فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ الجمهور {لا ترى} بالفوقية على الخطاب. ونصب {مساكنهم}.
وقرأ حمزة. وعاصم بالتحتية مضمومة مبنيًا للمفعول. ورفع {مساكنهم}.
قال سيبويه: معناه لا يرى أشخاصهم إلاّ مساكنهم. واختار أبو عبيد. وأبو حاتم القراءة الثانية.
قال الكسائي. والزجاج: معناها لا يرى شيء إلاّ مساكنهم. فهي محمولة على المعنى كما تقول: ما قام إلاّ هند. والمعنى: ما قام أحد إلاّ هند. وفي الكلام حذف. والتقدير: فجاءتهم الريح فدمرتهم. فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء. وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف.
{ولقد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} قال المبرد: ما في قوله: {فيما} بمنزلة {الذي}. و (إن) بمنزلة (ما). يعني: النافية. وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطو ل العمر وقوّة الأبدان. وقيل: (إن) زائدة. وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه. وبه قال القتيبي. ومثله قول الشاعر:
فما إن طبنا جبن ولكن ** منايانا ودو لة آخرينا

والأول أولى؛ لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش. وأمثالهم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وأبصارا وَأَفْئِدَةً} أي: إنهم أعرضوا عن قبو ل الحجة. والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواسّ التي بها تدرك الأدلة. و لهذا قال: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أبصارهم ولا أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء} أي: فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد. وصحة الوعد والوعيد. وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع. وجمع البصر ما يغني عن الإعادة. و (من) في {مِن شَىْء} زائدة. والتقدير: فما أغنى عنهم شيء من الإِغناء. ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع {إذ كانوا يجحدون بآيات الله} الظرف متعلق بـ: {أغنى}. وفيها معنى التعليل أي: لأنهم كانوا يجحدون {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}.
{ولقد أَهْلَكْنَا مَا حولكُمْ مّنَ القرى} الخطاب لأهل مكة. والمراد بما حولهم من القرى: قرى ثمود. وقرى لوط. ونحوهما مما كان مجأو را لبلاد الحجاز. وكانت أخبارهم متواترة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: بينا الحجج ونوّعناها؛ لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا.
ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر. فقال: {فَلولا نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَانًا ءالِهَةَ} أي: فهلا نصرهم الهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم.
قال الكسائي: القربان: كل ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة. والجمع قرأبين. كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي {اتخذوا} ضمير راجع إلى الموصول. والثاني الهة. و{قربانًا} حال. ولا يصح أن يكون قربانًا مفعولا ثانيًا. و{الهةً} بدلًا منه لفساد المعنى. وقيل: يصح ذلك ولا يفسد المعنى. ورجحه ابن عطية. وأبو البقاء. وأبو حيان. وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرهم. ولم يحضروا عند الحاجة إليهم. وقيل: بل هلكوا. وقيل: الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار. أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها. والأول أولى.
والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى ضلال الهتهم.
والمعنى: وذلك الضلال والضياع أثر {إِفْكِهِمْ} الذي هو اتخاذهم إياها الهةً وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله.
قرأ الجمهور {إفكهم} بكسر الهمزة. وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكًا. أي: كذبهم.
وقرأ ابن عباس. وابن الزبير. ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد.
وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء. أي: صيرهم افكين.
قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ. وكسر الفاء بمعنى: صارفهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} معطوف على {إفكهم} أي: وأثر افترائهم. أوأثر الذي كانوا يفترونه.
والمعنى: وذلك إفكهم أي: كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله. وتشفع لهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون أنها الهة.
وقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأحقاف: جبل بالشام.
وأخرج البخاريّ. ومسلم. وغيرهما عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته. إنما كان يتبسم. وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه. قلت: يا رسول الله. الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر.
وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية. قال: «يا عائشة: وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب. فقالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}» وأخرج مسلم. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللَّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها. وخير ما أرسلت به. وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به». فإذا تخيلت السماء تغير لونه. وخرج ودخل وأقبل وأدبر. فإذا مطرت سرّي عنه. فسألته فقال: «لا أدري. لعله كما قال قوم عاد: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}» وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قالوا: غيم فيه مطر. فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجًا من رجالهم. ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم. وغلقوا أبوابهم. فجاءت الريح ففتحت أبوابهم. ومالت عليهم بالرمل. فكانوا تحت الرمل سبع ليال. وثمانية أيام حسومًا لهم أنين. ثم أمر الله الريح. فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر. فهو قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم}.
وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير. والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلاّ قدر خاتمي هذا.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه في قوله: {ولقد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} يقول: لم نمكنكم.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أيضًا في الآية قال: عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة. وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالًا وأطو ل أعمارًا. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف}.
أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ولكنه بين في آيات أخرى. أنه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كقوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هودا} [الأعراف: 65 وهود 11- 50] في سورة الأعراف وسورة هود وغير ذلك من المواضع.
قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله. وأمرهم بعبادته تعالى وحده. وأنه خوفهم من عذاب الله. إن تمادوا في شركهم به.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر.
أما الأول منهما ففي قوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هودا قال يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله} [الأعراف: 65 وهو: 50] في سورة الأعراف وسورة هود ونحوذلك من الآيات.
وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في الشعراء في قوله تعالى: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 132- 135] وهو يوم القيامة.
{قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ الِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)}.
معنى قوله تعالى: {لِتَأْفِكَنَا عَنْ الِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}. أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين.
أحدهما: إنكار عاد على هود أنه جاءهم. ليتركوا عبادة الأوثان. ويعبدوا الله وحده.
والثاني: أنهم قالوا له: ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجلة لنا إن كنت صادقًا فيما تقول. عنادًا منهم وعتوا.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في الأعراف {قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آباؤنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70].
{قال إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ولكني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)}.
قوله تعالى: {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِه}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه. إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم. لأنه ليس عليه إلا البلاغ. وهذا المعنى جاء مذكورًا في غير هذا الموضع. كقوله تعالى في الأعراف: {قال يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ولكني رسول مِّن رَّبِّ العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67- 68] وقوله تعالى في سورة هود {فَإِن تَولواْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57] الآية.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16].
قوله تعالى: {ولقد مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ}.
لفظه {إن} في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه. يدل استقرأء القرآن. على أن واحدًا منها هو الحق. دون الاثنين الآخرين.
قال بعض العلماء: إن شرطية وجزاء الشرط محذوف. والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم.
وقال بعضهم: إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لما الموصولة على ما النافية لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم.
كقول تقيلة بنت الحرث والنضر العبدرية:
أبلغ بها ميتًا بأن تحية ** ما إن نزل بها النجائب تخفق

