فصل: الآية الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

المسألة الأولى:
الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ. ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ. وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ. وَحُسْنِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ:
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الأول: أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ السُّنَّةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْفَرَائِضُ.
الرَّابِعُ: النِّيَّةُ.
وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ. وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ. كَقوله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}.
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ. وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا. وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الدِّينِ. وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ. كَمَا قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}.
ولا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ. وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الآية دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا؛ لأن اللَّهَ تعالى أَفْرَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الآية بِشَرِيعَةٍ؛ ولا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ. هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟ ولا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ. لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَيَانِ.

.الآية الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}:

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قوله: {اجْتَرَحُوا} مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنْ الْجُرْحِ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا. وهو من بَدِيعِ الْأَمْثَالِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الآية فِي قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله: {تَنزِيلُ}:
قد تقدَّم مثلُه أول غافر. وقال أبو عبدِ الله الرازيُّ: (العزيزِ الحكيمِ إنْ كانا صفةً لله كان حقيقةً. وإنْ كانا صفةً للكتاب كان مجازًا). وقد رَدَّ عليه الشيخ جَعْلَه إياهما صفةً للكتاب قال: (إذ لوكان كذلك لَو ليَتِ الصفةُ موصوفَها فكان يُقال: تَنزيلُ الكتابِ العزيزِ الحكيمِ من الله) قال: لأن {من الله} إنْ تَعَلَّقَ بـ: {تَنْزيل} وتنزيل خبرٌ لـ: حم أولمبتدأ محذوفٍ لَزِمَ الفَصْلُ به بين الصفة والموصوف. ولا يجوزُ. كما لا يجوزُ: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ بسوطٍ الفاضلِ؛ أو في موضع الخبر. و{تنزيلُ} مبتدأ. فلا يجوز الفصْلُ به أيضًا لا يجوز: ضرْبُ زيدٍ شديدٌ الفاضلِ.
{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}.
قوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ}: فيه وجهان. أظهرهما: أنه معطوفٌ على {خَلْقِكم} المجرورِ بـ: {في} والتقديرُ: وفي ما يَبُثُّ. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق. وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو: (مررتُ بك أنت وزيدٍ) يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول: إن أُكِّد جازَ. وإلاَّ فلا. فقوله مذهبٌ ثالثٌ.
قوله: {آيات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و{آيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرأ {آيات} بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان. والباقون برفعهما. ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ {إنَّ}. فأمَّا {آيات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالكسر فيجوزُ فيها وجهان. أحدهما: أنها معطوفةٌ على اسم (إن). والخبرُ قوله: {وفي خَلْقِكم}. كأنه قيل: وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آيات. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيدًا لآيات الأولى. ويكونُ {في خَلْقكم} معطوفًا على {في السماوات} كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيدًا. ونظيرُه أَنْ تقول: (إنَّ في بيتك زيدًا وفي السوق زيدًا) فزيدًا الثاني تأكيدٌ للأول. كأنك قلت: إنَّ زيدًا زيدًا في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولي عاملَيْن البتةَ.
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال: {آيات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُقرأ بكسر التاءِ. وفيه وجهان. أحدهما: أنَّ (إن) مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة (إن) الأولى عليها. وليستْ {آيات} معطوفةً على {آيات} الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولي عامليْن. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ {آيات} الأولى. وإعرابُها كقولك: (إن بثوبك دمًا وبثوبِ زيد دمًا) فـ: (دم) الثاني مكررٌ؛ لأنك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه. انتهى.
فقوله: وليستْ معطوفةً على {آيات} الأولى لِما فيه من العطفِ على {عامِلَيْن} وَهَمٌ؛ أين معمول العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ {في} ساقطةٌ مِنْ قوله: {وفي خَلْقِكم} أواختلطَتْ عليه {آيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بهذه؛ لأن تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضًا.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضًا. أحدهما: أَنْ يكونَ {في خَلْقِكم} خبرًا مقدَّمًا. و{آيات} مبتدًا مؤخرًا. وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ. بـ: {إنَّ}. والثاني: أَنْ تكون معطوفةً على {آيات} الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك. لاسيما عند مَنْ يقول: إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ.
وأمَّا قوله: {واختلاف الليل والنهار} الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن {آيات} بالكسرِ. وهي تحتاج إلى إيضاحٍ. فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلامًا كثيرًا. وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ. وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين.
قلت: والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءة الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضًا بقراءة الباقين. كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فأما قراءة الأخوين ففيها أوجهٌ. أحدُها: أن يكونَ {اختلافِ الليلِ} مجرورًا بـ: {في} مضمرةً. وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ. وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه. وأنشَدَ سيبويه:
الأن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا ** فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ

تقديرُه: وبالأيام لتقدُّم الباءِ في (بك) ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه- كما عَرَفْتَ- العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ. فالتقديرُ في هذه الآية: {وفي اختلافِ آيات} فـ: {آيات} على ما تقدَّم من الوجهين في {آيات} قبلَها: العطفِ أو التأكيدِ. قالوا: ويَدُلُّ على ذلك قراءة عبد الله {وفي اختلافِ} تصريحًا بـ: {في}. فهذان وجهان.
الثالث: أَنْ يُعْطَفَ {اختلافِ} على المجرورِ بـ: {في} وآيات على المنصوبِ بـ: {إنَّ}. وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ. وتحقيقُه على معمولي عاملين: وذلك أنَّك عَطَفْتَ {اختلاف} على خَلْق وهو مجرورٌ بـ: {في} فهو معمول عاملٍ. وعَطَفْتَ {آيات} على اسمِ (إن) وهو معمول عاملٍ آخر. فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الوأو معمولين وهما {اختلاف} و{آيات} على معمولين قبلَهما وهما: خَلْق وآيات. وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ. وفي المسألة أربعةُ مذاهب: المَنْعُ مطلقًا. وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين. قالوا: لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لوجاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ. ولا قائل به. ولأن حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأن القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه. والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ. فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ. ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد. وهو غيرُ جائزٍ.
قال ابن السراج: العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ. غيرُ مَسْموع من العرب. ثم حَمَل ما في هذه الآية على التكرارِ للتأكيد. قال الرمَّاني: هوكقولك: (إنَّ في الدارِ زيدًا والبيتِ زيدًا) فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جدًّا. لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه. وقد بَيَّنْتُ القراءة بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ. والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه. فقد تناهى في العيب. فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآية إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه.
قلت: وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآية تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها. وقال الزجاج: ومثلُه في الشعر:
أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرًَا ** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا

وأنشد الفارسيُّ للفرزدق:
وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه ** وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق

وقول الآخر:
أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْبًا حُرًَّا ** بالكلبِ خيرًا والحَماةِ شَرا

قلت: أمَّا البيتُ الأول فظاهرُه أنه عَطَفَ و(نارٍ) على (امرئ) المخفوض بـ: (كل) و(نارًا) الثانية على (امرَأ) الثاني. والتقدير: وتحسبين كلَّ نارٍ نارًا. فقد عطف على معمولي عاملَيْن. والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه (جَنْبَيْه) على (بلبانه) وعَطَفَ (حَرَّ النارِ) على (الصلا). والتقدير: وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار. والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه (الحَماة) على (الكلب) و(شَرًّا) على (خيرًا). تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شرًا. وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض: بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمرًا ضعيفٌ جدًّا. ألا ترى أنَّه لا يجوزُ (مررتُ زيدٍ) بخفضِ (زيد) إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ** أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ

يريد: إلى كليب. وقول الآخر:
......................... ** حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ

أي إلى الأعلام. فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه. وأُجيب عن ذلك: بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه. فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أو ردْتموه في المثالِ والشعر.
والمذهب الثاني: التفصيلُ- وهو مذهب الأخفش- وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ. أحدُهما: أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا. والثاني: أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يفْصَلَ بلا. مثالُ الأول الآية الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها. ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآية. ومثالُ الفَصْل بـ: لا قولك: (ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمرو). فلوفُقِدَ الشرطانِ نحو: إنَّ زيدًا شَتَمَ بِشْرًا. وواللَّهِ خالدًا هندًا. أوفُقِدَ أحدُهما نحو: إنَّ زيدًا ضربَ بَكْرًا. وخالدًا بشرًا. فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ. وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ.
الثالث: أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارًَّا. وأَنْ يكونَ متقدمًا. نحوالآية الكريمةِ. فلولم يتقدَّمْ نحو: (إنَّ زيدًا في الدار. وعمرًا السوقِ) لم يَجُزْ. وكذا لولم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه.
الرابع: الجوازُ. ويُعْزَى للفَرَّاء.
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءة المذكورة: أَنْ تنتصِبَ {آيات} على الاختصاصِ.
قاله الزمخشريُّ. وسيأتي فيما أَحْكيه عنه.
وأمَّا قراءة الرفعِ ففيها أوجهٌ. أحدُها: أَنْ يكونَ الأول والثاني ما تقدَّم في {آيات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. الثالث: أَنْ تكونَ تأكيدًا لآيات التي قبلها. كما كانَتْ كذلك في قراءة النصبِ. الرابع: أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ {اختلافِ} عطفٌ على {خَلْقِكم} وهو معمول لـ: {في} و{آيات} معطوفةٌ على {آيات} قبلَها. وهي معمو لةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولي عامِلَيْنِ في هذه القراءة أيضًا. قال الزمخشري: قرئ {آيات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصبِ على قولك: (إنَّ زيدًا في الدار وعمرًا في السوقِ. أو وعمرو في السوق). وأمَّا قوله: {آيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما: (إنَّ). و(في) أُقيمت الواو مقامهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و{واختلاف اليل والنهار} والنصبَ في {آيات}. وإذا رَفَعْتَ فالعاملان: الابتداءُ. و{في} عملت الرفع في {آيات} والجرَّ في {اختلاف}. ثم قال في توجيهِ النصبِ: والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور.
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ {آيات} على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي آيات. وناقَشَه الشيخُ فقال: (ونسبةُ الجرِّ والرفعِ. والجرِّ والنصبِ للواوليس بصحيحٍ؛ لأن الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ) قلت: وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبوشامةَ أيضًا فقال: فمنهم مَنْ يقول: هو على هذه القراءة أيضًا- يعني قراءة الرفعِ- عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ {في}. والابتداءُ المقتضي للرفعِ. ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءة؛ لأن الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي.
وقرئ {واختلافُ} بالرفعِ {آية} بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر. وكذلك قرئ {وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٌ آية} بالتوحيد. وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى {وتصريف الريح} كذا قال الشيخ. قلت وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضًا. وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ.
{تِلْكَ آيات اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآياته يُؤْمِنُونَ (6)}.
قوله: {نَتْلُوهَا}: يجوز أَنْ يكونَ خبرًا لـ: {تلك} و{آيات الله} بدلٌ أو عطفُ بيانٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ {تلك آيات} مبتدًا أو خبرا. و{نَتْلُوها} حالٌ. قال الزمخشري: والعاملُ ما دَلَّ عليه {تلك} مِنْ معنى الإِشارةِ ونحوُه: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. قال الشيخ: وليس نحوَه؛ لأن في {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] حرفَ تنبيه. وقيل: العاملُ في الحالِ ما دَل عليه حرفُ التنبيهِ أي: تَنَبَّهْ. وأمَّا {تلك} فليس فيها حرفُ تنبيهٍ؛ فإذا كان حرفُ التنبيهِ عاملًا بما فيه مِنْ معنى التنبيهِ. لأن الحرفَ قد يَعْمَلُ في الحال. فالمعنى: تَنَبَّه لزيدٍ في حال شيخِه أو في حال قيامِه. وقيل: العاملُ في مثل هذا التركيبِ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى. أي: انظرْ إليه في حالِ شيخه. ولا يكون اسمُ الإِشارةِ عاملًا ولا حرفُ التنبيهِ إنْ كان هناك.
قلت: بل الآية نحو {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] من حيثيةِ نسبةِ العملِ لاسمِ الإِشارةِ. غايةُ ما ثَمَّ أنَّ في الآية الآخرى ما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ عاملًا. وهذا لا يَقْدَحُ في التنظيرِ إذا قَصَدْتَ جهةً مشتركةً. وأمَّا إضمارُ الفعلِ فهو مشتركٌ في الموضعَيْن عند مَنْ يَرَى ذلك. قال ابنُ عطيَة: وفي {نتْلوها} حَذْفُ مضافٍ أي: نَتْلُوشَأْنَها وشَرْحَ العِبْرَةِ فيها. ويُحتمل أَنْ يريدَ بآيات الله القرآن المنزَّلَ في هذا المعنى. فلا يكونُ فيها حَذْفُ مضافٍ. وقرأ بعضُهم {يَتْلوها} بياءِ الغَيْبةِ عائدًا على الباري تعالى. و{بالحَقِّ} حالٌ من الفاعل أي: مُلْتَبسِينَ بالحق. ومن المفعول أي: مُلْتَبسةً بالحقِّ. ويجوزُ أَنْ تكونَ للسببيَّةِ فتتعلَّقَ بنفس {نَتْلوها}.
قوله: {بَعْدَ الله وآياته}. قال الزمخشريُّ: أي: بعد آيات اللَّهِ فهو كقولكَ: أَعْجبني زيدٌ وكرمُه تريدُ كرمَ زيدٍ. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه ليس مُرادًا. بل المرادُ إعجابان. وبأنَّ فيه إقحامَ الأسماءِ مِنْ غيرِ ضرورة. قال: وهذا قَلْبٌ لحقائقِ النحو.
وقرأ الحرميَّان وأبو عمرو وعاصمٌ في روايةٍ {يُؤْمنون} بياء الغيبة. والباقون بتاءِ الخطاب.
وقوله: {فبأيِّ} متعلِّقٌ به. قُدِّم لأن له صدرَ الكلامِ.
{يَسْمَعُ آيات اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}.
قوله: {يَسْمَعُ}: يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مستأنفًا أي: هو يَسْمَعُ. أودونَ إضمارِ {هو}. وأَنْ يكونَ حالًا من الضمير في {أثيم} وأَنْ يكونَ صفةً.
قوله: {تُتْلَى عليه} حالٌ مِنْ {آيات الله} ولا يَجيْءُ فيه الخلافُ: وهو أنه يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولا ثانيًا؛ لأن شرطَ ذلك أَنْ يقعَ بعدها ما لا يُسْمَعُ نحو: (سمعت زيدًا يقرأ). أمَّا إذا وقع بعدها ما يُسْمَعُ نحو: (سمعتُ قراءة زيدٍ يترنَّم بها) فهي متعدية لواحدٍ فقط. والآيات مِمَّا يُسْمَعُ.
قوله: (ثم يُصِرُّ) قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما معنى (ثم) في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا}؟ قلت: كمعناه في قول القائل:
............................ ** يرى غَمَراتِ الموتِ ثم يزورُها

وذلك أنَّ غمراتِ الموتِ حقيقةٌ بأَنْ ينجورائيها بنفسِه ويطلبَ الفِرارَ منها. وأمَّا زَوْراتُها والإِقدامُ على مزاو لتِها فأمرٌ مُسْتَبْعَدٌ. فمعنى (ثم) الإِيذانُ بأنَّ فِعْلَ المُقْدِمِ عليها بعدما راها وعاينها شيءٌ يُسْتَبْعَدُ في العاداتِ والطباعِ. وكذلك آيات اللَّهِ الواضحةُ الناطقةُ بالحق. فَمَنْ تُلِيَتْ عليه وسَمِعها كان مُسْتَبْعَدًا في القول إصرارُه على الضلالةِ عندها واستكبارُه عن الإِيمان بها.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً. وأَنْ تكونَ حالًا.