فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرًا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب. وفيه نظر لأن اعتقاد ذكر كفر وليس الكلام فيه. وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود.
والحاكم «فإني أنا الدهر» بضم الراء وقال: لوكان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه «فإني أنا الدهر» بفتح الراء ظرفًا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طو ل الزمان وممره. وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه. ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء.
ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز. وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل. والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي المصرف المدبر المفيض لما يحدث. وفيه بعد.
وقرأ عبد الله {إِلا} وتأويله إلا دهر يمر {الدهر وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الأهلاك إلى الدهر {مِنْ عِلْمٍ} مستند إلى عقل أونقل {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة. هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} الناطقة بالحق الذي من جملته البعث {بينات} واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكًا لهم شيء من الأشيئاء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة. وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أوأنه من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع

أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصو ل الشيء حالًا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة. والخطاب في {ائتوا وَكُنتُمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلى الله عليه وسلم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به. وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية: {ائتوا وَكُنتُمْ} من حيث المخاطبة له صلى الله عليه وسلم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام. وهو كما ترى.
وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد. وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد. وعاصم فيما روى هارون. وحسين عن أبي بكر عنه {حُجَّتَهُمْ} بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئًا من الأشيئاء إلا هذا القول الباطل. وجواب {إِذَا} ما كان الخ. ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفى بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية. وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيًا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلابد معها من الفاء نحوإن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافًا لابن هشام.
واستدل بوقوع ما ذكر جوابًا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق. ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره. ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان {إِذَا} أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} ابتداءً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء اجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} أي فيه وجوز كون الفعل مضمنًا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في جمعكم فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها. وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيًا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استدراك من قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وهو من تمام الكلام المأمور به أوكلام مسوق من جهته تعالى تحقيقًا للحق وتنبيهًا على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}.
هذا عطف على جملة {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيرًا من عقبى المسلمين. يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلًا وإنما يقينُهم قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا}.
وتقدم في سورة الأنعام (29) {وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} وضمير {هي} ضمير القصة والشأن. أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات. أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا. أي الحاضرة القريبَة منا. أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث. ويجوز أن يكون {هي} ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حَصْرًا لجنس الحياة في الحياة الدنيا.
وجملة {نموت ونحيا} مبيّنة لجملة {ما هي إلا حياتنا الدنيا} أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيًّا خلفه من يوجد بعده.
فمعنى {نموت ونحيا} يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيًّا إلى أمد أو يو لد بعد من ماتوا.
وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع. أي تتجدد فينا الحياة والموت.
فالمعنى: نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى.
ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فَلَعَلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم. وإنْ كانت حكايَة لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا: يموت بعضنا ويحيَا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل.
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم: {نموت ونحيا} تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا} يصرف عن خطور هذا بالبال.
والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيبًا بين المتعاطفين في الحصو ل.
وإنما قدم {نموت} في الذكر على {ونحيا} في البيان مع أن المبيّن قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا} فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيَّن فيقال: نَحيَا ونموت. فقيل قُدّم {نموت} لتتأتى الفاصلة بلفظ {نحيا} مع لفظ {الدنيا}.
وعندي أن تقديم فعل {نموت} على {نَحيا} للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا.
وحصلت الفاصلة تبعًا. وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى: {وما لهم بذلك من علم} فالإشارة بـ {ذلك} إلى قولهم {وما يُهلكنا إلا الدهر}. أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.
وأما زيادة {وما يهلكنا إلا الدهر} فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر.
فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر.
فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيًّا فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.
والمعنى: أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان. أي حَدثانه من طو ل مدة يعقبها الموت بالشيخوخة. أو من أسباب تفضي إلى الهلاك. وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عمرو بن قميئة:
رَمَتْنِي بناتُ الدهر من حيث لا أرى ** فمَا بال من يُرمى وليس بِرَامِ

ولعلهم يريدون أنه لوتأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران:
منع البقاء تقلب الشمس ** وطلوعها من حيث لا تُمسي

فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء.
وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم. وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك. وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه. ولذلك أعقبه بقوله تعالى: {وما لهم بذلك من علم} فإشارة بـ {ذلك} إلى قولهم {وما يهلكنا إلا الدهر} أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري بَيَّن أن الدهر وهو الزمان ليس بمُميت مباشرةً وهو ظاهر ولا بواسطةٍ في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدِّر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة. وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف. وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة.
والمراد بالظن في قوله: {إن هم إلا يظنون} ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة {إن هم إلا يظنون} مبيّنة بجملة {وما لهم بذلك من علم} أواستئناف بياني كأنّ سائلًا حين سَمع قوله: {وما لهم بذلك من علم} سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل.
وجيء بالمضارع في {يظنون} لأنهم يحددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالوا ائْتُوا بِآبائنا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}.
عطف على {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24]. أي عقدوا على عقيدة أن لا حياة بعد الممات استنادًا للأوهام والأقيسة الخيالية.
وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون إن كان البعث حقًا فأتوا بآبائنا إن صدقتم.
فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده.
وفي قوله: {ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا} تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة. والمصيرِ إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث.
والخطاب بفعل {ائتوا} مُوجّهٌ للمؤمنين بدخو ل الرسول صلى الله عليه وسلم و{إلا أن قالوا} استثناء من حجتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة إذ هو بالبهتان أشبه فإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قرأكم ** قبيل الصبح مِرْداة طحونَا

فسمى القتل قرى. وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله: {إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا} استثناء متصلًا تهكمًا. وإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم وتقديرهم دونَ قَصد تهكّم بهم. أي أتوا بما توهموه حجّة فيكون الإطلاق استعارة صورية والاستثناء على هذا متصل أيضًا.
وإما أن يكون الإطلاق استعارة بعلاقة الضدية فيكون مجازًا مرسلًا بتنزيل التضاد منزلة التناسب على قصد التهكم فيكون المعنى أن لا حجة لهم البتة إذ لا حجة لهم إلا هذه. وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل أن لا حجة لهم بطريق التمليح والكناية كَقول جِرَاننِ العَوْدِ:
وبلدةٍ ليس بها أنيس ** إلا اليَعافيرُ وإلا العِيس

أي لا أنس بها البتة.
ويقدر قوله: {أن قالوا ائتوا بآبائنا} في محل رفع بالاستثناء المفرغ على الاعتبارات الثلاثة فهو اسم {كان} و{حجتهم} خبرها لأن حجتهم منصوب في قراءة جميع القراءات المشهورة.
وتقديم خبر {كان} على اسمها لأن اسمها محصور بـ {إلاّ} فحقه التأخير عن الخبر.
(26) {صادقين قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ ولكن أَكْثَرَ الناس}.
تلقين لإبطال قولهم {وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] يتضمن إبطال قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونَحْيا} [الجاثية: 24].
والمقصود منه قوله: {ثم يميتكم} وإنما قدم عليه {يحييكم} توطئة له. أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر. فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو {يحييكم ثم يميتكم} يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم. إن الدهر هو الذي يميتهم.
وقوله: {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة} إبطال لقولهم: {ما هي إلا حياتنا الدنيا} [الجاثية: 24] وليس هو إبطالًا بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة.
وقوله: {لا ريب فيه} حال من {يوم القيامة}. أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات. ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تُفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق. وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه.
فكان الشك فيه جديرًا بالاقتلاع فكأنه معدوم.
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان «ليسوا بشيء» مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} في سورة البقرة (2).
وعُطف {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} على قوله: {لا ريب فيه} أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ولتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر. وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف.
وقوله: {بأمره} أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك. والابتغاء من فضل الله: هو بالتجارة في الأغلب. وكذلك مقاصد البر من حج أوجهاد هي أيضًا ابتغاء فضل. والتصير فيه هو ابتغاء فضل. وتسخير {ما في السماوات}: هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله. ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفًا. فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف: لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف. وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك. ومعنى قوله: {جميعًا منه} قال ابن عباس: كل إنعام فهو من الله تعالى.
وقرأ جمهور الناس: {منه} وهو وقف جيد. وقرأ مسلمة بن محارب: {مَنُّه} بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير: هو منه. وقرأ ابن عباس: بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم. وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير. وقرأ مسلمة بن محارب أيضًا: {مِنةٌ} بكسر الميم وبالرفع في التاء.