وقول دريد بن الصمة في الخنساء:
ما إن رأيت ولا سمعت به ** كاليوم طالى أينق جرب

فإن زائدة بعد ما النافية في البيتين وهو كثير. وقد حملوا على ذلك ما الموصولة فقالوا: تزاد بعدها إن كاية الأحقاف هذه. وأنشد لذلك الأخفش:
يرجى المرء ما إن لا يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب

أي يرجى المرء الشيء الذي لا يراه. وإن زائدة. وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما.
لأن الأول منها فيه حذف وتقدير.
والثاني منهما فيه زيادة كلمة.
وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
أما الوجه الثالث الذي هو الصواب إن شاء الله. فهو أن لفظة إن نافية بعد ما الموصولة أي وقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام. وكثرة الأموال والأولاد. والعدد.
وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه. فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشًا وقوة. وأكثر منهم عددًا. وأموالًا. وأولادًا. فلما كذبوا الرسل. أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه. كما أهلك الأمم التي هى أقوى منهم. كقوله تعالى في المؤمن {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الأرض فَمَا أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [غافر: 82].
وقوله فيها أيضًا: {أَولم يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثارًا فِي الأرض فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} [غافر: 21] الآية.
وقوله تعالى في الروم: {أَولم يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وعمرو هَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا ومضى مَثَلُ الأولين} [الزخرف: 8].
{فَلولا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا الِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الجاثية في الكلام على قوله تعالى: {ولاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئًا ولا مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أوليَاءَ ولهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 10]. اهـ.

