فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كأنه جمل وهم وما بقيت ** إلا النجيزة والألواح والعصب

ونحو قوله: الطويل:
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

هذه القراءة استكراه. وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني: {إلا مسكنهم} على الإفراد الذي هو اسم الجنس. والجمهور على الجمع في اللفظة. ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى: {ثم يخرجكم طفلًا} [غافر: 67].
ثم خاطب تعالى قريشًا على جهة الموعظة بقوله: {ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه} فـ: {ما}. بمعنى الذي. و{إن} نافية وقعت مكان {ما} ليختلف اللفظ. ولا تتصل {ما} بـ: {ما}. لأن الكلام كأنه قال: في الذي ما مكناكم فيه. ومعنى الآية: ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم. ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب. فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم. وقالت فرقة: {إن} شرطية. والجواب محذوف تقديره: في الذي إن مكناكم فيه طغيتم. وهذا تنطع في التأويل.
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك. وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب. و(ما): نافية في قوله: {فما أغنى عنهم} ويقوي ذلك دخول {من} في قوله: {من شيء}.
وقالت فرقة: (ما) في قوله: {فما أغنى عنهم} استفهام بمعنى التقرير. و{من شيء} على هذا تأكيد. وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب.
{وحاق} معناه: وجب و لزم. وهو مستعمل في المكاره. والمعنى جزاء {ما كانوا به يستهزئون}.
{ولقد أَهْلَكْنَا مَا حولكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}.
وقوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم} مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود.
وقوله: {وصرفنا الآيات} يعني لهذه القرى المهلكة.
وقوله: {فلولا نصرهم} الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها. و: {قربانًا} إما أن يكون المفعول الثاني بـ: {اتخذوا} و: {الهة} بدل منه. وإما أن يكون حالًا. و: {الهة} المفعول الثاني. والمفعول الأول هو الضمير العائد على: {الذين} التقدير: اتخذوهم.
وقوله تعالى: {بل ضلوا عنهم} معناه: انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة.
وقوله: {وذلك} الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله: {إفكهم} فقرأ جمهور القراء {إفْكُهم} بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف. فالإشارة بـ: {ذلك} على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها الهة. وذلك هو اتخاذهم إياها. وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: {أفَكهم} بفتح الهمزة. وهي لغة في الإفك. وهما بمعنى الكذب. وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: {أفَكهم} بفتح الهمزة: والفاء على الفعل الماضي. بمعنى صرفهم. وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان. وقرأ أبو عياض أيضًا وعكرمة فيما حتى الثعلبي: {أفّكَهم} بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف. وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف. وقرأ عبد الله بن الزبير: {افَكَهم} بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة. قال الزجاج: معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب: {افِكُهم} بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل. بمعنى: صارفهم.
وحكى الفراء أنه يقرأ: {أفَكُهم} بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف. وهي لغة في الإفك. والإشارة بـ: {ذلك} على هذه القراءة التي ليست مصدرًا يحتمل أن تكون إلى الأصنام.
وقوله: {وما كانوا يفترون}. ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية فلا يحتاج إلى عائد. ويحتمل أن تكون بمعنى الذي. فهناك عائد محذوف تقديره: يفترونه. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
{ويوم يعرض}: أي يعذب بالنار. كما يقال: عرض على السيف. إذا قتل به.
والعرض: المباشرة. كما تقول: عرضت العود على النار: أي باشرت به النار.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض. يريدون عرض الحوض عليها. فقلبوا.
ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى.
و لا ينبغي حمل القرآن على القلب. إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر.
وإذا كان المعنى صحيحًا واضحًا مع عدم القلب. فأي ضرورة ندعوإليه؟ وليس في قولهم: عرضت الناقة على الحوض. ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب. لأن عرض الناقة على الحوض. وعرض الحوض على الناقة. كل منهما صحيح؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض.
وقرأ الجمهور: أذهبتم على الخبر. أي فيقال لهم: أذهبتم. و لذلك حسنت الفاء في قوله: {فاليوم تجزون}.
