فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإجراء وصفي {الغفور الرحيم} عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله: {كفى به شهيدًا بيني وبينكم} من التهديد والوعيد. وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم}.
الكلامُ فيه كالذي مرَّ في مطلعِ السورةِ السابقةِ.
{مَا خَلَقْنَا السموات والأرض} بما فيهما من حيثُ الجزئيةُ منهما ومن حيثُ الاستقرار فيهما.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقاتِ {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعمِّ المفاعيلِ. أي إلاَّ خلقًا مُلتبسًا بالحقِّ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التكوينيةُ والتشريعيةُ. أو من أعمِّ الأحوالِ من فاعلِ خلقنا أو من مفعوله أي ما خلقنَاها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِنا بالحقِّ أو حال ملابستِها به. وفيهِ من الدلالةِ على وجودِ الصَّانعِ تعالى وصفاتِ كمالِه وابتناءِ أفعالِه على حِكمٍ بالغةٍ وانتهائِها إلى غاياتٍ جليلةٍ ما لا يَخْفِى.
{وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على الحقِّ بتقديرِ مضافٍ أي وبتقديرِ أجلٍ مُسمَّى ينتهي إليهِ أمرُ الكلِّ وهو يوم القيامةِ يومَ تُبدلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمواتُ وبرزوا لله الواحدِ القهارِ. وقيلَ: هو اخرُ مُدةِ البقاءِ المقدرِ لكلِّ واحدٍ. ويأباهُ قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} فإنَّ ما أُنذروه يومُ القيامةِ وما فيهِ من الطامَّةِ التَّامَّةِ والأهوالِ العامةِ لا آخر أعمارِهم وقد جُوِّزَ كونُ ما مصدريةً. والجملةُ حاليةٌ. أي ما خلقنا الخلقَ إلا بالحقِّ وتقديرِ الأجلِ الذي يُجازونَ عندَهْ. والحالُ أنَّهم غيرُ مؤمنينَ به معرضونَ عنه وعن الاستعدادِ له.
{قُلْ} توبيخًا لهم وتبكيتًا {أَرَءيْتُمْ} أخبرُوني. وقرئ {أرأيتَكُم}.
{مَا تَدَّعُونَ} ما تعبدونَ {مِن دُونِ الله} منَ الأصنامِ {أَرُونِىَ} تأكيدٌ لأرأيتُم.
{مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} بيانُ للإبهامِ في ماذَا {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي شرْكةٌ معَ الله تعالى.
{فِى السموات} أي في خلقِها أو ملكِها وتدبيرِها حتَّى يُتوهم أن يكونَ لهم شائبةُ استحقاقٍ للمعبوديةِ فإنَّ ما لا مدخلَ له في وجودِ شيءٍ من الأشيئاءِ بوجهٍ من الوجوهِ فهو بمعزلٍ منْ ذلكَ الاستحقاقِ بالمرَّةِ وإِنْ كانَ منَ الأحياءِ العُقلاءِ فَما ظنُّكم بالجمادِ.
وقوله تعالى: {ائتونى بكتاب} الخ. تبكيتٌ لهم بتعجيزِهم عن الإتيانِ بسندٍ نقليَ بعد تبكيتِهم بالتعجيزِ عن الإتيانِ بسندٍ عقليَ أي ائتونِي بكتابٍ إلهيَ كائنٍ {مّن قَبْلِ هذا} الكتابِ أي القرآن الناطقِ بالتَّوحيدِ وإبطالِ الشركِ دالٍ على صحةِ دينِكم {أو أثارة مّنْ عِلْمٍ} أوبقيةٍ من علمٍ بقيتْ عليكُم من علومِ الأولين شاهدةٍ باستحقاِقهم للعبادِة {إِن كُنتُمْ صادقين} في دَعْواكُم فإنَّها لا تكادُ تَصحُّ ما لم يقُم عليها برهانٌ عقليٌّ أوسلطانٌ نقليٌّ. وحيثُ لَم يقُمْ عليها شيءٌ منهُمَا وقد قامتْ على خلافِها أدلةُ العقلِ والنقلِ تبينَ بطلانها. وقرئ {إِثَارَةٍ} بكسرِ الهمزةِ أي مناظرةٍ فإنها تُثيرُ المعانيَ. و{أثَرةٍ} أيْ شيءٍ أُوثرتُم بهِ وخُصِصتُم منْ علمٍ مطويَ من غيرِكم. و{إثرة} بالحركات الثلاث مع سكون الثاء. إما المكسورةُ فبمعنى الأثَرةِ. وأمَّا المفتوحةُ فهي المرةُ من أثرَ الحديثَ أي رَواه. وأمَّا المضمومةُ فاسمُ ما يُؤثرُ كالخُطبةِ التي هي اسمُ ما يُخطبُ بهِ.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُومِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ}.
إنكارٌ ونفيٌ لأن يكونَ أحدٌ يُساوي المُشركينَ في الضَّلالِ. وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ لنفي الأضلِ منهم من غيرِ تعرضٍ لنفي المُساوِي كما مرَّ غيرَ مرةٍ أي هُم أضلُّ من كلِّ ضالَ. حيثُ تركُوا عبادةَ خالقِهم السميعِ القادرِ المجيبِ الخبير إلى عبادةِ مصنُوعِهم العارِي عن السمعِ والقدرةِ والاستجابةِ {إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ لنفي الاستجابةِ {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ} الضميرُ الأول لمفعول يدعُو والثانِي لفاعلِه والجمعُ فيهما باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبارِ لفظِها {غافلون} لكونِهم جماداتٍ. وضمائرُ العقلاءِ لإجرائِهم إيَّاها مُجرى العُقلاءِ. ووصفها بما ذُكِرَ منْ تركِ الاستجابةِ والغفلةِ مع ظهورِ حالِها للتهكم بَها وبعبدَتها كقوله تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} الآية.
{وَإِذَا حُشِرَ الناس} عند قيامِ القيامةِ {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} أي مُكذبينَ بلسانِ الحالِ أو المقال. علَى ما يُروى أنَّه تعالى يُحيي الأصنامَ فتتبرأُ عن عبادتِهم. وقد جُوِّزَ أنْ يرادَ بهم كلُّ من يُعبد من دونِ الله من الملائكةِ والجنِّ الإنس وغيرِهم. ويبنَى إرجاعُ الضمائرِ وإسنادُ العداوةِ والكفرِ إليهم على التغليبِ. ويرادُ بذلكَ تبرؤُهم عنهُم وعنْ عبادتِهم. وقيلَ: ضميرُ كانُوا للعبدةِ وذلكَ قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} واضحاتٍ أو مبيناتٍ {قال الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأجلِه وفي شأنِه وهو عبارةٌ عن الآيات المتلوةِ وضعَ موضعَ ضميرِها تنصيصًا على حقِّيتِها و وجوبِ الآيمانِ بَها كما وضعَ الموصول موضعَ ضميرِ المتلوعليهم تسجيلًا عليهم بكمالَ الكفرِ والضلالةِ.
{لَمَّا جَاءهُمْ} أي في أول ما جاءَهُم من غيرِ تدبرٍ وتأملٍ {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ كونُه سحرًا.
{أَمْ يَقولونَ افتراه} إضرابٌ وانتقال من حكايةِ شناعتِهم السابقةِ إلى حكايةِ ما هو أشنعُ منها. وما في أمْ من الهمزةِ للأنكارِ التوبيخيِّ المتضمنِ للتعجيبِ أي بل أيقولونَ افترى القرآن {قُلْ إِنِ افتريته} على الفرضِ {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئًا} إذْ لا ريبَ في أنَّه تعالى يُعاجلني حينئذٍ بالعقوبةِ فكيفَ أجترىءُ على أنْ أفتريَ عليهِ تعالى كذبًا فأُعرّضَ نفسيَ للعقوبةِ التي لا مناصَ عنها {هو أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعونَ فيهِ من القدحِ في وَحي الله والطعنِ في آياته وتسميتِه سحرًا تارةً وفريةً أُخرى {كفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيثُ يشهدُ لي بالصدقِ والبلاغِ وعليكم بالكذبِ والجحودِ وهو وعيدٌ بجراءِ إفاضتِهم.
وقوله تعالى: {وَهوالغفور الرحيم} وعدٌ بالغُفرانِ والرحمةِ لمن تابَ وامنَ. وإشعارٌ بحلمِ الله تعالى عنْهم مع عظمِ جرائمِهم. اهـ.

.تفسير الآيات (9- 12):

قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَو كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقولونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عربيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من أعظم الضلال أن ينسب الإنسان إلى الكذب من غير دليل في شيء لم يبتدعه. بل تقدمه بمثله ناس قد ثبت صدقهم في مثل ذلك ومضت عليه الأزمان وتقرر غاية التقرر في القلوب والأذهان. قال تعالى: {قل} أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء: {ما كنت} أي كونًا ما {بدعًا} أي منشئًا مبتدعًا محدثًا مخترعًا بحيث أكون أجنبيًا منقطعًا {من الرسل} لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به. وهو الحرف الذي طال النزاع بيني وبينكم فيه وعظم الخطب وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله بمثل ما صدقني به. فثبتت بذلك رسالاتهم وسعد بهم من صدقهم من قومهم. وشقي بهم من كذبهم. فانظروا إلى آثارهم. واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشيئاعهم. قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: والبدعة الاسم لما ابتدع وضد البدعة السنة. لأن السنة ما تقدم له إمام. والبدعة ما اخترع على غير مثال. وفي الحديث: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» معناه- والله أعلم- أن يبتدع ما يخالف السنة إذ كانت البدعة ضد السنة. فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه لها ضالًا مشركًا. وكان من أحدث في النار. ولم يدخل تحت هذا ما يخترع الإنسان من أفعال البر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكرنا إن كان له نظير في الأصو ل. وهو الحض على كل أفعال البر ما علم منها وما لم يعلم. فإن أحدث محدث من ذلك شيئًا فكأنه زيادة فيما تقدم من البر وليس بضد لما تقدمه من السنة. بل هو باب من أبوابها. ويقولون: ما فلان ببدع في هذا الأمر أي ليس هو بأول من أصابه ذلك ولكن سبقه غيره أيضًا. قال الشاعر:
ولست ببدع من النائبات ** ونقض الخطوب وإمرارها

ويقال: أبدع بالرجل- إذا كلت راحلته. وأبدعت الركاب إذا كلت وعطبت. وقيل: كل من عطبت ركابه فانقطع به فقد أبدع به. وقال في القاموس: والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعده- صلى الله عليه وسلم- من الأهواء والأعمال. وأبدع بالرجل: عطبت ركابه. وبقي منقطعًا به. وأبدع فلان بفلأن: قطع به وخذله. ولم يقم بحاجته. وحجته بطلت. وقال الصغاني في مجمع البحرين: وشيء بدع- بالكسر أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع. وقوم أبداع. عن الأخفش: والبديع المبتدع والبديع المبتدع أيضًا. وأبدعت حجة فلان- إذا بطلت وأبدعت: أبطلت- يتعدى ولا يتعدى.
ولما أثبت بموافقته- صلى الله عليه وسلم- للرسل أصل الكلام وبقي أن يقال: إن التكذيب في أن الله أرسله به. قام الدليل على صدقه في دعواه. وذلك بأنه مماثل لهم في أصل الخلقة ليس له من ذاته من العلم إلا ما لهم. وليس منهم أحد يصح له حكم على المغيبات. فلولا أن الله أرسله لما صح كل شيء حكم به على المستقبلات ولم يتخلف من ذلك شيء فقال: {وما أدري} أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد {ما} أي الذي {يفعل} أي من أيّ فاعل كان سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أوبواسطة غيره {بي} وأكد النفي ليكون ظاهرًا في الاجتماع وكذلك في الأنفراد أيضًا فقال: {ولا} أي ولا أدري الذي يفعل {بكم} هذا في أصل الخلقة وأنتم ترونني أحكم على نفسي بأشيئاء لا يختل شيء منها مثل أن أقول: إني آتيكم من القرآن بما يعجزكم. فلا تقدرون كلكم على معارضة شيء منه فيضح ذلك على سبيل التكرار لا يتخلف أصلًا. فلولا أن الله أرسلني به لم أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه كلكم. وإن قدرت على شيء كنتم أنتم أقدر مني عليه. وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء. فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي. ولوفعل ذلك لكان عدلًا وحقًا وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله.
ولما سوى نفسه الشريفة بهم في أصل الخلقة. وكان قد ميزه الله عنهم بما خصه من النبوة والرسالة. أبرز له ذلك- سبحانه وتعالى على وجه النتيجة فقال: {إن} أي ما {أتبع} أي- بغاية جهدي وجدي {إلا ما} أي الذي {يوحى} أي يجدد إلقاؤه ممن لا يوحي بحق إلا هو {إليّ} على سبيل التدريج سرًا. لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري. ومنه ما أخبر فيه عن المغيبات فيكون كما قلت. فلا يرتاب في أني لا أقدر على ذلك بنفسي فعلم أنه من الله.
ولما نسبوه إلى الافتراء تارة والجنون أخرى. وكان السبب الأعظم في نسبتهم له إلى ذلك صدعهم بما يسوءهم على غير عادته السالفة وعادة أمثاله. قال على سبيل القصر القلبي: {وما أنا} أي بإخباري لكم عما يوحى إليّ {إلا نذير} أي لكم و لكل من بلغه القرآن {مبين} أي ظاهر أني كذلك في نفسه مظهر له- أي كوني نذيرًا- و لجميع الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية.
ولما أثبت أنه من عند الله بشهادة الله نفسه بعجزهم عن المعارضة. قبح عليهم إصرارهم على التكذيب على تقدير شهادة أحد ممن يثقون بهم يسألونهم عنه من أهل الكتاب فقال تعالى: {قل أرءيتم} أي أخبروني وبينوا لي وأقيموا ولوببعض حجة أوبرهان {إن كان} أي هذا الذي يوحى إليّ واتيكم به وأنذركم وأعلمكم أنه من الله فإنه {من عند الله} أي الملك الأعظم.
ولما كان مقصود السورة إنذار الكافرين الذين لا ينظرون في علم. بل شأنهم تغطية المعارف والعلوم. عطف بالواوالدالة على مطلق الجمع الشامل لمقارنة الأمرين المجموعين من غير مهلة فيدل على الإسراع في الكفر من غير تأمل قال: {وكفرتم به} أي على هذا التقدير {وشهد شاهد} أي واحد وأكثر {من بني إسرائيل} الذين جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم {على مثله} أي مثل ما في القرآن من أن من وحد فقد امن. ومن أشرك فقد كفر. وأن الله أنزل ذلك في التوراة والأنجيل وجميع أسفارهم. فطابقت عليه كتبهم. وتظافرت به رسلهم. وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام. ثم سبب عن شهادته وعقب وفصل فقال: {فآمن} أي هذا الذي شهد هذه الشهادة بهذا القرآن عندما راه مصدقًا لما ذكر وعلم أنه الكتاب الذي بشرت به كتبهم. فاهتدى إلى وضع الشيء في محله فوضعه ولم يستكبر.
ولما كان الحامل لهم بعد هذه الأدلة على التمادي على الكفر إنما هو الشماخة والأنفة قال: {واستكبرتم} أي أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرئاسة والفخر والنفاسة. فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة أصلًا فضللتم فكفرتم فوضعتم الشيء في غير موضعه فانسد عليكم باب الهداية.
ولما كانوا يدعون أنهم أهدى الناس وأعدلهم. وكان من رد شهادة الخالق والخلق ظالمًا شديد الظلم. فكان ضالًا على علم. قال الله تعالى مستأنفًا دالًا على أن تقدير الجواب: أفلم تكونوا بتخلفكم عن الآيمان بعد العلم قد ظلمتم ظلمًا عظيمًا بوضع الكفران موضع الآيمان. فتكونوا ضالين تاركين للطريق الموصل على عمد {إن الله} أي الملك الأعظم ذا العزة والحكمة {لا يهدي القوم} أي الذين لهم قدرة على القيام بما يريدون محأولته {الظالمين} أي الذين من شأنهم وضع الأمور غير مواضعها. فلأجل ذلك لا يهديكم لأنه لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه ضلالكم. أما من كان منكم عالمًا فالأمر فيه واضح. وأما من كان منكم جاهلًا فهو كالعالم لعدم تدبره مثل هذه الأدلة التي ما بين العالم بلسان العرب وبين انكشافها له إلا تدبها مع ترك الهوى. وقال الحسن- كما نقله البغوي- الجواب: فمن أضل منكم كما قال في (فصلت){قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52] فالآية من الاحتباك: ذكر الآيمان أولا دليلًا على ضده ثانيًا. والاستكبار والظلم وعدم الهداية ثانيًا دليلًا على أضدادها أولا. وسره أنه شكر سببي السعادة ترغيبًا وترهيبًا.
ولما دل على أن تركهم للإيمان إنما هو تعمد للظلم استكبارًا. عطف على قولهم {إنه سحر} ما دل على الاستكبار فقال تعالى: {وقال الذين كفروا} أي تعمدوا تغطية الحق {للذين} أي لأجل إيمان الذين {آمنوا} إذ سبقوهم إلى الآيمان: {لوكان} إيمانهم بالقرآن وبهذا الرسول {خيرًا} أي من جملة الخيور {ما سبقونا إليه} ونحن أشرف منهم وأكثر أموالًا وأولادًا وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير فكأن لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها. لكنه ليس بخير. فلذلك سبقوا إليه فكان حالهم فيه حالهم فيما هو محسوس من أمورهم في المال والجاه.
ولما أخبر عما قالوا حين سبقهم غيرهم. أخبر عما يقولون عند تعمد الإعراض عنه فقال: {وإذ} أي وحين {لم يهتدوا به} يقولون عنادًا وتكبرًا وكفرًا: لوكان هدى لأبصرناه ولم يعلموا أنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
ولما كان التقدير: فإن قيل لهم: فما هو؟ أجابه بقوله مسببًا عن هذا المقدر علمًا من أعلام النبوة: {فسيقولون} بوعد لا خلف فيه لأن الناس أعداء ما جهلوا ولأنهم لم يجدوا على ما يدعونه من أنه لوكان خيرًا لسبقوا غيرهم إليه دليلًا: {هذا} أي الذي سبقتم إليه {إفك} أي شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه {قديم} أفكه غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله.
ولما كان هذا الكلام ساقطًا في نفسه لما قام من الأدلة الباهرة على صدق القرآن وكان الوقوف مع المحسوسات غالبًا عليهم لعدم نفوذهم في المعقولات. دل على بطلأنه لموافقة القرآن لأعظم الكتب القديمة التوراة التي اشتهر أنها من عند الله وأن الاتي بها كلم وقد صدقه الله في الإتيان بها بما لم يأت به قبله من المعجزات والآيات البينات وهم يستفتون أهلها. فقال على وجه التبكيت لهم والتوبيخ: {ومن} أي قالوا ذلك والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من {قبله} أي القرآن العظيم الذي حرموا تدبر آياته وحل مشكلاته وأعجزهم فصاحته {كتاب موسى} كلم الله وصفوته عليه الصلاة والسلام وهو التوراة التي كلمه الله بها تكليمًا حال كون كتابه {إمامًا} أي يستحق أن يؤمه كل من سمع به في أصو ل الدين مطلقًا وفي جميع ما فيه قبل تحريفه ونسخه وتبديله {ورحمة} لما فيه من نعمة الدلالة على الله والبيان الشافي فهبهم طعنوا في هذا القرآن وهم لا يقدرون على الطعن في كتاب موسى الذي قد سلموا لأهله أنهم أهل العلم وجعلوهم حكماء يرضون بقولهم في هذا النبي الكريم. وكتابهم مصادق لكتابهم فقد صاروا بذلك مصدقين بما كذبوا به. و لذلك قال الله تعالى: {وهذا} أي القرآن المبين المبيّن {كتاب} أي جامع لجميع الخيرات.