.تفسير الآيات (29- 32):

قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وليس لَهُ مِنْ دُونِهِ أوليَاءُ أولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما ذكر من البعد من الآيمان مع تصريف العظات والعبر والآيات يكاد أن يؤنس السامع من إيمان هؤلاء المدعوين. قربه دلالة على عزته وحكمته بالتذكير بالإيمان من هم أعلى منهم عتوًا وأشد نفرة وأبعد إجابة وأخفى شخصًا. فقال جوابًا عما وقع له- صلى الله عليه وسلم- في عرض نفسه الشريفة على القبائل وإبعادهم عنه لاسيما أهل الطائف. دالًا على تمام القدرة بشارة للمنزل عليه- صلى الله عليه وسلم- وتوبيخًا لما تأخر عن إجابته من قومه عاطفًا على ما تقديره: اذكر هذه الأخبار: {وإذ} أي واذكر حين {صرفنا إليك} أي وجهنا توجيهًا خالصًا حسنًا متقنًا فيه ميل إليك وإقبال عليك. وإعراض عن غيرك. بوادي نخلة عند انصرافك من الطائف حين عرضت نفسك الشريفة عليهم بعد موت النصيرين فردوك ردًا تكاد تنشق منه المرائر. وتسل من تذكاره النواظر.
ولما كان استعطاف من جبل على النفرة وإظهار من بني على الاجتنان أعظم في النعمة. عبر بما يدل على ذلك فقال: {نفرًا} وهو اسم يطلق على ما دون العشرة. وهو المراد هنا. ويطلق على الناس كلهم. وحسن التعبير به أن هؤلاء لما خصوا بشرف السبق وحسن المتابعة كانوا كأنهم هم النفر لا غيرهم {من الجن} من أهل نصيبين من الناحية التي منها عداس الذي جبرناك به في الطائف بما شهد به لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة أنك خير أهل الأرض مع أنه ليس لهؤلاء النفر من جبلاتهم إلا النفرة والاجتنان وهو الاختفاء والستر فجعلناهم ألفين لك ظاهرين عندك لتبلغهم ما أرسلناك به فإنا أرسلناك إلى جميع الخلائق. وهذا جبر لك وبشارة بإيمان النافرين من الإنس كما أيدناك منهم بعد نفرة أهل الطائف بعداس. ثم وصفهم بقوله: {يستمعون القرآن} أي يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير. الفارق بين كل ملبس وأنت في صلاة الفجر في نخلة تصلي بأصحابك. ودل على قرب زمن الصرف من زمن الحضور بتعبيره سبحانه بالفاء في قوله تعالى مفصلًا لحالهم: {فلما حضروه} أي صاروا بحيث يسمعونه {قالوا} أي قال بعضهم ورضي الآخرون: {أنصتوا} أي اسكتوا وميلوا بكلياتكم واستمعوا حفظًا للأدب على بساط الخدمة. وفيه تأدب مع العلم في تعلمه وأيضًا مع معلمه. قال القشيري: فأهل الحضور صفتهم الذبو ل والسكون والهيبة والوقار. والثوران والأنزعاج يدل على غيبة أوقلة تيفظ ونقصان من الاطلاع. ودل على أن ما استمعوه كان يسيرًا وزمنه قصيرًا. وعلى تفصيل حالهم بعد انقضائه بالفاء في قوله تعالى: {فلما} أي فأنصتوا فحين {قضي} أي حصل الفراغ من قراءته الدالة على عظمته من أيّ قارئ كان {ولوا} أي أوقعوا التو لية- أي القرب- بتوجيه الوجوه والهمم والعزائم {إلى قومهم} الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه. ودل على حسن تقبلهم لما سمعوه ورسوخهم في اعتقاده بقوله تعالى: {منذرين} أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله- صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس- رضى الله عنهما: جعلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسلًا إلى قومهم.