فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة.
والحُسن: مصدر حَسُن. أي وصيناه بحُسن المعاملة.
وقرأه الجمهور كذلك.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف {إحسانا}.
والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين {وصيْنَا} معنى: ألزمنا.
والكره: بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره. إذا امتعض من شيء. أي كان حمله مكروهًا لها. أي حالة حمله و و لادته لذلك.
وقرأ الجمهور {كَرها} في الموضعين بفتح الكاف.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين.
وانتصب {كرها} على الحال. أي كارهة أوذات كَره.
والمعنى: أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعبًا يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل.
ووضعته بأوجاع والام جعلتها كارهة لوضعه.
وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الآيمان والعمل الصالح الذي به حصو ل النعم الخالدة.
وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطو لها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع.
والفصال: الفطام. وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله: {وحملُه} وانتهاءُ الرضاع بقوله: {وفصالُه}.
والمعنى: وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهرًا.
وقرأ يعقوب {وفصْله} بسكون الصاد. أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام.
ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهرًا لتُطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب. قيل: كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعتْ المولود أحد وعشرين شهرًا. وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهرًا. وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرًا. وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا. وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهرًا زائدًا في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالًا.
ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الآيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدرَ بالمقام.
وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة (233) {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} دليلًا على أن الوضع قد يكون لستة أشهر. ونسب مثله إلى ابن عباس.
ورو وا عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فو لدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان. فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عَليًّا فأتاه فقال: أما تقرأ القرآن قال: بلى.
قال: أما سمعت قوله: {وحملهُ وفصاله ثلاثون شهرًا}. وقال: {حولين كامِلين} فلم نجده بَقي إلا ستة أشهر.
فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمو ل الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علاّم الغيوب الذي أنزله تبيانًا لكل شيء من مثل هذا.
وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة.
{شَهْرًا حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أوزعنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى والدى وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه وَأَصْلِحْ لِى في ذريتى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ}.
{حتى} ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم. وإذ كانت {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده. أي هو موصًى بوالديه حسنًا في الأطوار الموالية لفصاله. أي يوصيه وليه في أطوار طفو لته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه.
و وقوع {إذا} بعد {حتى} ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر. أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ. وقد تقدمت نظائر ذلك قريبًا وبعيدًا منها قوله تعالى: {حتى إذا فشلتم} في سورة ال عمران (152).
ولما كان {إذا} ظرفًا لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلبًا إلى الاستقبال. وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيهًا للمؤكد تحصيله بالواقع. فهو استعارة.
و{إذا} تجريد للاستعارة. والمعنى: حتى يبلغ أشده. أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه {قال رب أوزِعْني}. أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه.
ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لِوالديه.
ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما. فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعْمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما.
وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل {قال ربّ أوزعني} من جملة ما وُصِي به الإنسان. أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد.
فالمعنى: ووصينا الإنسان حُسنًا بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد. أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما.
وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين.
ومعنى {قال ربّ أوزعني} أنه دعا ربه بذلك. ومعناه: أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه. فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23].
وحاصل المعنى: أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصو ل النفع لهما. وهو معنى قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما رَبَّياني صغيرا} [الإسراء: 24] وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية. وعلم بثه في صدور الرجال. و و لد صالح يدعو له بخير» وما شُكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر. وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه.
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع «إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفيجزِىءُ أن أحُجّ عنه. قال: نعم حُجِّي عنه». وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه.
والأشُدّ: حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد.
وقيل مفرده: شِدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنْعُم. وليس الأشد اسمًا لعدد من سني العمر وإنما سِنُوالعمر مظنة للأشُدّ.
ووقته ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة و لذلك عطف على {بلَغ أشده} قوله: {وبلغ أربعين سنة} أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14]. وتقدم في سورة يوسف. وليس قوله: {وبلغ أربعين سنة} تأكيدًا لقوله: {بلغ أشده} لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضًا يبعد ذلك الاحتمال.
و{أوزعني}: ألهمني.
وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوَزْع. أي الأنكفاف عن عمل ما. فالهمزة فيه للإزالة. وتقدم في سورة النمل.
و{نعمتك} اسم مصدر مضاف يعمّ. أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالآيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجِدة.
وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله: {وأصلح لي في ذريتي} استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد.
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما. ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة.
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على و لده. ودعوة المسافر. ودعوة المظلوم». وفي رواية «لو لده» وهو حديث حسن متعددة طرقه.
واللام في {وأصلح لي} لام العلة. أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].
ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته. وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول: كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما. كَمِّلْ إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي.
وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب.
ومعنى ظرفية {في ذريتي} أن ذريته نزلت منزلة الظرف يَستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه. وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم.
ونظيره في الظرفية قوله تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28].
وجملة {إني تبت إليك} كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الآيمان والإقرأر بالنعمة والعبودية.
وحرف (إنَّ) للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر. وبذلك يستعمل حرف (إنَّ) في مقام التعليل ويغني غناء الفاء.
والمراد بالتوبة: الآيمان لأنه توبة من الشرك. وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال.
وقال: {من المسلمين} دون أن يقول: وأسلمت كما قال: {تُبت إليك} لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة. وأما الآيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد. وفيه الرعي على الفاصلة.
هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل. وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين.
{أولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفًا عند قوله: {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} [الأحقاف: 14].
وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله: {ووصينا الإنسان} [الأحقاف: 15] غير معيّن بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه.
والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن ما قبلها من الوصف والحثّ يُحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله: {أولئك الذين يتقبل عنهم} إلى آخِره جوابًا لترقية.
وعموم {أحسنُ ما عملوا} يكسب الجملة فائدة التذييل. أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما و للذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا.
وقد تُقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا.
والتقبل: ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء.
وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجوالإجابة لأن الله تو لى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة.
وعدّي فعل {يتقبل} بحرف (عَن). وحقه أن يعدّى بحرف (مِن) تغليبًا لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة. لأن دعاء الولد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلًا علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضًا ففي الكلام اختصار كأنه قيل: أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديْهم وذريتهم أحسن ما عملوا.
وقرأ الجمهور {يتقبل} و{يتجاوز} بالياء التحتية مضمومة مَبْنيين للنائب و{أحسن} مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب {أحسنَ}.
وقوله: {في أصحاب الجنة} في موضع الحال من اسم الإشارة. أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشَّرفين كما يقال: أكرمه في أهل العلم.
وانتصب {وعْدَ الصدق} على الحال من التقبل والتجاوز المفهو م من معاني {يتقبل} و{يتجاوز}. فجاء الحال من المصدر المفهو م من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]. أي العدل أقرب للتقوى.
والوعد: مصدر بمعنى المفعول. أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه.
وإضافة {وعد} إلى {الصدق} إضافةٌ على معنى (من). أي وعدٌ من الصدق إذ لا يتخلف.
و{الذي كانوا يوعدون} صفة وعْد الصدق. أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بِرّ الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة: