فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عربيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [12].
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} أي: قدوة يؤتم به في دين الله. وشرائعه. ورحمة لمن امن به. وعمل بما فيه {وَهَذَا} أي: الذي يقولون فيه ما يقولون: {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} أي: لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه: {لِّسَانًا عربيًّا} أي: بيّنًا واضحًا. وفي تقييد الكتاب بذلك. مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة. على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها. وهي غير عربية. ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى: {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ أولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [13- 14].
{إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي: لا غيره {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي: على العمل الصالح. قال القاضي: أي: جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم. والاستقامة في الأمور. التي هي منتهى العمل. و: {ثُمَّ} للدلالة على تأخير رتبة العمل. وتوقف اعتباره على التوحيد: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: من هول يوم القيامة: {ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر {أولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [15].
{ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} وقرئ: {حُسْنًا}. وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الآيمان المذكور. في قوله تعالى: {وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف: 17] الآية.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا} أي: ذات كره. أوحملًا ذا كره. وهو المشقة {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي: حمله جنينًا في بطنها. وفطامه من الرضاع: {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أي: تمضي عليها بمعاناة المشاق. ومقاساة الشدائد لأجله. مما يوجب للأم مزيد العناية. وأكيد الرعاية. لا يقال: بقي ثلاثة أشهر. لأن أمد الرضاع حولأن. لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل. وإلا فأصله أقل منهما. كما ينبئ عنه قوله تعالى: {حوليْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. و لئن سلم أنهما أمدها. فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود. وحذف الكسور. جريًا على عرفهم في ذلك. كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلى الله عليه وسلم على رأس ستين سنة. مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين. كما بين في شرح الشمائل. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود. وترك الكسور. وسرّ ذلك هو القصد إلى ذكر المهم. وما يكتفي به فيما سيق له الكلام. لا ضبط الحساب. وتدقيق الأعداد.
قال ابن كثير: وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حوليْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وهو استنباط قوي صحيح. ووافقه عليه عثمان. وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: استحكم قوته. وعقله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي: ألهمني: {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: بالهداية للتوحيد. والعمل بطاعتك. وغير ذلك {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي: واجعل الصلاح ساريًا في ذريتي. راسخًا فيهم: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: من ذنوبي التي سلفت مني: {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: المستسلمين لأمرك ونهيك. المنقادين لحكمك.
{أولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [16].
{أولئِكَ} أي: الموصوفون بالتوبة والاستقامة: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي: من الصالحات فنجازيهم عليها: {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} أي: معدودين في زمرتهم ثوابًا ومقامًا.
قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] ليدل على المبالغة بعلومنزلتهم فيها؛ إذ قولك: فلان من العلماء. أبلغ من قولك: عالم. ولم يبينوه ههنا. ومن لم يتبنه لهذا قال في بمعنى مع. انتهى.
{وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي: وعدهم تعالى هذا الوعد. وعدَ الحق في الدنيا. وهو موفيه لهم في الآخرة. كما قال: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21].
ثم بين تعالى نعت من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه. من كل و لد عاق كافر. وما له في ماله. بقوله سبحانه: {وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ويلك آمن إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقول مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأولين} [17].
{وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ} أي: حين دعواه إلى الآيمان والاستقامة: {أُفٍّ لَّكُمَا} أي: من هذه الدعوة: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي: أبعث من قبري بعد فنائي: {وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} أي: هلكت ولم يرجع أحد منهم: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي: يطلبان الغياث بالله منه. والمراد إنكار قوله. واستعظامه. كأنهما لجأا إلى الله في دفعه. كما يقال: العياذ بالله! أو المعنى: يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق. حتى يرجع عما هو عليه: {ويلك آمن} أي: صدق بوعد الله. وأقرّ أنك مبعوث بعد موتك. و: {وَيْلَكَ} في الأصل معناه الدعاء بالهلاك. فأقيم مقام الحث على فعلٍ أوتركٍ. للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك. فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه. وأخذ ما ينجعه: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: إن وعده تعالى لخلقه. بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب. لمجازاتهم بأعمالهم. حق لا شك فيه: {فَيَقول} أي: مجيبًا لوالديه. ورادًّا عليهما نصيحتهما. وتكذيبًا بوعد الله: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأولين} أي: أباطيلهم التي كتبوها.
{أولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ والإنس إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [18].
{أولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: الإلهي. وهو العذاب: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالأنس} أي: الذين كذبوا رسل الله. وعتوا عن أمره: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} أي: ببيعهم الهدى بالضلال. والباقي بالفاني.
{ولكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وليوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [19].
{ولكُلٍّ} أي: من الفريقين: {دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء: {وليُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي: جزاءها: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: ينقص ثواب. ولا زيادة عقاب.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر. قال لأبويه- وهما أبو بكر وأم رومان. وكانا قد أسلما. وأبى هو أن يسلم. فكانا يأمرانه بالإسلام. فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان. وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات. فأسلم بعد. فحسن إسلامه- فنزلت توبته في هذه الآية: {ولكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا}.
قال الحافظ ابن حجر: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وال بيته. أصح إسنادًا وأولى بالقبول؛ وذلك ما رواه البخاري. والإسماعيلي. والنسائي. وأبويعلى أن مروان كان عاملًا على المدينة. فأراد معاوية أن يستخلف يزيد. فكتب إلى مروان بذلك. فجمع مروان الناس فخطبهم. فذكر يزيد. ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيًا حسنًا. وإن يستخلفه. فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: ما هي إلا هرقلية! فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: هرقلية! إن أبا بكر. والله! ما جعلها في أحد من و لده. ولا في أهل بيته. وما جعلها معاوية إلا كرامة لو لده! فقال مروان: خذوه. فدخل بيت عائشة. فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا سيئًا من القرآن. إلا أن الله أنزل عذري. ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته. ولكن رسول الله لعن أبا مروان. ومروانُ في صلبه.
ومما يؤيده أن: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} هم المخلدون في النار في علم الله تعالى. وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين. وسرواتهم. وحأول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه. ثم يسلم بعد ذلك. ومعلوم أن الإسلام يجبّ ما قبله. وأن معنى الوعيد في الآية إنما هوللمصرّين عليه الذين لم يقلعوا. لكثرة ما ورد في العفوعن التائبين. وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى. وكلها تنعى على من كان مشركًا انئذٍ. ولم يقل أحد بشمو لها لهم بعد إيمانهم. أوأن فيها ما يحط من أقدارهم. ويجعلها مغمزًا لهم. إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب. وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة. وقالةٍ يلوكها الرعاع. وهم الذين يهمه أمرهم. ويرحم الله عبد الرحمن! فقد شفى الغلة. وصدع بالحق. في حين أن لا ظهير له. ولا نُصَيْر- والله أعلم-.
قال ابن قتيبة في (المعارف): أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسق: أبوقحافة. وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر. وابنه محمد بن عبد الرحمن.
وقال أيضًا: قيل: كان عبد الرحمن من أفضل قريش. ويكنى أبا محمد. و له عقب بالمدينة. وليسوا بالكثير. مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبلٍ يقرب من مكة. فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. انتهى.
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس. المسماة بالدحداح. مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر. نسب إليه زورًا. وما أكثر المزَوّرات في المزارات. كما يعلمه من دقّق في الوفيات.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [20].
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} أي: يقال لهم أذهبتم: {طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} عطف تفسير لقوله: {أَذْهَبْتُمْ} أي: فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ} أي: الهوان: {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بغير ما أباح لكم وأذن: {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي: عن طاعته. فأبعدكم عن كرامته. اهـ.

.قال سيد قطب:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}.
هذا هو الآيقاع الأول في مطلع السورة؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتدأولها كلامهم. والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر. وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلوالمنزل من عنده. وكتاب الله المنظور المصنوع بيده. كتاب هذا الكون الذي تراه العيون. وتقرؤه القلوب.
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير. فتنزيل الكتاب {من الله العزيز الحكيم} هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة.
وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}.. وبالتقدير الدقيق: {وأجل مسمى} تتحقق فيه حكمة الله من خلقه. ويتم فيه ما قدره له من غاية.
وكلا الكتابين مفتوح. معروض على الأسماع والأنظار. ينطق بقدرة الله. ويشهد بحكمته. ويشي بتدبيره وتقديره. ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو. وما فيه من إنذار وتبشير..
{والذين كفروا عما أنذروا معرضون}.. وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور!
والكتاب المنزل المتلويقرر أن الله واحد لا يتعدد. وأنه رب كل شيء. بما أنه خالق كل شيء. ومدبر كل شيء. ومقدر كل شيء. وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها؛ فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحداينة الصانع المقدر المدبر. الذي يصنع على علم. ويبدع على معرفة. وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع. فأنى يتخذ الناس الهة من دونه؟ وماذا صنع هؤلاء الالهة وماذا أبدعوا؟ وهذا هو الكون قائمًا معروضًا على الأنظار والقلوب؛ فماذا لهم فيه؟ وأي قسم من أقسامه أنشأوه؟
{قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين}..
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسلو له. صلى الله عليه وسلم. ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح. الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة- إلا مراء ومحالًا- والذي يخاطب الفطرة بمنطقها. بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية. يصعب التغلب عليها ومغالطتها.
{أروني ماذا خلقوا من الأرض}..
و لن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات- سواء كانت حجرًا أم شجرًا أم جنًا أم ملائكة أم غيرها- قد خلقت من الأرض شيئًا. أوخلقت في الأرض شيئًا. إن منطق الفطرة. منطق الواقع. يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل.
{أم لهم شرك في السماوات}..
و لن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها. ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق. والشعور بوحدانيته؛ وتنفض عنه الأنحرافات والترهات.. والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب البشر؛ ومن يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب.
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد. فقد يصل بها هذا الأنحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أوذاك بلا حجة ولا دليل. يأخذ عليها الطريق. فيطالبها الحجة والدليل؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير:
{ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين}.
فإما كتاب من عند الله صادق. وإما بقية من علم مستيقن ثابت. وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الالهة المتعددة. أو يقول بأن لها في الأرض خلقًا أو في السماوات شركًا! وليس هنالك من علم. ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت.
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون. وهي شهادة حاسمة جازمة. ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة. ويعلمهم منهج البحث الصحيح. في آية واحدة قليلة الكلمات. واسعة المدى. قوية الآيقاع. حاسمة الدليل.
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الالهة المدعاة. منددًا بضلالهم في اتخاذها. وهي لا تستجيب لهم. ولا تشعر بدعائهم في الدنيا؛ ثم هي تخاصمهم يوم القيامة. وتنكر دعواهم في عبادتها: