فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن مردويه وأبونعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم بعث الحفظة على آدم عليه السلام وذريته فالحفظة ينسخون من الذكر ما يعمل العباد. ثم قرأ {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} قال: إن الله وكل ملائكة ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المستقبلة. فيعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقًا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا} قال: تركتم ذكري وطاعتي فكذا أترككم {كما نسيتم لقاء يومكم هذا} قال: تركتم ذكري وطاعتي. فكذا تركتم في النار.
وأخرج ابن عساكر عن عمر بن ذر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما قعد قوم يذكرون الله إلا قعد معهم عددهم من الملائكة. فإذا حمدوا الله حمدوه. وإن سبحوا الله سبحوه. وإن كبروا الله كبروه. وإن استغفروا الله آمنوا. ثم عرجوا إلى ربهم فيسألهم. فقالوا: ربنا عبيد لك في الأرض ذكروك فذكرناك. قال: ماذا قالوا؟ قالوا: ربنا حمدوك فقال: أول من عبد واخر من حمد. قالوا: وسبحوك. قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري قالوا: ربنا كبروك. قال: لي الكبرياء في السموات والأرض وأنا العزيز الحكيم. قالوا: ربنا استغفروك. قال: أشهدكم أني قد غفرت لهم».
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه أن لله ثلاثة أثواب: اتزر بالعزة. وتسربل الرحمة. وارتدى بالكبرياء فمن تعزز بغير ما أعز الله فذلك الذي يقال له {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] ومن رحم رحمه الله. ومن تكبر فقد نازع الله الذي ينبغي له. فإنه تبارك وتعالى يقول: لا ينبغي لمن نازعني أن أدخله الجنة.
وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبوداود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار» والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}.
عندما يركبون البحرَ فلربما تَسْلَمُ السفينةُ ولربما تغرق.
وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير. تمشي به رياح العناية. وأَشْرِعَةُ التوكل مرفوعةٌ. والسُّبُلُ في بحر اليقين واضحة. وطالما تهب رياحُ السلامة فالسفينةُ ناجيةٌ. أمَّا إنْ هبَّت نكباتُ الفتنةِ فعندئذٍ لا يبْقى بيد الملاَّحِ شيءٌ. والمقاديرُ غالبةٌ. وسرعان ما تبلغ قلوبُ أهلِ السفينةِ الحناجرَ.
قوله جلّ ذكره: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{جَمِيعًا مِّنْهُ}: كلُّ ماخَلَقَ من وجوه الأنتفاع بها- كلُّه منه سبحانه؛ فما من شيءٍ من الأعيان الظاهرة إلاّ- ومن وجهٍ- للأنسان به انتفاع وكلها منه سبحانه؛ فالسماءُ لهم بناء. ولارضُ لهم مهاد إلى غير ذلك. ومِنَ الغَبْنِ أن يستسخرَك ما هو مسخَّرٌ لك! وليتأملْ العبدُ كلَّ شيءٍ.. كيف إنْ كان خَلَلٌ في شيءٍ منها ماذا يمكن أن يكون؟! فلولا الشمسُ.. كيف كان يمكن أن يتصرَّف في النهار؟ ولم لم يكن الليلُ كيف كان يسكن بالليل.؟ ولولم يكن القمر.. كيف كان يهتدي إلا الحساب والآجال؟... إلى غير ذلك من جميع المخلوقات.
قوله جلّ ذكره: {قُل لّلَّذِينَ ءَآمنوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
نَدَبَهم إلى حُسْنِ الخُلق. وجميلِ العِشْرَة. والتجاوزِ عن الجهل. والتنقي من كدورات البشرية. ومقتضياتِ الشُّحِّ.
وَبيَّنَ أَنَّ اللَّهِ- سبحانه- لا يفوته أحدٌ. فَمَنْ أراد أَنْ يعرِفَ كيف يحفظ أولياءَه. وكيف يُدَمِّر أعداءَه. فَلْيَصبِرْ أيامًا قلائلَ لَيَعْلَمَ كيف صارت عواقبُهم.
قوله جلّ ذكره: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
مَنْ عَمِلَ صَالحًا فله مَهْناه. ومن ارتكب سيئةً قاسى بلواه ثم مرجعه إلى مو لاه.
قوله جلّ ذكره: {ولقد ءَآتَيْنَا بَنِى إِسْرائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ والنُّبُوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِبّاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
كَرَّر في غير موضع ذِكْرِ موسى وذِكْرَ بني إسرائيل بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل. وهنا أجْمَلَ في هذا الموضِع. ثم عقبه حديث نبيِّنا صلى الله عليه وسلم. فقال:
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهواءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}.
إفردناك بلطائفَ فاعرفْها. وسَنَنَّا لكَ طرائقَ فاسلُكْها. وأثبتنا لك حقائقَ فلا تتجاوزْها. ولا تجنحْ إلى متابعة غيرك:
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}.
إن أرادَ بكَ نعمةً فلا يمنعها أحدٌ. وإن أراد بك فتنةً فلا يَصْرِفها عنك أحدٌ. فلا تُعَلِّقْ بمخلوقٍ فكْرَك. ولاتتوجهْ بضميرك إلى شيء. وثِقْ بربِّك. وتوكَّلْ عليه.
قوله جلّ ذكره: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
أنوارُ البصيرةِ إذا تلألأتْ انكشفت دونها تهمةُ التجويز.
وَنَظَرُ الناسِ على مراتب: فمِنْ ناظرٍ بنور نجومه- وهو صاحب عقل. ومن ناظرٍ بنوفراسته وهو صاحب ظنِّ يُقَوِّيه لَوْحٌ- ولكنه من وراء السَّرِّ. ومن ناظرٍ بيقين عِلْم بحكم برهانٍ وشَرْطِ فكْرٍ. ومِنْ ناظرٍ بعين إيمان بوصف اتَّباع. ومن ناظرٍ بنور بصيرةٍ هو على نهار. وشمسُه طالعة وسماؤه من السحاب مصحية.
قوله جلّ ذكره: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السِّيِئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَآمنوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
أَمَنْ خفضناه في حضيض الضَّعةِ كَمَنْ رفعناه إلى أعالي المَنَعَة؟
أَمَن ْأخذنا بيده ورحمناه كَمَنْ داسَه الخذلان فرجمناه.؟
أَمَنْ وهبناه بَسْطَ وقتٍ وأُنْسَ حالٍ ورَوْحَ لُطْفٍ حتى خَصَصْناه ورَقَيْنَاه. ثم قَرَّبْناه وأَدْنَيَْناه كَمَنْ ترك جُدَه واستفراغَ وسعه وإسبالَ دَمْعِه واحتراق قلبه فما أنعشناه.
قوله جلّ ذكره: {أَفَرَءَيْتَ مِنَ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هواه وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}.
مَنْ لم يَسْلُكْ سبيلَ الاتباع. ولم يستوفِ أحكامَ الرياضة. ولم يَنْسلِخْ عن هواه بالكليَّة. ولم يؤدَّبْه إمامٌ مُقْتَدَى فهو ينجرفُ في كل وَهَدَةٍ. ويهيمُ في كلِّ ضلالة. ويضلُّ في كل فجِّ. خسرانُه أكثر من ربْحِه!! أولئك في ضلالٍ بعيد؛ يعملون القُرَبَ على ما يقع لهم من نشاطِ نفوسهم. زمامُهم بيد هواهم. أولئك أهل المكر اسْتدْرِجُوا وما يَشْعُرون!.
قوله جلّ ذكره: {وَقالواْ مَا هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}.
لم يَعْتَبِروا بما اوجدوا عليه خَلَفَهم وسَلفَهم. وأَزْجَوْا في البهيمية عَيْشَهم وعُمْرَهم. وأعفوا عن كَدِّ الفكرة قلوبهم فلا بالعلم استبصروا. ولا من التحقيق استمدوا. رأسُ مالِهم الظنُّ- وهم غافلون.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالوا ائْتُوا بِآبائنا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}.
طلبوا إحياءَ موتاهم. وسوف يَرَوْن ما استبعدوا.
ثم أخبر أنَّ مُلْكَ السمواتِ والأرضِ لله. وإذا أقام القيامةَ يُحْشَرُ أصحابُ البطلأن. فإذا جاءهم يومُ الخصام.
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}.
كلٌّ بحسابه مطالَبٌ فأمَّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا. وأمَّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا.. ويقال لهم: أأنتم الذين إذا قيل لكم حديثُ عُقباكم كّذَّبتم مو لاكم؟ فاليومَ- كما نسيتمونا- ننساكم. والنارُ مأواكم.
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)}.
لله الحمدُ على ما يُبْدي ويُنْشي. ويحيي ويُفْني. ويُجْرِي ويُمْضِي.. إذ الحكْمُ لله. والكبرياءُ لله. والعظمةُ والسَّناءُ لله. والرفعة والبهاءُ لله. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمنوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قال: نَسَخَهَا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْت مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هواه} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هواه} قال: (لَا يَهوى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ. لَا يَخَافُ اللَّهَ) قال أَبُوبَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْهوى إلَهٌ يُعْبَدُ. وَتَلَا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هواه} يَعْنِي يُطِيعُهُ كَطَاعَةِ الْإِلَهِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: (كَانُوا يَعْبُدُونَ الْعُزَّى وهو حَجَرٌ أَبْيَضُ حِينًا مِنْ الدَّهْرِ. فَإِذَا وَجَدُوا مَا هو أَحْسَنُ مِنْهُ طَرَحُوا الأول وَعَبَدُوا الآخر) وَقال الْحَسَنُ: (اتَّخَذَ إلَهَهُ هواه يَعْنِي لَا يَعْرِفُ إلَهَهُ بِحُجَّةِ عَقْلِهِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِهواهُ).
قوله تعالى: {وَقالوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} قِيلَ هو على التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ. وَقِيلَ: نَمُوتُ وَيَحْيَا أولادُنَا. كَمَا يُقال: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ ابْنًا مِثْلَ فلان.
وَقوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} قال: (قال ذَلِكَ مُشْركُو قُرَيْشٍ. قالوا: مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ. يَقولونَ: إلَّا الْعُمُرُ) قال أَبُوبَكْرٍ: هَذَا قول زَنَادِقَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ. وَأَنَّ الزَّمَانَ وَمُضِيَّ الْأَوْقَاتِ هو الذِي يُحْدِثُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ.
وَالدَّهْرُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى زَمَانِ الْعُمُرِ كَمَا قال قَتَادَةُ. يُقال: فلان يَصُومُ الدَّهْرَ. يَعْنُونَ عُمْرَهُ كُلَّهُ ولذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا: إنَّ مِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فلانا الدَّهْرَ أَنَّهُ عَلَى عُمُرِهِ كُلِّهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قوله: (وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْأَبَدَ) وَأَمَّا قوله: (لَا أُكَلِّمُك دَهْرًا) فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. ولم يَعْرِفْ أبو حنِيفَةَ مَعْنَى دَهْرًا فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ بِشَيْءٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هو الدَّهْرُ». فَتَأولهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَنْسِبُونَ الْحَوَادِثَ الْمُجْحِفَةَ وَالْبَلَايَا النَّازِلَةَ وَالْمَصَائِبَ الْمُتْلِفَةَ إلَى الدَّهْرِ. فَيَقولونَ فَعَلَ الدَّهْرُ بِنَا وَصَنَعَ بِنَا. وَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ كَمَا قَدْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِأَنْ يَقولوا: أَسَاءَ بِنَا الدَّهْرُ. وَنَحْوذَلِكَ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ اللَّهَ هو فَاعِلُهَا وَمُحْدِثُهَا».
وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُودَاوُد قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَقول اللَّهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدم يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرَ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» قال ابْنُ السَّرْحِ: عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مَكَانَ سَعِيدٍ فَقوله: «وَأَنَا الدَّهْرَ» مَنْصُوبٌ بِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ. كَقوله تعالى: أَنَا أَبَدًا بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَكَقول الْقَائِلِ: أَنَا الْيَوْمَ بِيَدِي الْأَمْرُ أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ولوكَانَ مَرْفُوعًا كَانَ الدَّهْرُ اسْمًا لِلَّهِ- تعالى- وليس كَذَلِكَ؛ لأن أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُسَمِّي اللَّهَ بِهَذَا الِاسْمِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ يَقول: لَا يَقولنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ. فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرَ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا» فَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَنَقَلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَقال: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هو الدَّهْرَ» وَأَمَّا قوله فِي الْحَدِيثِ الأول: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدم يَسُبُّ الدَّهْرَ» فَإِنَّ اللَّهَ- تعالى- لَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى ولا الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ. وَإِنَّمَا هو مَجَازٌ مَعْنَاهُ: يُؤْذِي أوليَائِي؛ لأنهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هو الفَاعِلُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْسُبُهَا الْجُهَّالُ إلَى الدَّهْرِ. فَيَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ كَمَا يَتَأَذَّوْنَ بِسَمَاعِ سَائِرِ ضُرُوبِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ. وهو كَقوله: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورسولهُ} وَمَعْنَاهُ: يُؤْذُونَ أوليَاءَ اللَّهِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الْجَاثِيَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيات:

.الآية الأولى: قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمنوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}:

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى فِي سَبَبِ نزولها:
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الآية.
وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا:
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ. وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمنوا اغْفِرُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ. عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ. وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بآيات الْقِتَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ القرآن.