فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن. وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية: {ثم استقاموا} بالطاعات والأعمال الصالحات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى: {ثم استقاموا} بالدوام على الآيمان وترك الأنحراف عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أعم رجاء وأوسع. وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد. فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة. والخوف هو الهم لما يستقبل. والحزن هو الهم بما مضى. وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة. لأنه حزن لخوف أمر ما.
وقرأ ابن السميفع: {فلا خوفُ} دون تنوين.
وقوله: {جزاء بما كانوا يعملون}. (ما) واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد. وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد. لا أنها توجب على الله شيئًا.
وقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه} يريد النوع. أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي. فهي وصية من الله في عباده.
وقرأ جمهور القراء: {حُسْنًا} بضم الحاء وسكون السين. ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمرًا ذا حسن. فكأن الفعل تسلط عليه مفعولا ثانيًا. وقرأ علي بن أبي طالب وأبوعبد الرحمن وعيسى: {حَسَنًا} بفتح الحاء والسين. وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل. ومحتمل. أن يكون هذا الثاني اسمًا لا مصدرًا. أي ألزمناه بهما فعلًا حسنًا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {إحسانًا}. ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور. والباء متعلقة بـ: {وصينا} أو بقوله: {إحسانًا}.
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها. وعقوقهما كبيرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين.
قال القاضي أبو محمد: و لن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد. فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام: «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب. والأب في واحدة. جمعهما الذكر في قوله: {بوالديه}. ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال. فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر. والربع للأب. وذلك إذ قال له رجل: «يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال: أباك» وقوله: {كرهًا} معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه. ويحتمل أن يريد في وقت الحمل. إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه. وقال مجاهد والحسن وقتادة: المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة.
وقرأ أكثر القراء: {كُرهًا} بضم الكاف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج: {كَرهًا} بفتح الكاف. وقرأ بهما معًا مجاهد وأبو رجاء وعيسى. قال أبو علي وغيره: هما بمعنى. الضم الاسم. والفتح المصدر. وقالت فرقة: الكره بالضم: المشقة. والكره بالفتح هو الغلبة والقهر. وضعفوا على هذا قراءة الفتح. قال بعضهم: لوكان {كَرهًا} لرمت به عن نفسها. إذ الكره القهر والغلبة. والقول الذي قدمناه أصوب.
وقرأ جمهور الناس: {وفصاله} وذلك أنها مفاعلة من اثنين. كأنه فاصل أمه وفاصلته. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري: {وفصله}. كأن الأم هي التي فصلته.
وقوله: {ثلاثون شهرًا} يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة. لأن في القول حذف مضاف تقديره: ومدة حمله وفصاله. وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصًا. وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين. وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام. فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع. وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر. وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة. وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله.
واختلف الناس في الأشد: فقال الشعبي وزيد بن أسلم: البلوغ إذا كتبت عليه السيئات و له الحسنات. وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر عامًا. وقيل عشرون عامًا. وقال ابن عباس وقتادة: ثلاثة وثلاثون عامًا. وقال الجمهور من النظار: ثلاثة وثلاثون. وقال هلال بن يساف وغيره: أربعون. وأقوى الأقوال ستة وثلاثون. ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله: {وبلغ أربعين سنة}.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ذكر تعالى الأربعين. لأنها حد للأنسان في فلاحه ونجابته. وفي الحديث: «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول: بأبي وجه لا يفلح» وقال أيمن بن خريم الأسدي: الطويل:
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ ** له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ** وإن جر أسباب الحياة له العمر

وفي مصحف ابن مسعود: {حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة} وقوله: {أوزعني} معناه: ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك. ويحتمل أن يكون {أوزعني} بمعنى اجعل حظي ونصيبي. وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع. ومن قوله توزعوا المال. فـ: (إن) على هذا مفعول صريح. وقال ابن عباس {نعمتك} في التوحيد. و: {صالحًا ترضاه} الصلوات. والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية. وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للأنسان أن يفعل. وهذه وصية الله للأنسان في كل الشرائع.
وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق. ثم هي تتناول من بعده. وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه. فلذلك قال: {وعلى والدي}. وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك. وأبوقحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما. فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسا في الكفر و لج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد. والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح. وباقي الآية بين إلى قوله: {من المسلمين}.
{أولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
قوله تعالى: {أولئك} دليل على أن الإشارة بقوله: {ووصينا الإنسان} [الأحقاف: 15] إنما أراد الجنس.
