فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين.
قال عطاء: أوشيء تأثرونه عن نبيّ كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء.
وقال الزجاج: أو أثارة أي: علامة. والآثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. وأصل الكلمة من الأثر. وهي الرواية يقال: أثرت الحديث اثره أثرة وأثارة وأثرًا: إذا ذكرته عن غيرك.
قرأ الجمهور {أثارة} على المصدر كالسماحة والغواية.
وقرأ ابن عباس. وزيد بن علي. وعكرمة. والسلمي. والحسن. وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف.
وقرأ الكسائي: (أثرة) بضم الهمزة وسكون الثاء {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم التي تدّعونها. وهي قولكم إن لله شريكًا. ولم تأتوا بشيء من ذلك. فتبين بطلأن قولهم لقيام البرهان العقلي. والنقلي على خلافه.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} أي: لا أحد أضل منه ولا أجهل. فإنه دعا من لا يسمع. فكيف يطمع في الإجابة فضلًا عن جلب نفع. أودفع ضرّ؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين. والاستفهام للتقريع والتوبيخ. وقوله: {إلى يَوْمِ القيامة} غاية لعدم الاستجابة {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون} الضمير الأول للأصنام. والثاني لعابديها. والمعنى: والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك. لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات. والجمع في الضميرين باعتبار معنى (من). وأجري على الأصنام ما هوللعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل.
{وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء} أي: إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض. ويلعن بعضهم بعضًا. وقد قيل: إن الله يخلق الحياة في الأصنام. فتكذبهم.
وقيل المراد: أنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال.
وأما الملائكة. والمسيح. وعزير. والشيئاطين. فإنهم يتبرّءون ممن عبدهم يوم القيامة. كما في قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} أي: كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين. أي: جاحدين مكذبين. وقيل: الضمير في {كانوا} للعابدين. كما في قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. والأول أولى.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي: آيات القرآن حال كونها {بينات} واضحات المعاني ظاهرات الدلالات {قال الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي: لأجله وفي شأنه. وهو عبارة عن الآيات {لَمَّا جَاءهُمْ} أي: وقت أن جاءهم {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ظاهر السحرية {أَمْ يَقولونَ افتراه} أم هي المنقطعة. أي: بل أيقولون افتراه؟ والاستفهام للأنكار والتعجب من صنيعهم. وبل للأنتقال عن تسميتهم الآيات سحرًا إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به. وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئًا} أي: قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير. كما تدّعون. فلا تقدرون على أن تردّوا عني عقاب الله. فكيف أفتري عل الله لأجلكم. وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني؟ {هو أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه. والأندفاع فيه. يقال: أفاضوا في الحديث. أي: اندفعوا فيه. وأفاض البعير: إذا دفع جرّته من كرشه. والمعنى: الله أعلم بما تقولون في القرآن. وتخوضون فيه من التكذيب له. والقول بأنه سحر وكهانة {كفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده. وأني قد بلغتكم. ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود. وفي هذا وعيد شديد {وَهوالغفور الرحيم} لمن تاب وامن. وصدّق بالقرآن وعمل بما فيه. أي: كثير المغفرة والرحمة بليغهما.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرسل} البدع من كلّ شيء المبدأ. أي: ما أنا بأول رسو ل. قد بعث الله قبلي كثيرًا من الرسل.
قيل: البدع بمعنى: البديع كالخفّ والخفيف. والبديع: ما لم ير له مثل. من الابتداع وهو الاختراع. وشيء بدع بالكسر. أي: مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر. أي: بديع كذا قال الأخفش. وأنشد قطرب:
فما أنا بدع من حوادث تعتري ** رجالًا غدت من بعد بؤسي وأسعدا

وقرأ عكرمة. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة: (بدعًا) بفتح الدال على تقدير حذف المضاف. أي: ما كنت ذا بدع. وقرأ مجاهد بفتح الباء. وكسر الدال على الوصف {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى ولا بِكُمْ} أي: ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة. أوأخرج منها؟ وهل أموت أوأقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا.
وأما في الآخرة. فقد علم أنه وأمته في الجنة. وأن الكافرين في النار.
وقيل: إن المعنى: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة. وإنها لما نزلت فرح المشركون. وقالوا: كيف نتبع نبيًا لا يدري ما يفعل به ولا بنا. وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] والأول أولى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} قرأ الجمهور {يوحى} مبنيًا للمفعول. أي: ما أتبع إلاّ القرآن. ولا أبتدع من عندي شيئًا. والمعنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقاب الله. وأخوّفكم عذابه على وجه الآيضاح.
وقد أخرج أحمد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن. عن ابن عباس {أو أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: الخط.
قال سفيان: لا أعلم إلاّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس.
وأخرج عبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كان نبيّ من الأنبياء يخط. فمن صادف مثل خطه علم» ومعنى هذا ثابت في الصحيح. ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة.
ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط؟ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبيّ؟ أو الى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا. فليس ما يفعله أهل الرمل إلاّ جهالات وضلالات.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «{أو أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: حسن الخط» وأخرج الطبراني في الأوسط. والحاكم من طريق الشعبي. عن ابن عباس {أو أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: خط كان يخطه العرب في الأرض.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. عن ابن عباس {أو أثارة مّنْ عِلْمٍ} يقول: بينة من الأمر.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عنه في قوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرسل} يقول: لست بأول الرسل {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى ولا بِكُمْ} فأنزل الله بعد هذا {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقوله: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات} الآية [الفتح: 5]. فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به. وبالمؤمنين جميعًا.
وأخرج أبوداود في ناسخه عنه أيضًا أن هذه الآية منسوخة بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء قالت: لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه. وإني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم». قالت أمّ العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحدًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير وهي قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فإن قوله وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة والجواب ظاهر وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه.
ويستأنس له بقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الآيمَانُ ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا} الآية. وقوله: {ووجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى}. وقوله:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُوأَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية.
وهذا الجواب هو معنى قول ابن عباس وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} الآية.
ويدل له أن الأحقاف مكية وسورة الفتح نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وأجاب بعض العلماء بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (13- 16):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) ووصيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين حالة المحسنين شرح أمرهم فقال مستأنفًا في جواب من سأل عنهم وعن بشراهم: {إن الذين قالوا ربنا} أي خالقنا ومو لأنا والمحسن إلينا {الله} سبحانه وتعالى لا غيره.
ولما كانت الاستقامة- وهي الثبات على كل ما يرضي الله مع ترتبها على التوحيد- عزيزة المنال عليه الرتبة. وكانت في الغالب لا تنال إلا بعد منازلات طويلة ومجاهدات شديدة. أشار إلى كل من بعدها وعلورتبتها بأداة التراخي فقال: {ثم} أي بعد قولهم ذلك الذي وحدوا به {استقاموا} أي طلبوا القوم طلبًا عظيمًا وأوجدوه.
ولما كان الوصف لرءوس المؤمنين. عد أعمالهم أسبابًا فأخبر عنهم بقوله: {فلا خوف عليهم} أي يعلوهم بغلبة الضرر. و لعله يعبر في مثل هذا بالاسم إشارة إلى أن هيبته بالنظر إلى جلاله وقهره وجبروته وكبره وكماله لا تنتفي. ويحصل للأنسان باستحضارها إخبات وطمأنينة و وقار وسكينة يزيده في نفسه جلالًا ورفعة وكمالًا. فالمنفي خوف يقلق النفس {ولا هم} في ضمائرهم ولا في ظواهرهم {يحزنون} أي يتجدد لهم شيء من حزن أصلًا.
ولما نفى عنهم المحذور. مدهم بإيثار السرور. فقال تعالى: {أولئك} أي العالوالدرجات {أصحاب الجنة} ولما دلت الصحبة على الملازمة. صرح بها بقوله تعالى: {خالدين فيها} خلودًا لا اخرًا له. جوزوا بذلك {جزاء} ولما كانوا محسنين فكانت أعمالهم في غاية الخلوص جعلها تعالى أسبابًا أولا وثانيًا. فقال مشيرًا إلى دوامها لأنها في جبلاتهم {بما كانوا} أي طبعًا وخلقًا {يعملون} على سبيل التجديد المستمر.
ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها و وفقه لها أسبابًا قرن بالوصية بطاعته- لكونه المبدع- الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الآيجاد. فقال في هذا السياق الذي عد فيه الأعمال لكونه سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها. وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح. وفي الترمذي: «رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما» وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته {وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا} [البقرة: 83] {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [النساء: 36] وكذا ما بعدهما عاطفًا على ما قدرته أو السورة من نحوأن يقال: وأمرنا الناس أجميعن أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين: {ووصينا الإنسان} أي هذا النوع الذي أنس بنفسه {بوالديه} ولما استوفى {وصى} مفعوليه كان التقدير: ليأتي إليهما حسنًا. وقرأ الكوفيون: {إحسانًا} وهو أوفق للسياق.
ولما كان حق الأب ظاهرًا لا له من الكسب والأنفاق والذب والتأديب لم يذكره. وذكر ما للأم لأن أمده يسير. فربما استهين به فقال مستأنفًا أو معللًا: {حملته أمه} أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها. حملًا {كرهًا} بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه {ووضعته} أي بعد تمام مدة حمله {كرهًا} فدل هذا- مع دلالته على وجوب حق الأم- على أن الأمر في تكوينه لله وحده. وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لأنضباطها فقال تعالى: {وحمله وفصاله} أي ومدة حمله وغاية فطامه من الرضاع. وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة {ثلاثون شهرًا} فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وبه قال الأطباء. وربما أشعر بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر لأن أغلب الحمل تسعة أشهر.
ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك في مؤنته الأبوان وتارة ينفرد أحدهما. طوي ذكرهما. وذكر حرف الغاية مقسمًا للموصي إلى قسمين: مطيع وعاصي. ذاكرًا ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة. إرشادًا إلى أن المعنى: واستمر كلًا على أبويه أوأحدهما {حتى إذا بلغ أشده} قال في القاموس: قوته. وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين. واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما. أوجمع لا واحد له من لفظه. أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل. أوشد ككلب وأكلب أوشد كذئب وأذؤب. وما هما بمسموعين بل قياس- انتهى. وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جدًّا. وروى الطبراني في ترجمة ابن أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم- قال الهيثمي: وفيه صدقة بن يزيد وثقه أبوزرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات. قال الزمخشري: وهو أول الأشد وغايته الأربعون.
ولما كانت أيام الصبى والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهِر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية لما يحملأنه عليه من نتائج الشهوات ونوازع الغضب والبطالات. عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيهًا على ذلك. فقال شارحًا للاستواء ومعبرًا عنه: {وبلغ أربعين سنة} فاجتمع أشده وتم حزمه وجده. وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل. و لذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء. وهو يشعر بأن أوقات الصبى أخف في المؤاخذة مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد والأربعين {قال} إن كان محسنًا قابلًا لوصية ربه: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالآيجاد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره {أوزعني} أي اجعلني أطيق {أن أشكر نعمتك} أي وازعًا للشكر أي كافًا مرتبطًا حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات. وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الآيجاد والترزيق. و وحدها تعظيمًا للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس.