فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان كأنه قيل: ما قالوا لهم في إنذارهم؟ قيل: {قالوا} أي لقومهم حين أقبلوا عليهم: {يا قومنا} مترققين لهم ومشفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم يهمهم ما يهمهم ويكربهم ما يكربهم كما قيل:
وإن أخاك الحق من كان معك ** ومن يضر نفسه لينفعك

ولما كانوا- بنزول ما في أسفار الأنبياء من بني إسرائيل والزبور والأنجيل خالية من الأحكام والحدود إلا يسيرًا من ذلك في الأنجيل- قاطعين أوكالقاطعين بأنه لا ينزل كتاب يناظر التوراة في الأحكام والحدود وغيرها. فكان قومهم ربما توقفوا في الإخبار بإنزال ما هو أشرف من ذلك. أكدوا قولهم: {إنا سمعنا} أي بيننا وبين القارئ واسطة. وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه. مغن عن جميع الكتب غير هذا. وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع فقالوا على سبيل التبيين لما سمعوا: {كتابًا} أي ذكرًا جامعًا. لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل {أنزل} أي ممن لا منزل في الحقيقة غيره. وهو مالك الملك وملك الملوك لأن عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز. وعلموا قطعًا بعربيته أنه عربي وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار. وبأنه مباين لجميع ذلك أنه قريب العهد بالنزول من محل العظمة. فقالوا مثبتين للجار: {من بعد موسى} عليه الصلاة والسلام. فلم يعتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة من الأنجيل وما قبله. لأنه لا يساوي التوراة في الجمع. ولا يعشر هذا الكتاب في الأحكام والحكم واللطائف والمواعظ مع ما زاد به من الإعجاز وغيره.
ولما أخبروا بأنه منزل. أتبعوه ما يشهد له بالصحة فقالوا: {مصدقًا لم بين يديه} أي من جميع كتب بني إسرائيل الأنجيل وما قبله؛ ثم بينوا تصديقه بقولهم: {يهدي إلى الحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به. الكامل في جميع ذلك {وإلى طريق} موصل إلى المقصود الأعظم وهو الآيمان بمنزله {مستقيم} فهو يوصل بغاية ما يمكن من السرعة. لا يمكن أن يكون فيه عوج. فيقدر السالك فيه على أن يختصر طريقًا يكون وترًا لما تقوس منه.
ولما أخبروهم بالكتاب وبينوا أنه من عند الله وأنه أقرب موصل إليه. فكان قومهم جديرين بأن يقولوا: فما الذي ينبغي أن نفعل؟ أجابوهم بقوله: {يا قومنا} الذين لهم قوة العلم والعمل {أجيبوا داعي الله} أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال. فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق. فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره.
ولما كنا المجيب قد يجيب في شيء دون شيء كما كان أبوطالب عم النبي- صلى الله عليه وسلم. عطفوا في خطابهم لهم في الدعوة أن قالوا: {وآمنوا به} أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر. فإن المفعول معه مفعول مع من أرسله وهو الله الذي جلت قدرته وامنوه من كل تكذيب. أو الضمير للمضاف إليه وهو الله بدليل قولهم: {يغفر لكم}: فإنه يستر ويسامح {من ذنوبكم} أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام وأدخلوا (من) إعلامًا بأن مظالم العباد لا تغفر إلا بإرضاء أهلها وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها مما أشار إيه قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوعن كثير} [الشورى: 30] {ويجركم} أي يمنعكم (إذا أجبتم) منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه {من عذاب أليم} واقتصارهم على المغفرة تذكير بذنوبهم لأن مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله ي هذه السورة {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132] في إثبات الثواب. ونقله أبو حيان عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.
ولما فرغوا من التعريف بالحق والدلالة عليه والدعاء إليه والإنذار بالرفق بما أفهم كلامهم من أنهم إن لم يجيبوا انتقم منهم بالعذاب الأليم. أتبعوه ما هو أغلظ إنذارًا منه فقالوا: {ومن لا يجب} أي لا يتجدد منه أن يجيب {داعي الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء الذي لا كفوء له ولا طاقة لأحد بسخطه فعم بدعوة هذا الرسول- صلى الله عليه وسلم- جميع الخلق.
ولما دل الكتاب والسنة كما قدمته في سورتي الأنعام والفرقان على عموم الرسالة. وكان التارك لإجابة من عمت رسالته عاصيًا مستحقًا للعذاب. عبر عن عذابه. بما دل على تحتمه فقال تعالى: {فليس بمعجز} أي لما يقضي به عليه {في الأرض} فإنه آية سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به {وليس له من دونه} أي الله الذي لا يجير إلا هو {أولياء} يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء والمناصبة لأجله.