وقرأ جمهور القراء: {يُتَقبَّل} بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك {يُتجاوز}. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة {نتقبل} {أحسنَ} بالنصب {ونتجاوز} وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه. وقرأ الحسن {يَتقبل} بياء مفتوحة {ويَتجاوز} كذلك. أي الله تعالى وقوله: {في أصحاب الجنة} يريد الذين سبقت لهم رحمة الله.
وقوله: {وعدَ الصدق} نصب على المصدر المؤكد لما قبله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} الآية تقدّم معناها.
وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصدّيق.
والآية تعم.
{جَزَاءً} نصب على المصدر.
{ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا}.
فيه سبع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} بيّن اختلاف حال الإنسان مع أبويه. فقد يطيعهما وقد يخالفهما؛ أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض.
فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض؛ قاله القشيريّ.
الثانية قوله تعالى: {حُسْنًا} قراءة العامة {حُسْنًا} وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام.
وقرأ ابن عباس والكوفيون {إحْسَانًا} وحجتهم قوله تعالى في سورة (الأنعام وبني إسرائيل): {وبالوالدين إِحْسَانًا} [الإسراء: 3 2] وكذا هو في مصاحف الكوفة.
وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت: {ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيها.
والحُسْن خلاف القُبْح.
والإحسان خلاف الإساءة.
والتوصية الأمر.
وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.
الثالثة قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا} أي بكره ومشقة.
وقراءة العامة بفتح الكاف.
واختاره أبو عبيد. قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وهو كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر.
وقرأ الكوفيون {كُرْهًا} بالضم.
قيل: هما لغتان مثل الضُّعْف والضَّعْف والشُّهْد والشَّهْد؛ قاله الكسائي. وكذلك هو عند جميع البصريين.
وقال الكسائيّ أيضًا والفرّاء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه. وبالفتح ما حمل على غيره؛ أي قهرًا وغضبًا؛ و لهذا قال بعض أهل العربية إن كرهًا (بفتح الكاف) لحن.
الرابعة قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرًا. وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا.
وروي أن عثمان قد أتِي بامرأة قد و لدت لستة أشهر؛ فأراد أن يقضي عليها بالحدّ؛ فقال له عليّ رضي الله عنه: ليس ذلك عليها. قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} وقال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حوليْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرًا والحمل ستة أشهر. فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.
وقد مضى في (البقرة).
وقيل: لم يعدّ ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل؛ لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به. وهو معنى قوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189].
والفِصال الفطام.
وقد تقدّم في (لقمان) الكلام فيه.
وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما {وفَصْله} بفتح الفاء وسكون الصاد.
وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق. وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرًا. حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرًا.
وفي الكلام إضمار؛ أي ومدّة حمله ومدّة فصاله ثلاثون شهرًا؛ ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغيّر المعنى.
الخامسة قوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عباس: ثماني عشرة سنة.
وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة. وهم يريدون الشام للتجارة. فنزلوا منزلًا فيه سدرة. فقعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في ظلها. ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدِّين.
فقال الراهب: مَن الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
فقال: هذا والله نبيّ. وما استظل أحد تحتها بعد عيسى.
فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق؛ وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضرِه.
فلما نُبىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة. صدّق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني وثلاثين سنة.
فلما بلغ أربعين سنة قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلَى وَالِدَيَّ} الآية.
وقال الشعبيّ وابن زيد: الأشدّ الحلم.
وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين.
وعنه قيام الحجة عليه.
وقد مضى في (الأنعام) الكلام في الآية.
وقال السّدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص.
وقد تقدّم.
وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم.
والله أعلم.
السادسة قوله تعالى: {قال رَبِّ أوزعني} أي ألهمني.
{أَنْ أَشكُرَ} في موضع نصب على المصدر؛ أي شكر نعمتك {عَلَيَّ} أي ما أنعمت به عليّ من الهداية {وعلى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربّياني صغيرًا.
وقيل: أنعمت عليّ بالصحة والعافية وعلى والديّ بالغنى والثروة.
وقال عليّ رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه؛ أسلم أبواه جميعًا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره. فأوصاه الله بهما و لزم ذلك من بعده.
و والده هو أبوقحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم.
وأمّه أمّ الخير. واسمها سَلْمَى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد.
وأم أبيه أبي قحافة (قَيْلة) بالياء المعجمة باثنتين من تحتها.
وامرأة أبي بكر الصدّيق اسمها (قُتيلة) بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها بنت عبد العزى.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذَّبون في الله منهن بلال وعامر بن فُهيرة؛ ولم يدَع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائمًا»؟ قال أبو بكر أنا قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة»؟ قال أبو بكر أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا»؟ قال أبو بكر أنا قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا»؟ قال أبو بكر أنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة».