فصل: تفسير الآيات (12- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



شواهد الربوبية لائحةٌ. وأدلةُ الإلهية واضحةٌ؛ فمَنْ صحا مِنْ سَكْرَةِ الغفلة. ووضعَ سِرَّه في محالِّ العِبرة حَظِيَ- لا محالةَ- بحقائق الوصلة.
قوله جل ذكره: {وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
إذا أنعم العبدُ نَظَرَه في استواء قدِّه وقامته. واستكمال عقله وتمام تمييزه. وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه. ثم فكَّرَ فيما عداه من الدواب؛ في أجزائها وأعضائها.. ثم وقف على اختصاص وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم. ثم في الإيمان والعرفان ووجوهِ خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان- عَرَفَ تخصُّصَهم بمناقبهم. وانفرادَهم بفضائلهم. فاستيقن أن الله كَرَّمهم. وعلى كثيرٍ من الخلوقات قدَّمَهُم.
قوله جل ذكره: {وَاخْتَلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
جَعَلَ اللَّهُ العلومَ الدينية كسبيةً مُصَحَّحةً بالدلائل. مُحَقِّقةً بالشواهد. فَمَنْ لم يَسْتَبْصِرْ بها زّلَّتْ قَدَمُه عن الطراط المستقيم (1). ووقع في عذاب الجحيم؛ فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد. وفي الآخرة في التخليد في الوعيد.
قوله جل ذكره: {تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}.
فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديثٍ يؤمن؟ ومن أي أصل يستمد بعده؟ ومن أي بَحْرٍ في التحقيق يغترف؟ هيهات! ما بقي للإشكال في هذا مجال.
قوله جل ذكره: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكَبِرًا كّأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
كلُّ صامتٍ ناطقٌ. يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم.
فَمَنْ استمع بسمع الفهم. واستبصر بنور التوحيد فاز بذُخْرِ الدارين. وتصدَّى لِعِزِّ المنزلين. ومَنْ تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل. ووسِم بكيِّ الهَجْر.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئِِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
قابله بالعناد. وتأوله عَلَى ما يقع له من وجه المراد مِنْ دون تصحيح بإسناد فهؤلاء {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}: مُذِلٌّ.
وقد يُكاشَفُ العبدُ من بواطن القلب بتعريفاتٍ لا يتداخله فيها ريبٌ. ولا يتخالجه منهاشكٌّ فيما هو به من حاله فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجبة وهو نٍ الفرقة.
قوله جلّ ذكره: {مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِى عَنْهُمْ مَّا كَسَبُواْ شَيْئًا ولا مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أوليَاءَ ولهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فعند هذه الفترة. وفي وقت هذه المحنة فلا عُذْرَ يُقْبَلُ منهم. ولا خطابَ يُسْمَعُ عنهم. ولهم عذابٌ متصل. ولا يُرَدُّونَ إلى ما كانوا عليه من الكشف:
فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبكا ** فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ

اهـ.

.تفسير الآيات (12- 15):