ولما انتفى عنه الخلاص من كل وجه. وكان ذلك لا يختلف سواء كان العاصي واحدًا أوأكثر. أنتج قوله سبحانه وتعالى معبرًا بالجمع لأنه أدل على القدرة ودلالة على أن العصاة كثيرة لملاءمة المعاصي لأكثر الطبائع: {أولئك} أي البعيدون من كل خير {في ضلال مبين} أي ظاهر في نفسه أنه ضلال. مظهر لكل أحد قبح إحاطتهم به. قال القشيري: ويقال: الإجابة على ضربين: إجابة الله. وإجابة الداعي. فإجابة الداعي بشهود الواسطة وهو الرسول- صلى الله عليه وسلم. وإجابة الله بالجهر إذا بلغت المدعورسالته- صلى الله عليه وسلم- على لسان السفير. وبالسر إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب. فمستجيب بنفسه. ومستجيب بقلبه. ومستجيب بروحه. ومستجيب بسره. ومن توقف عن دعاء الداعي إياه هجر فما كان يخاطب به. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من امن وفيهم من كفر. بيّن أيضًا أن الجن فيهم من امن وفيهم من كفر. وأن مؤمنهم معرض للثواب. وكافرهم معرض للعقاب. وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول: قال سعيد بن جبير: كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا: هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب. وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام. فلما انصرف إلى مكة. وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر. فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين. لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم. فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني: أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن. فصرف الله إليه نفرًا من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم.
ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول: نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال: إنهم كانوا يهودًا. لأن في الجن مللًا كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام. وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون. سئل ابن عباس: هل للجن ثواب؟ فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب. يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني: قال صاحب (الكشاف): النفر دون العشرة ويجمع على أنفار. ثم روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس: أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين. فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا إلى قومهم. وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة. وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع الرابع: روى القاضي في (تفسيره) عن أنس قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «مشية جني ونغمته» فقال أجل. فقال «من أي الجن أنت؟» فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس. فقال «لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك؟» فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها. وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الاكام. وذكر كثيرًا مما مرّ به. وذكر في جملته أن قال: قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمدًا فأقرئه مني السلام. وقد بلغت سلامه وآمنت بك. فقال عليه السلام. «وعلى عيسى السلام. وعليك يا هامة ما حاجتك؟» فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة. وعيسى علمني الأنجيل. فعلمني القرآن. فعلمه عشر سور. وقبض صلى الله عليه وسلم ولم ينعه. قال عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حيًا واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن.
المسألة الثانية:
اختلفوا في تفسير قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الجن} فقال بعضهم: لما لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن عليهم. فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن. فلهذا السبب قال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الجن}.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} الضمير للقرآن أو لرسول الله {قالواْ} أي قال بعضهم لبعض {أَنصِتُواْ} أي اسكتوا مستمعين. يقال أنصت لكذا واستنصت له. فلما فرغ من القراءة {ولواْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} ينذرونهم. وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم. لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا. فعنده {قالواْ يا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} ووصفوه بوصفين الأول: كونه {مُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقًا لكتب الأنبياء. والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني: قوله: {يَهْدِي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة. والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها. يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك. سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أولم ترد. فإن قالوا كيف قالوا {مِن بَعْدِ موسى}؟ قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى. ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا {ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه؟ والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف.
واعلم أن قوله: {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن كما كان مبعوثًا إلى الإنس قال مقاتل. ولم يبعث الله نبيًا إلى الإنس والجن قبله.
المسألة الثانية:
قوله: {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به. فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الآيمان على التعيين. لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها. وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام. ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الآيمان وهي قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال بعضهم كلمة {مِنْ} هاهنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذنوبكم. وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة {مِنْ} هاهنا لابتداء الغاية. فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب. ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار. ثم يقال لهم كونوا ترابًا مثل البهائم. واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك. وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة. قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن. والفرق بين البابين بعيد جدًّا.
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والآيمان به حذرهم من تلك الإجابة فقال: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض} أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق. ونظيره قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض ولن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12] ولا نجد له أيضًا وليا ولا نصيرًا. ولا دافعًا من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجن}.
هذا توبيخ لمشركي قريش؛ أي إن الجنّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر.
ومعنى: {صَرَفْنَا} وجهنا إليك وبعثنا.
وذلك أنهم صُرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشُّهُب على ما يأتي ولم يكونوا بعد عيسى قد صُرِفوا عنه إلا عند مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبوطالب خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثَقيف النصرة فقصد عبْدَيالِيل ومسعودًا وحبيبًا وهم إخوة بنوعمرو بن عمير وعندهم امرأة من قريش من بني جُمَح؛ فدعاهم إلى الآيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدًا؛ إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرًا من أن أردّ عليك الكلام. وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك.
ثم أغرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبُّونه ويضحكون به. حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة.
فقال لِلْجُمَحِيّة: «ماذا لقِينا من أحمائك»؟ ثم قال: «اللهم إني أشكوإليك ضَعْف قوّتي وقِلّة حِيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين. وأنت ربي؛ لِمن تَكِلُني! إلى عبد يَتَجَهَّمُني. أو الى عدوملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك. أو يحلّ عليّ سخطك. لك العُتْبَى حتى ترضى. ولا حول ولا قوّة إلا بك».
فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصرانيّ يقال له عدّاس: خذ قِطْفًا من العنب وضعْه في هذا الطبق ثم ضعْه بين يدي هذا الرجل؛ فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «باسم الله» ثم أكل؛ فنظر عدّاس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مِن أيّ البلاد أنت يا عدّاس وما دينك»؟ قال: أنا نصراني من أهل نِينَوَى.