة لمضمون جملة: {له ما في السموات وما في الأرض} لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى، بالمطابقة.
وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب، والشفاعة إدلال.
وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة، بل قالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقالوا: {ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى} [الزمر: 3]، فأكّد هذا المدلول بالصريح، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها.
وَ{ذا} مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن، والعرب تزيد ذا لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم، وتقدم القول في {من ذا} عند قوله تعالى: {مَن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} [البقرة: 245].
والاستفهام في قوله: {من ذا الذي يشفع عنده} مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله: {إلا بإذنه}. اهـ.

.قال القرطبي:

وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعمال صالحة.
وفي البخاريّ في بابٌ بقيّةٌ من أبواب الرؤية: إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يُصلّون معنا ويصومون معنا.
وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المُحْبَنْطِئ على باب الجنة.
وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم.
وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أُممهم بذنوبٍ دون قُربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء.
وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصّة له.
قلت: قد بيّن مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانًا شافيًا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويُخرجون منها أناسًا استوجبوا العذاب؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها؛ أجارنا الله منها.
فذكر من حديث أبي سعيد الخدريّ: «ثم يُضرب الجسرُ على جهنم وتحِلّ الشفاعة ويقولون اللهم سلِّم سلِّم قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دَحْضٌ مَزِلّةٌ فيها خَطاطيف وكلاليب وحَسَكَةٌ تكون بنَجْد فيها شُوَيْكة يقال لها السّعْدان فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرِّكاب فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ومَخْدُوشٌ مُرْسَل ومَكْدُوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويُحجّون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتُحرَّم صورُهم على النار فيُخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذتِ النار إلى نصف ساقيْه وإلى ركبتيْه ثم يقولون ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقال دينار من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمر تنابه، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقال نصفِ دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا».
وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] «فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيُخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قَطّ قد عادوا حُمما» وذكر الحديث.
وذكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك أو قال ليس ذلك إليك وعِزتي وكبريائي وعظمتي وكبريائي لأخرجنّ من قال لا إله إلا الله» وذكر من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود» الحديث بطوله.
قلت: فدلّت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها!
وقول ابن عطية: ممن لم يصل أو وصل يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أُخَر، والله أعلم.
وقد خرّج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُصفّ الناسُ يوم القيامة صُفُوفًا وقال ابن نمير أهل الجنة فيمرّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيتَ فسقيتُك شَربة؟ قال فيشفع له ويمرّ الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورًا؟ فيشفع له قال ابن نمير ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له».
وأما شفاعات نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في سبحان إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

قال القفال: إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وطول في تقريره.
وأقول: إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم، ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم، وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول، إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم، بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلًا، فإن كان القفال على مذهب الكعبي، فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال، إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول: أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه، بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه، وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني: أن قوله: لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات، والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه، فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع، ولا يكون خائفًا من العقاب، والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة، ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن القَفّال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة. اهـ.