فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرّأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} [سبأ: 31] وقالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] حين علموا أن قد لزمتهم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن.
وجملة {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله ما علمته آنفًا. أي ضللتم ضلالًا لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين.
وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم.
وجيء في الشرط بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالًا لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاو رة.
{وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَو كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقولونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}.
هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم. فهم الذين قالوا {أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا} كما تقدم في الأنعام (53). وهو نظير قول قوم نوح {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرَاذِلُنا بادي الرأي} (هود 27). ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله: {واستكبرتم} [الأحقاف: 10].
واللام في قوله: {للذين آمنوا} لام التعليل متعلقة بمحذوف. هو حال من الذين كفروا تقديره: مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أوكانوا غُزَّى لوكانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [ال عمران: 156]. وقوله في الآية السابقة {قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} [الأحقاف: 7].
وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو{ألمْ أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا} [الكهف: 72] المسمّاة لام التبليغ.
والضمير المستتر في {كان} عائد إلى ما عد إليه ضمير {إن كان من عند الله} [الأحقاف: 10] وهو القرآن المفهو م من السياق أو{ما يوحى إليّ} [الأحقاف: 9].
والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر. شبّه بأسرع الوصو ل بين المتجارين. والمراد: الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال.
وضمير الغيبة في قوله: {سبقونا} عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال وعمار بن ياسر. وعبد الله بن مسعود. وسمية. وزنّيرة (بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة) أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهنّ المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق.
وعن عروة بن الزبير قال: عظماء قريش: لوكان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقتنا إليه زنّيرة. أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا.
{إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقولونَ هاذا إِفْكٌ}.
عطف على جملة {وقال الذين كفروا للذين آمنوا} الآية. أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا: {سحر مبين} [الأحقاف: 7] وقالوا {افتراه} [الأحقاف: 8]. وقالوا {لوكان خيرًا ما سبقونا إليه}. وبقي أن يقولوا هو {إفك قديم}.
وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله: {قال الذين كفروا} وقوله: {وكفرتم به} [الأحقاف: 10] وقوله: {واستكبرتم} [الأحقاف: 10] وقوله: {وإذ لم يهتدوا به} الآية.
وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعرًا بأن جميعها أسباب لِجميعها.
وضمير {به} عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه.
ومعنى الآية: وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو {إفك قديم} إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل.
ولما كانت {إذ} ظرفًا للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف {لَم} تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون {هذا إفك} أنهم يقولونه في المستقبل. وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضًا لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نَزلت قبل هذه السورة. فمعنى {فسيقولون} سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل.
فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الزخرف: 27] فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي.
فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم {سيقولون هذا} ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل.
وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به {إذ}.
وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام. وكثير في {إذ}. و لذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله: {فسيقولون}.
ويجوز أن تكون {إذْ} للتعليل. وتتعلق {إذ} بـ (يقولون) ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق.
وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية. فالوأوللعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط.
وأصل الكلام: وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به قال السايس وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في (الأمالي) دون ما ذهب إليه صاحب (الكشاف). فإنه تكلف له تكلفًا غير شاف.
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عربيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}.
أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو (التوراة) مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الأنتفاع بها. فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} [الأحقاف: 10] كما تقدم.
ففي قوله: {ومن قبله كتاب موسى} إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهاية سابقة معلومة أشهره (كتاب موسى). أي (التوراة) وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود.
وضمير {من قبله} عائد إلى القرآن.
وتقديم {من قبله} للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة.
وعبر عن (التّوراة) بـ {كتاب موسى} بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو (التوراة) لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحًا إلى مثار نتيجة قياس القرآن على (كتاب موسى) بالمشابهة في جميع الأحوال.
و{إمامًا ورحمة} حالان من {كتاب موسى}. ويجوز كونهما حالين من {موسى} والمعنيان متلازمان.
والإمام: حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياسًا لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقًا شائعًا على القدوة قال تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} [الفرقان: 74].
وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة. واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ. وموسى إمام أيضًا بمعنى القدوة.
والرحمة: اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي. رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه.
ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سببًا في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة.
ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة. وموسى أيضًا رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
وقوله: {وهذا كتاب مصدق} الخ هو المقيس على {كتاب موسى}.
والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات.
والمصدِّق: المخبر بصدق غيره.
وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية. قال تعالى: {مصدقا لما بين يديه}. أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة.
وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنيًا عنها ومبينًا لما فيها.
والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها.
وما حُرّف فهمه بها قال تعالى: {مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48].
وزاده ثناء بكونه {لسانًا عربيًّا}. أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس. فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى. ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل.
وأدمج لفظ {لسانا} للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعالىمه لأن أخلاق العرب يومئذٍ مختلطة من محاسن ومساوفلما جاء الإسلام نفَى عنها المساوي. و لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق» وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4]. وقال: {فإنما يسرناه بلسانك} [مريم: 97].
وقوله: {لتنذر الذين ظلموا} يجوز أن يتعلق بـ {مصدقا لما بين يديه} لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في {كتاب} من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة.
وهذا أحسن ليكون {لتنذر} علة للكتاب باعتبار صفته وحاله.
والذين ظلموا هم المشركون {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين و لذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان.
والنّذارة مراتب والبشارة مثلها.
و{بشرى} عطف على {مصدق}. والتقدير: وهو بشرى للمحسنين. أي الكتاب. وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم.
وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوبُ {لتنذر} بالمثناة الفوقية خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصف كتابه بأنه {بشرى} وفيه احتباك.
وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}.
هذه السورة مكية.
وعن ابن عباس وقتادة. أن: {قل أرأيتم إن كان من عند الله}.
و{فاصبر كما صبر}. الآيتين مدنيتان.
ومناسبة أولها لما قبلها. أن في آخر ما قبلها: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوًا} وقلتم: إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها. فقال تعالى: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.
وهاتان الصفتان هما آخر تلك. وهما أول هذه.
{وأجل مسمى}: أي موعد لفساد هذه البنية.
قال ابن عباس: هو القيامة؛ وقال غيره: أي أجل كل مخلوق.
{عن ما أنذروا}: يحتمل أن تكون ما مصدرية. وأن تكون بمعنى الذي.
{قل أرأيتم ما تدعون}: معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله. وهي الأصنام.
{أروني ماذا خلقوا من الأرض}: استفهام توبيخ. ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون.
وماذا خلقوا: جملة استفهامية يطلبها أرأيتم. لأن مفعولها الثاني يكون استفهامًا. ويطلبها أروني على سبيل التعليق. فهذا من باب الإعمال. أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني.
ويمكن أن يكون أروني توكيدًا لأرأيتم. بمعنى أخبروني. وأروني: أخبروني. كأنهما بمعنى واحد.
وقال ابن عطية: يحتمل أرأيتم وجهين: أحدهما: أن تكون متعدية. وما مفعولة بها؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى. وتكون ما استفهامًا على معنى التوبيخ. وتدعون معناه: تعبدون. انتهى.
وكون أرأيتم لا تتعدى. وأنها منبهة. فيه شيء؛ قاله الأخفش في قوله: {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم. كما هو في قوله: {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون} في سورة فاطر؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها.
وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام. فيطالع هناك: و{من الأرض}. تفسير للمبهم في: {ماذا خلقوا}.
والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض. أي خلق ذلك إنما هولله. أو يكون على حذف مضاف. أي من العالي على الأرض. أي على وجهها من حيوان أو غيره.
ثم وقفهم على عبارتهم فقال: {أم لهم}: أي: بل.
{أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا}: أي من قبل هذا الكتاب. وهو القرآن. يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك. وكل كتب الله المنزلة ناطقة بذلك؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله.
{أو أثارة من علم}. أي بقية من علم. أي من علوم الأولين. من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم. أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب.
والآثارة تستعمل في بقية الشرف؛ يقال: لبني فلان أثارة من شرف. إذا كانت عندهم شواهد قديمة. وفي غير ذلك قال الراعي:
وذات أثارة أكلت علينا ** نباتًا في أكمته قفارا

أي: بقية من شحم.