فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:
الأوّل قيل إنها منسوخة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} [التوبة: 73]. وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
الثاني ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً، وأنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، والذين يُكرهون أهلُ الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} [التوبة: 73].
هذا قول الشعبيّ وقتادة والحسن والضحاك.
والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمِي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق.
قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا {لاَ إكْرَاهَ في الدِّينِ}.
الثالث ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مِقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}.
قال أبو داود: والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.
في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنُكرِههم عليه فنزلت: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام.
وهذا قول سعيد بن جبير والشعبيّ ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع.
قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أُولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
الرابع قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجارٌ من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيًا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردّهما فنزلت: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: «أبعدهما الله هما أوّل من كفر»! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، الآية ثم إنه نسخ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.
والصحيح في سبب قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السَّقْي، على ما يأتي في النساء بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل: معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مُجْبَرًا مُكْرهًا؛ وهو القول الخامس.
وقول سادس، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارًا، وإن كانوا مجوسًا صغارًا أو كبارًا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذّر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار.
ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك.
وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أُجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل.
فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربًا أم عجمًا قريشًا أو غيرهم. اهـ.

.قال في الميزان:

وفي قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}، نفى الدين الإجبارى، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: {قد تبين الرشد من الغي}، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله: {قد تبين الرشد من الغي}، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.
وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الإسلام دين السيف واستدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه، بل لإحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبر.
ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله: {لا إكراه في الدين} غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.
ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله: {قد تبين الرشد من الغي}، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} مثلا، أو قوله: {وقاتلوا في سبيل الله} الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا وبعبارة أخرى الآية تعلل قوله: {لا إكراه في الدين} بظهور الحق، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير منسوخ. اهـ.

.قال الفخر:

{تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} أي تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة، قال القاضي: ومعنى {قَد تَّبَيَّنَ الرشد} أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول: قد ذكرنا أن معنى {تَّبَيَّنَ} انفصل وامتاز، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين، وعلى هذا كان اللفظ مُجْرَى على ظاهره. اهـ.

.قال البيضاوي:

{قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلبًا للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {قد تبين الرشد من الغيّ} واقع موقع العلة لقوله: {لا إكراه في الدين} ولذلك فصلت الجملة.
والرشد بضم فسكون، وبفتح ففتح الهُدى وسداد الرأي، ويقابله الغيّ والسفه، والغيّ الضلال، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا.
وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} تفريع على قوله: {قد تبيّن الرشد من الغي} إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارًا.
والطاغوت الأوثان والأصنام، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية، وفي الحديث: «كانوا يهلون لمناة الطاغية» ويجمعون الطاغوت على طواغيت، ولا أحسبه إلاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه.
ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت فَعَلُوت من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفًا فصار طَاغوت، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسمًا لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران فتاؤه زائدة، وجعل علمًا على الكفر وعلى الأصنام، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر.
وعطف {ويؤمن بالله} على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى.
ومعنى استمسك تمسك، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله: {فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك} [الزخرف: 43] وقوله: {فاستجاب لهم ربهم} [آل عمران: 195] وقول النابغة: «فاستنكحوا أمّ جابر» إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان، بل الإيمان التمسك نفسه.
والعروة بضم العين ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه، فلذلك قال في الكشاف: العروة الوثقى من الحبل الوثيق.
و{الوثقى} المحكمة الشدّ.
{ولا انفصام لها} أي لا انقطاع، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة. اهـ.