وقرأ قتادة. ومجاهد. وابن وثاب. وأبو جعفر. والأعرج. وابن كثير: بهمزة بعدها مدة مطولة. وابن عامر. بهمزتين حققهما ابن ذكوان. ولين الثانية هشام. وابن كثير في رواية.
وعن هشام: الفصل بين المحققة والملينة بألف. وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير. فهو خبر في المعنى. فلذلك حسنت الفاء. ولوكان استفهامًا محضًا لم تدخل الفاء.
والطيبات هنا: المستلذات من الماكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء. وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا. وترك التنعم فيها. والأخذ بالتقشف. وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به.
وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ. وعزة نفسه الفاضلة عنها.
أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكبادًا وصلاء وصلائق. ولكن استبقي حسناني؛ فإن الله عز وجل وصف أقوامًا فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم}.
والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب. والصلائق: الخبز الرقاق العريض.
قال ابن عباس: وهذا من باب الزهد. وإلا فالآية نزلت في كفار قريش؛ والمعنى: أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لوامنتم. لكنكم لم تؤمنوا. فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا.
فهذه كناية عن عدم الآيمان. و لذلك نزلت عليه: {فاليوم تجزون عذاب الهون}؛ ولوأريد الظاهر. ولم يكن كناية عن ما ذكرنا. لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب.
وقرىء: الهوان. وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله: {بما كنتم تستكبرون}: أي تترفعون عن الآيمان؛ {وبما كنتم تفسقون}: أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب. وهو الاستكبار على ذنب الجوارح؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب.
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا. معرضين عن الآيمان وما جاء به الرسول. ذكرهم بما جرى للعرب الأولى. وهم قوم عاد. وكانوا أكثر أموالًا وأشد قوة وأعظم جاهًا فيهم. فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم. وضرب الأمثال.
وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه. فقال لرسوله: واذكر لقومك. أهل مكة. هودا عليه السلام. {إذ أنذر قومه} عادًا عذبهم الله {بالأحقاف}.
قال ابن عباس: واد بين عمان ومهرة.
وقال ابن إسحاق: من عمان إلى حضرموت.
وقال ابن زيد: رمال مشرقة بالشحر من اليمن.
وقيل: بين مهرة وعدن.
وقال قتادة: هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.
وقال ابن عباس: هي جبل بالشام.
قال ابن عطية: والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن. و لهم كانت {إرم ذات العماد} وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول. إذ كذبه قومه. كما كذبت عاد هودا عليه السلام.
والجملة من قوله: {وقد خلت النذر}: وهو جمع نذير. {من بين يديه ومن خلفه}. يحتمل أن تكون حالًا من الفاعل في: {النذر من بين يديه}. وهم الرسل الذين تقدموا زمانه. ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه. ويكون على هذا معنى {ومن خلفه}: أي من بعد إنذاره؛ ويحتمل أن يكون اعتراضًا بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا.
والمعنى: وقد أنذر من تقدمه من الرسل. ومن تأخر عنه مثل ذلك. فاذكرهم.
{قالوا أجئتنا}: استفهام تقرير. وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة.
{لتأفكنا}: لتصرفنا. قاله الضحاك؛ أولتزيلنا عن الهتنا بالإفك. وهو الكذب. أي عن عبادة الهتنا. {فأتنا بما تعدنا}: استعجال منهم بحلو ل ما وعدهم به من العذاب.
ألا ترى إلى قوله: {بل هو ما استعجلتم به}؟ {قال إنما العلم عند الله}: أي علم وقت حلو له. وليس تعيين وقته إليّ. وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم.
ولما تحقق عنده وعد الله. وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب. قال: {ولكني أراكم قومًا تجهلون}: أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها. وذلك واقع لا محالة.
وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أيامًا. فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث. فاستبشروا.
والضمير في {رأوه} الظاهر أنه عائد على ما في قوله: {بما تعدنا}. وهو العذاب. وانتصب عارضًا على الحال من المفعول.
وقال ابن عطية. ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم. الذي فسره قوله: {عارضًا}.
وقال الزمخشري: {فلما رأوه}. في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا. وأن يكون مبهمًا. قد وضح أمره بقوله: {عارضًا}. إما تمييز وإما حال. وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى.
وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريًا على ما ذكره النحاة. لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب. نحو: رب رجلًا لقيته. وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين. نحو: نعم رجلًا زيد. وبئس غلامًا عمرو.
وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره. فلا نعلم أحدًا ذهب إليه. وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده. فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميرًا. ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه.
والعارض: المعترض في الجومن السحاب الممطر. ومنه قول الشاعر:
يا من رأى عارضًا أرقت له ** بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى:
يا من رأى عارضًا قد بث أرمقه ** كأنها البرق في حافاتها الشعل

{مستقبل أوديتهم}: هو جمع واد. وأفعلة في جمع فاعل.
الاسم شاذ نحو: ناد وأندية. وجائز وأجوزة.
والجائز: الخشبة الممتدة في أعلى السقف. وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف. فلذلك نعت بهما النكرة.
{بل هو ما استعجلتم}: أي قال لهم هو ذلك. أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به. أضرب عن قولهم: {عارض ممطرنا}. وأخبر بأن العذاب فاجأهم. ثم قال: {ريح}: أي هي ريح بدل من هو.
وقرأ: ما استعجلتم. بضم التاء وكسر الجيم. وتقدمت قصص في الريح. فأغنى عن ذكرها هنا.
{تدمر}: أي تهلك. والدمار: الهلاك. وتقدم ذكره.
وقرأ زيد بن عليّ: تدمر. بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم.
وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل. أي يهلك كل شيء. وكل شيء عام مخصوص. أي من نفوسهم وأموالهم. أو من أمرت بتدميره.
وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى. لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده.
وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى.
وقرأ الجمهور: لا ترى بتاء الخطاب. إلا مساكنهم. بالنصب؛ وعبد الله. ومجاهد. وزيد بن علي. وقتادة. وأبو حيوة. وطلحة. وعيسى. والحسن. وعمرو بن ميمون: بخلاف عنهما؛ وعاصم. وحمزة: لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع.
وأبو رجاء. ومالك بن دينار: بخلاف عنهما.
والجحدري. والأعمش. وابن أبي إسحاق. والسلمي: بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع. وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر. وبعضهم يجيزه في الكلام.
وقال ذوالرمة:
كأنه جمل همّ وما بقيت ** إلا النخيرة والألواح والعصب

وقال آخر:
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ عيسى الهمداني: لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد.
وروي هذا عن الأعمش. ونصر بن عاصم.
وقرىء: لا ترى. بتاء مفتوحة للخطاب. إلا مسكنهم بالتوحيد مفردًا منصوبًا. واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيرًا لشأنهم. وأنهم لما هلكوا في وقت واحد. فكأنهم كانوا في مسكن واحد.
ولما أخبر بهلاك قوم عاد. خاطب قريشًا على سبيل الموعظة فقال: {ولقد مكانهم}. وإن نافية. أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال؛ ولم يكن النفي بلفظ ما. كراهة لتكرير اللفظ. وإن اختلف المعنى.
وقيل: إن شرطية محذوفة الجواب. والتقدير: إن مكناكما فيه طغيتم.
وقيل: إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهًا بما النافية وما التوقيتية. فهي في الآية كهي في قوله:
يرجى المرء ما إن لا يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم. فيه. وكونها نافية هو الوجه. لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله: {كانوا أكثر منهم وأشد قوة واثارًا} وقوله: {هم أحسن أثاثًا ورئيًا} وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار.
ثم عدد نعمه عليهم. وأنها لم تغن عنهم شيئًا. حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل.
وقيل: ما استفهام بمعنى التقرير. وهو بعيد كقوله: {من شيء}. إذ يصير التقدير: أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء. فتكون من زيدت في الموجب. وهولا يجوز على الصحيح. والعامل في إذ أغنى.