فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السابعة قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أي اجعل ذرّيتي صالحين.
قال ابن عباس: فلم يبق له و لد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده.
ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر.
وقال سهل بن عبد الله: المعنى اجعلهم لي خَلَف صِدق. و لك عبيدَ حق.
وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارًا لي مطيعين لك.
وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم.
وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلًا.
وقال مالك بن مِقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مُصَرِّف؛ فقال: استعن عليه بهذه الآية؛ وتلا: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين}.
{إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه.
{وَإِنِّي مِنَ المسلمين} أي المخلصين بالتوحيد.
قوله تعالى: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ}.
قراءة العامة بضم الياء فيهما.
وقرىء {يَتَقَبَّلُ}. {وَيَتَجَاوَز} بفتح الياء؛ والضمير فيهما يرجع لِلّه عز وجل.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نَتقَبَّلُ}. {ونَتَجَاوَزُ} بالنون فيهما؛ أي نغفرها ونصفح عنها.
والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه.
وهذه الآية تدلّ على أن الآية التي قبلها {ووصَّيْنَا الإنسان} إلى آخِرها مرسلة نزلت على العموم.
وهو قول الحسن.
ومعنى {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات.
قال زيد بن أسلم ويحكيه مرفوعًا: إنهم إذا أسلموا قُبلت حسناتهم وغُفرت سيئاتهم.
وقيل: الأحسن ما يقتضي الثواب من الطاعات. وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب؛ حكاه ابن عيسى.
{في أَصْحَابِ الجنة} (في) بمعنى مع. أي مع أصحاب الجنة. تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد. أي مع جميعهم.
{وَعْدَ الصدق} نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله؛ أي وعد الله أهل الآيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق.
وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله؛ وهو كقوله تعالى: {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95].
وهذا عند الكوفيين. فأما عند البصريين فتقديره: وَعْد الكلامِ الصدق أو الكتابِ الصدق. فحذف الموصوف.
وقد مضى هذا في غير موضع.
{الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل؛ وذلك الجنة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}.
أي جمعُوا بينَ التوحيدِ الذي هو خلاصةُ العلمِ. والاستقامةِ في أمورِ الدينِ التي هيَ مُنتهى العملِ وثُمَّ للدلالةِ على تَراخِي رتبةِ العملِ وتوقفِ الاعتدادِ به على التوحيدِ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوقِ مكروهٍ {ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ محبوبٍ. والفاءُ لتضمنِ الاسمِ معنى الشرطِ والمرادُ بيانُ دوامِ نفي الحزنِ لا بيانُ نفي دوامِ الحزنِ كما يُوهمه كونُ الخبرِ مضارعًا وقد مرَّ بيانُه مرارًا {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الوصفينِ الجليلينِ {أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في أصحابُ.
وقوله تعالى: {جَزَاء} منصوبٌ إمَّا بعاملٍ مُقدرٍ أي يُجزون جزاءً أوبمَعْنى ما تقدمَ فإنَّ قوله تعالى: {أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ} في معنى جازيناهُم.
{بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الحسناتِ العلميةِ والعمليةِ.
{ووصَّيْنَا الإنسان} بأنْ يُحسنَ {بوالديه إحسانا} وقرئ {حُسْنًا} أي بأنْ يفعلَ بهمَا حُسْنًا أي فعلًا ذَا حُسنٍ أوكأنَّه في ذاتِه نفسُ الحسنِ لفرطِ حُسنهِ. وقرئ بضمِّ السينِ أيضًا. وبفتحِهما أيْ بأنْ يفعلَ بهما فعلًا حَسَنًا أو وصينَاهْ إيصاءً حسنًا.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا} أي ذاتَ كُرهٍ أوحملًا ذَا كُرهٍ وهو المشقةُ. وقرئ بالفتحِ وهما لغتانِ كالفُقرِ. وقيلَ: المضمومُ اسمٌ والمفتوحُ مصدرٌ.
{وَحَمْلُهُ وفصاله} أيْ مدةُ حملِه وفصالِه. وهو الفطامُ. وقرئ {وفَصلُه}. والفصالُ كالفطمِ والفِطامِ بناءً ومَعْنى. والمرادُ بهِ الرَّضاعُ التامُّ المُنتهِي بهِ. كمَا أرادَ بالأمدِ المدةَ من قال:
كُلُّ حَيَ مُستكمِلٌ مُدَّةَ العمرِ ** ومُودٍ إذَا انتهى أمدُهْ

{ثَلاَثُونَ شَهْرًا} تمضي عليَها بمعاناةِ المشاقِّ ومقاساةِ الشدائدِ لأجلِه وهذا دليلٌ على أن أقلَّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ لما أنَّه إذا حُطَّ عنْهُ للفصالِ حولأن لقوله تعالى: {حوليْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} يبقي للحملِ ذلكَ. قيلَ: و لعل تعيينَ أقلِ مدةِ الحملِ وأكثرِ مدةِ الرَّضاعِ لأنضباطِهما وتحققِ ارتباطِ النسبِ والرضاعِ بهما {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي اكتملَ واستحكمَ قوتُه وعقلُه {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} قيلَ: لم يبعثْ نبيٌّ قبلَ أربعينَ. وقرئ {حتَّى إذَا استَوى وبلغَ أشدَّهُ}.
{قال رَبّ أَوْزِعْنِى} أي ألهمنِي. وأصلُه أولعِني من أوزعتُه بكذَا {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أي نعمةَ الدِّينِ أو ما يعمُّها وغيرَها.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ {وَأَصْلِحْ لِى في ذُرّيَّتِى} أيْ واجعلِ الصلاحَ ساريًا في ذُريتِي راسخًا فيهم كَما في قوله:
يجرحُ في عَراقيبِها نَصْلِي

قال ابنُ عبَّاسٍ: أجابَ الله تعالى دعاءَ أبي بكرٍ رضيَ الله عنُهم فأعتقَ تسعةً من المؤمنينَ منهم عامرُ بنُ فُهيرةَ ولم يُردْ شيئًا من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ الله تعالى عليهِ ودَعَا أيضًا فقال وأصلحْ لي في ذُريتِي فأجابَهُ الله عزَّ وجلَّ فلم يكُن لهُ و لدٌ إلا آمنوا جميعًا فاجتمعَ له إسلامُ أبويهِ وأولادِه جميعًا فأدركَ أبُوه أبُوقحافةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنُه عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ وابنُ عبدِ الرَّحمنِ أبو عتيقٍ كلُّهم أدركُوا النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعينَ.
{إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عمَّا لا ترضاهُ أو عمَّا يشغلُني عن ذكرِك {وَإِنّى مِنَ المسلمين} الذينَ أخلصُوا لكَ أنفسَهُم.
{أولئك} إشارةٌ إلى الإنسان. والجمعُ لأن المرادَ به الجنسُ المتصفُ بالوصفِ المَحكِيِّ عنْهُ. وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بعُلورُتبتهِ وبُعدِ منزلتِه. أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ.
{الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} من الطاعاتِ. فإنَّ المباحَ حسنٌ ولا يثابُ عليهِ.
{وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم} وقرئ الفعلان بالياءِ على إسنادِهما إلى الله تعالى. وعلى بنائِهما للمفعول. ورفعِ أحسنَ على أنَّه قائمٌ مقامَ الفاعلِ. وكذا الجارُّ والمجرور.
{فِى أصحاب الجنة} أي كائنينَ في عدادِهم منتظمينَ في سلكِهم {وَعْدَ الصدق} مصدرٌ مؤكدٌ لما أنَّ قوله تعالى: {نتقبلُ} ونتجاوزُ وعدٌ من الله تعالى لهُم بالتقبلِ والتجاوزِ.
{الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} عَلَى ألسنةِ الرُّسلِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} إلى آخِره:
أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل. و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فالعمل متراخى الرتبة عن التوحيد. وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه {ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب. والمراد استمرار النفي. والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت و لعل وكان وإن كان كانت أسماؤها موصولات. وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسيره ما ذكرنا فليراجع.
{أولئك} الموصوفون بماذكر من الوصفين الجليلين {أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حال من المستكن في {أصحاب} وقوله تعالى: {جَزَاء} منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء. والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: {أولئِكَ أصحاب الجنة} في معنى جزيناهم {بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَ} من الحسنات القلبية والقالبية.
{ووصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا}.
نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].
{وإحسانًا} قيل: مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى الزمنا. وقيل: منصوب على المصدر على تضمين {ولقد وَصَّيْنَا} معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للأنسان بوالديه إحسانًا. وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان. وقيل: مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما. وقال ابن عطية: إنه منصوب على المصدر الصريح و{بوالديه} متعلق بوصينا. أوبه وكأنه عنى يحسن إحسانًا وهو حسن. لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانًا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معمو له عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول: أحسنت لزيد ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه. وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصًا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل و لذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري. وقد قالوا: إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشيئاء إليه.
والجار والمجرور محمول عليه. وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كـ: {لا تأخذكم بهما رأفة} [النور: 2] ومعرفة نحو{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} [الصافات: 102] وتأويل كل ذلك تكلف. وأيضًا قوله: لأن أحسن لا يتعدى بالباء الخ فيه منع ظاهر. وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال: وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانًا. و لعل التنوين للتفخيم أي إحسانًا عظيمًا. والآيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات. ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به. وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها. وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل. والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدًّا. وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقرأ الجمهور {حَسَنًا} بضم الحاء وإسكان السين أي فعلًا ذا حسن أوكأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه. وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى {إحسانا} فالأقوال السابقة تجري فيه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى {حَسَنًا} بفتح الحاء والسين. وعن عيسى {حَسَنًا} بضمهما.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا} أي ذات كره أوحملًا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة. وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تحد له ثقلًا.
وقرأ شيبة. وأبو جعفر. والحرميان {كَرْهًا} بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف. وقيل: المضموم اسم والمفتوح مصدر.
وقال الراغب: قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع.
وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال: لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة.
وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها. وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراءات بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه {وَحَمْلُهُ وفصاله} أي مدة حمله وفصاله. وبتقدير المضاف يصح حمل قوله تعالى: {ثَلاَثُونَ شَهْرًا} على المبتدأ من غير كره.
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته.
وقرأ أبو رجاء. والحسن. وقتادة. ويعقوب. والجحدري {وفصاله} أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناءً ومعنى؛ وقيل: الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل. والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهى بالفطام و لذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك. وفي الوصف تطويل. والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها. و لذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب. فقد روي «أن رجلًا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أباك» وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك.
واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولأن لقوله تعالى: {حوليْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء. قال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة و لدت لمائة وأربع وثمانين ليلة وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك.
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه؛ وقال ابن سينا في الشفا: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدًا نبتت أسنانه. وحكي عن أرسطوأنه قال: أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر. و لعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لأنضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر؛ وتحقق ارتباط حكم النسب بأقل مدة الحمل حتى لووضعته فيما دونه لما يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا. ولوأرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} غاية لمقدر أي فعاش أواستمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الظاهر أنه غير بلوغ الأشد. وقال بعضهم: إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد.
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدًّا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد. وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح» وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ** له دون ما يهوى حياءً ولا ستر فدعه