فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول: أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن الكرسي هو نفس العرش، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش، وبأنه كرسي، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه، وقال بعضهم: بل الكرسي غير العرش، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إنه دون العرش وفوق السماء السابعة، وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: موضع القدمين، ومن البعيد أن يقول ابن عباس: هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.
القول الثاني: أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك، ثم تارة يقال: الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي، لأن الملك يجلس على الكرسي، فيسمى الملك باسم مكان الملك.
القول الثالث: أن الكرسي هو العلم، لأن العلم موضع العالم، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض.
والقول الرابع: ما اختاره القفال، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتًا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعًا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشًا، فقال: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] ثم وصف عرشه فقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] ثم قال: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِهِ رَّبِّهِمْ} [الزمر: 75] وقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] وقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ثم أثبت لنفسه كرسيًا فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض}.
إذا عرفت هذا فنقول: كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} ذكر ابن عساكر في تاريخه عن عليّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسيّ حيث لا يعلمه إلا الله» وروى حمّاد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلَة وهو عاصم بن أبي النجود عن زِرّ بن حُبَيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه.
يقال: كُرسيّ وكرسِيّ والجمع الكراسيّ.
وقال ابن عباس: كرسيه علمه.
ورجحه الطبري، قال: ومنه الكُرّاسة التي تضم العلم؛ ومنه قيل للعلماء: الكراسيّ؛ لأنهم المعتمد عليهم؛ كما يقال: أَوْتَادُ الأرض.
قال الشاعر:
يَحُفّ بهم بِيضُ الوُجوه وعُصْبَةٌ ** كَراسيّ بالأحْداث حين تَنُوبُ

أي علماء بحوادث الأُمور.
وقيل: كُرسيّه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيًا، أي ما يعمده.
وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال البيهقيّ: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وسع كرسيه} قال: علمه.
وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش.
وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} قال: إن الصّخْرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات، ورؤوسهم تحت الكرسيّ والكرسيّ تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش.
قال البيهقيّ: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش.
وفي رواية أسباط عن السديّ عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن عباس، وعن مُرّة الهَمَدَانيّ عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} فإن السَّمَوَاتِ والأَرْضَ في جوف الكرسيّ والكرسيّ بين يدي العرش.
وأرباب الإلحاد يحملونها على عِظم المُلْك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسيّ وليس بشيء.
وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متّسع فيجب الإيمان بذلك.
قال أبو موسى الأشعري: الكرسيّ موضع القدمين وله أطِيطٌ كأطِيط الرَّحْل.
قال البيهقيّ: قد روينا أيضًا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يُرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى.
وعن ابن بُريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعجب شيء رأيتَه»؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مِكْتَلُ طعامٍ فمرّ فارس فأذْرَاه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولها: «لا قُدِّست أُمّةٌ أو كيف تقدس أُمة لا يأخذ ضعيفُها حقَّه من شديدها» قال ابن عطية: في قول أبي موسى الكرسي موضع القدمين يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسِرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسيّ إلى سرير الملك.
وقال الحسن ابن أبي الحسن: الكرسيّ هو العرش نفسه؛ وهذا ليس بمرضيّ، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسيّ مخلوق بين يديّ العرش والعرش أعظم منه.
وروى أبو إدريس الخولانيّ عن أبي ذرّ قال: قلت يا رسول الله، أيّ ما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسيُّ ثم قال يا أبا ذرّ ما السموات السبع مع الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة» أخرجه الآجُرِّي وأبو حاتم البستيّ في صحيح مسنده والبيهقيّ وذكر أنه صحيح.
وقال مجاهد: ما السموات والأرض في الكرسيّ إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبِئة عن عِظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عِظم قدرة الله عز وجل إذْ لا يَؤُدُه حفظ هذا الأمر العظيم. اهـ.

.قال ابن عطية:

والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس» وقال أبو ذرّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض» وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}:

.قال أبو حيان:

{ولا يؤوده حفظهما} قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرئ شاذًا بالحذف، كما حذفت همزة أناس، وقرئ أيضًا: يووده، بواو مضمومة على البدل من الهمزة أي: لا يشقه، ولا يثقل عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
وقال ابان بن تغلب: لا يتعاظمه حفظهما، وقيل: لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات.
والهاء تعود على الله تعالى، وقيل: تعود على الكرسي، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي. اهـ.

.قال الألوسي:

{حِفْظُهُمَا} أي السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد. اهـ.

.قال القرطبي:

و{العلي} يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزَّه عن التحيُّز.
وحكى الطبريّ عن قوم أنهم قالوا: هو العلِيّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال ابن عطية: وهذا قول جهلةٍ مجسِّمين، وكان الوجه ألا يُحكى.
وعن عبد الرحمن بن قُرْط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به سمع تسبيحًا في السموات العلى: سبحانه الله العلِيّ الأعلى سبحانه وتعالى.
والعلِي والعالي: القاهر الغالب للأشياء؛ تقول العرب: علا فلان فلانًا أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر:
فَلَمّا عَلَوْنا واسْتَوَيْنا عليهم ** تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسرٍ

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4].
و{العظيم} صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشّرف، لا على معنى عِظَم الأجرام.
وحكى الطبريّ عن قوم أن العظيم معناه المعظَّم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:
فكأنّ الخمرَ العَتِيقَ من الإِس ** فِنِّط مَمْزُوجَةً بماءٍ زُلالِ

وحكى عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى مُعَظَّم لوجب ألاّ يكون عظيمًا قبل أن يخلق الخلق وبعد فَنائهم؛ إذْ لا معظِّم له حينئذ. اهـ.