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ولتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمنوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية. ذكر بعض اثارها وما فيها من آياته. فقال مستأنفًا دالًا على عظمتها بالاسم الأعظم: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال.
ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح. ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال: {الذي سخر} أي وحده من غير حو ل منكم في ذلك بوجه من الوجوه {لكم} أيها الناس بربكم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القبلية للسير فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفوا عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد {لتجري الفلك} أي السفن {فيه بأمره} ولوكانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها.
ولما كان التقدير: لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به. عطف عليه قوله: {ولتبتغوا} أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك {من فضله} لم يصنع شيئًا منه سواه.
ولما كان التقدير: لتظهر عليكم اثار نعمته. عطف عليه قوله تعالى: {ولعلكم تشكرون} أي ولتكونوا بحيث يرجوا منكم من ينظر حالكم ذلك الشكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر آية البحر لعظمتها. عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله. على عظمه إلا لنا. تنبيهًا على أن الأمر عظيم فقال تعالى: {وسخر لكم} أي خاصة ولوشاء لمنعه {ما في السماوات} بإنزاله إليكم منبهًا على أنها بحيث لا يمكنكم الوصو ل إليه بوجه. وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم. وأفعالهم أفعال من ينكره. فقال: {وما في الأرض} وأوصلكم إليه ولوشاء لجعلكم كما في السماء لا وصو ل لكم إليه. وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله: {جميعًا} حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشيئاء ومن تسخيرها {منه} لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك. قال الرازي في اللوامع: قال أبويعقوب النهر جوري: سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء. وتكون مسخرًا لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى. فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه. وقال القشيري: ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للأنسان به انتفاع. فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك.
ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني. حسن جدًّا قوله. مؤكدًا لأن عملهم يخالفه: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون {لآيات} أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا {لقوم} أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم {يتفكرون} أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئًا.
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم. فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة. وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه. أنتج قوله مخاطبًا لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف: {قل} أي بقالك وحالك {للذين آمنوا} أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله: اغفروا تسننًا به من أساء إليكم.
ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه. كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبو ل منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء. فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الأنتقام منه فهو يكفي أمره. ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله: {يغفروا} أي يستروا سترًا بالغًا.
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه. وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحًا فيما يرجى من إحسانه قال: {للذين} وعبر في موضع {أساؤوا إليهم} بقوله تعالى: {لا يرجون} أي حقيقة ومجازًا. والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف. وقال بعد ما نبه عليه بتلك العبارة من جليل الإشارة: {أيام الله} أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدالة الدو ل تارة لهم وأخرى عليهم. وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين. وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه. فصار حاله حال الائس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي. وعبر بالاسم الشريف تنبيهًا على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما. قال ابن برجان: وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أوننسها} [البقرة: 106] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء ويذهب بحسب القدرة على الأنتصار. وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف. ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف. وتركت هذه وأمثالها مسطورة في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهًا للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم.
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا. سقط عنه أمرها في الآخرة. وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة. علل الأمر بالغفران مهددًا للجاني ومسليًا للمجني عليه: {ليجزي} أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل. ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون. وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم.
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة. وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلًا لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل ذلك قال: {قومًا} أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلوالكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف {بما} أي بسبب الذي {كانوا} أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج {يكسبون} أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أوبسبب كسبهم من خير أوشر. والحاصل أنه تعالى يقول: أعرض عمن ظلمك وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحدًا. فسوف أجزيك على صبرك أجزيه على بغيه وأنا قادر. وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم. وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسندًا إليه لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه. فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا} [الدهر: 12] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قومًا. فجعل الجزاء كالفاعل وإن كان مفعولا كما جعل (زيد) فاعلًا في مات زيد وإن كان مفعولا في المعنى: تنبيهًا على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه لأنه يجعل متمكنًا من المجزي تمكن المجزي من جزائه ومحيصًا به لأن الله تعالى بعظم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له. قال الله تعالى: {سيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 139] بما كانوا يعملون. ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير (الذين) بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى: سيجزي الذين آمنوا ناسًا كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم فيجعل كلًا منهم فداء لكل منهم من النار. وربما رأوا بعض اثار ذلك في الدنيا. روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفوإلا عزًا. وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل» ولاحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة. وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزًا. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر»- أوكلمة نحوها. وروى الحاكم وصحح إسناده. قال المنذري: وفيه انقطاع عن أبي بن كعب- رضي الله عنه- قال: «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه».
ولما رغب سبحانه ورهب وتقرر أنه لابد من الجزاء. زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال شارحًا للحزاء: {من عمل صالحًا} قال أوجل {فلنفسه} أي خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا أو في الآخرة {ومن أساء} أي كذلك إساة قلت أوجلت {فعليها} خاصة إساءته كذلك. وذلك في غاية الطهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكًا يدع عبيده من غير جزاء ولاسيما إذا كان حكيمًا وإن كانت نقائص النفوس قد غطت على كثير من العقول ذلك ومن جزائه أنه يديل المسيء على المحسن لهفوة وقعت له ليراجع حاله بالتوبة.
ولما كان سبحانه قادرًا لا يفوته شيء كان بحيث لا يعجل فأخر الجزاء إلى اليوم الموعود: {ثم} أي بد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ {إلى ربكم} أي المالك لكم وحده لا إلى غيره {ترجعون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}.
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشيئاء أحدها: الرياح التي تجري على وفق المراد ثانيها: خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك ثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه.
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر. فلابد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله: {ولتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} معناه إما بسبب التجارة. أوبالغوص على اللؤلؤ والمرجان. أولأجل استخراج اللحم الطري.
ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مّنْهُ} والمعنى لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السموات والأرض في مقارها وأحيازها لما حصل الأنتفاع. لأن بتقدير كون الأرض هابطة أوصاعدة لم يحصل الأنتفاع بها. وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الأنتفاع. وكل ذلك قد بيناه. فإن قيل ما معنى {مِنْهُ} في قوله: {جَمِيعًا مّنْهُ}؟ قلنا معناه أنها واقعة موقع الحال. والمعنى أنه سخّر هذه الأشيئاء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه. قال صاحب (الكشاف) قرأ سلمة بن محارب منه على أن يكون منه فاعل {سخر} على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه أوهو منه.
واعلم أنه تعالى لم علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة. أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله: {قُل لّلَّذِينَ ءآمنوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار. واختلفوا في سبب نزول الآية قال ابن عباس {قُل لّلَّذِينَ ءآمنوا} يعني عمر {يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} يعني عبد الله بن أُبي. وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع. فأرسل عبد الله غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه. فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحد يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك. فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه. فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل شتم رجل من كفار قريش عمر بمكة فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية.